في دلالة استشهاد أفراد من الأمن الفلسطيني
مساء الأحد، 14 فبراير/شباط الجاري، فتح عمر محمد عمرو من الكتيبة الأولى في قوات الأمن الوطني الفلسطينية النار مع رفيقٍ له من قريته القبية، على قوة إسرائيليةٍ ترابط في منطقة باب العامود في القدس المحتلة، وبعد تبادل لإطلاق نيران الأسلحة الرشاشة في وسط القدس، استشهد عمر وصديقه منصور شوامره.
لم يكن هذا الحادث الأول من نوعه، فقد استشهد مازن عربية، الضابط في جهاز المخابرات الفلسطيني، بعد محاولته إطلاق النار على إحدى نقاط التفتيش، أما أمجد السكري فهو رقيب في وحدة حماية الشخصيات المهمة، وقد ترجّل من سيارته الرسمية، وأطلق النار من مسدسه على الجنود الصهاينة على حاجز بيت إيل بالقرب من رام الله، وهو الحاجز المخصص فقط لعبور الوفود الرسمية والشخصيات المهمة التي تحمل بطاقات خاصة، تصدرها سلطات الاحتلال لكبار موظفي السلطة الفلسطينية، في تمييز واضح لهم عن باقي المواطنين. وخلال هذه الفترة، أعلنت السلطات الصهيونية عن اكتشاف خليةٍ مسلحةٍ، قامت بعدة عمليات إطلاق نار، ويتزعمها ضابط في أحد أجهزة الأمن الفلسطينية، كما شهدت مدن الضفة أكثر من حادثةٍ، تصدت فيها وحدات من الأمن الفلسطيني لقوات إسرائيلية، كانت تطارد المتظاهرين، في حين أن السائد هو انسحاب قوات الأمن الفلسطينية، والتزامها مقرّاتها، عند تقدم القوات الإسرائيلية، بما في ذلك انسحابها من أمام مستشفياتٍ فلسطينيةٍ، لجأ إليها بعض الجرحى عند تقدم القوات الإسرائيلية لاعتقالهم من على أسرّتهم.
تجدر الإشارة إلى أن هذا النمط من العمليات التي ينفذها أفراد من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ينسجم مع النهج العام المتبع في الانتفاضة، من حيث عدم وجود خيط يربط بينها على المستوى التنظيمي، بحيث يصدق وصف أبطالها، شأنهم شأن منفذي عمليات الطعن والدهس بأنهم ذئاب منفردة، ولا يجمع بينهم سوى إرادتهم بالتصدي للاحتلال، وإيمانهم بأنّ طريق المفاوضات فشلت فشلاً ذريعاً، وأنّ الحديد لا يفله إلّا الحديد.
قال أصدقاء أمجد عنه إنه كان ناشطاً في صفوف حركة فتح في قريته، قبل أن يلتحق بالأمن الوطني، وقد اقتبس قول محمود درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، لكنّه كتب على صفحته، في وسائل التواصل الاجتماعي، أنّه في ظل الاحتلال لم يعد هنالك ما يستحق الحياة، مؤكدًا إيمانه بحتمية النصر المقبل.
قد تثير تلك العمليات السابقة، وما سيليها حتماً من عمليات مشابهة لها، وربما أكبر منها، في
"أبناء المؤسسة الأمنية الفلسطينية جزء من أبناء الشعب الفلسطيني"
الأيام المقبلة، مخاوف سلطات الاحتلال وتوجسها من عدم القدرة على السيطرة على الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تم إعدادها سابقاً في ظل إشراف الجنرال الأميركي، جون دايتون، ووفق منظومة التنسيق الأمني. وقد تلجأ للضغط على السلطة الفلسطينية، من أجل فرض مزيد من قواعد الضبط والربط المتعلقة باستخدام السلاح وحمل الذخيرة، وقد تجد نفسها مضطرة مع تطور الانتفاضة إلى محاولة تجريد هذه الأجهزة الأمنية من أسلحتها، أو الحد منها، وهو إجراء لجأت إليه في الانتفاضة الثانية، عندما قصفت مقرات الأجهزة الأمنية الفلسطينية واقتحمتها. لكن، ثمة ما يميز المرحلة السابقة عن المرحلة الحالية، وهو وجود تشجيع، وربما قرار، من الشهيد ياسر عرفات للانخراط في فعاليات الانتفاضة، وهو حتماً ما نفتقده اليوم، بل ونجد عكسه من إصرار على الاستمرار في التنسيق الأمني، وتواصل للاجتماعات واللقاءات بين الطرفين، كان جديدها في فندق الملك داود في القدس المحتلة، بين وفد إسرائيلي برئاسة الجنرال يوآف مردخاي مسؤول الارتباط في جيش الاحتلال مع السلطة وأجهزتها، ووفد فلسطيني ضم مسؤولي الأجهزة الأمنية. وقد أكّد الطرف الفلسطيني، في اللقاء، أهمية استمرار التنسيق الأمني، وشرح الخطوات التي اتخذها للسيطرة على الانتفاضة، وإجهاض عملياتها، ومنع الشبان من الوصول إلى مناطق الاحتكاك. الأخطر هو تأكيد الوفد أن الرئيس محمود عباس أوقف خطواتٍ مقررة على صعيد التحرك الدولي، بما فيها التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية، على حد زعم موقع واللا الصهيوني، وكأنّه يحاول استرضاء الجانب الإسرائيلي، وحمله على عدم اقتحام مناطق (أ) تجنبًا لإحراج السلطة، وهو الأمر الذي وعد الجنرال الإسرائيلي بنقله إلى قيادته، من دون أن يعطي وعدًا بشأنه، على ما ذكر موقع واللا الصهيوني الذي نشر الخبر.
اللافت في الموضوع أن ثمّة من يحاول تجيير هذه العمليات الفردية، بحيث تتم الإشادة بالأجهزة الأمنية عبر تمجيد بطولات بعض من أفرادها، تماماً كما هو الحال عند إشادته بشهدائها العظام، مثل الشهيد أبو جندل، قائد معركة مخيم جنين خلال الانتفاضة الثانية، معتبراً أنّ هؤلاء هم أبناء المؤسسة الأمنية، متناسياً أنّه لا علاقة لهذه المؤسسة أبداً بعملياتهم وبطولاتهم، بل إنّ سياستها المعلنة على النقيض تماماً من توجهاتهم، ولو علمت بنياتهم، لكان مصيرهم السجن والاعتقال، وهو الحال نفسه عندما يتم التغنّي ببطولات أبناء الفصائل وشهدائها في مرحلة الكفاح المسلح، ليس بهدف تمجيدهم وتخليد ذكراهم، والاستفادة من تجاربهم النضالية (وهو هدف ينبغي أن يبقى ماثلًا أمام الأجيال المتلاحقة)، وإنما بغرض تبرير الحاضر عبر اللجوء إلى الماضي، على ما بينهما من قطيعة كبرى.
أبناء المؤسسة الأمنية الفلسطينية هم جزء من أبناء الشعب العربي الفلسطيني، وهم قطعاً ليسوا مسؤولين عن سياساتها، بل لعلّ وجودهم فيها يمنحهم إطلالة أكبر على حقيقة ما يجري، إذ يشاهدون الممارسات العدائية الصهيونية اليومية تجاه أبناء شعبهم، من دون أن يكون باستطاعتهم الرد عليها، وهذا يزيد من مقدار الغضب الداخلي الذي يعتمر صدورهم، فلا عجب أن نرى، في المستقبل، تكرارًا لمثل هذه العمليات، وقد تتطور مع تطور الانتفاضة إلى حد رد وحدات كاملة على جرائم العدو، أو الدفاع عن المناطق التي يرابطون فيها في وجه جيش الاحتلال واعتداءات المستوطنين، حيث تزداد، في اليوم، القناعة بأن مواجهة الاحتلال هي الخيار الوحيد المتبقي.
وسوم: العدد 656