انفاس القرية 1
لقيمات حبوبة النعيمة
( حي الجافلاب ) أو ( فريق الجافلاب ) عبارة عن جزيرة صغيرة محافظة و قائمة بذاتها تقع في الجزء الشمالي للكلاكلة صنقعت و ( الجافلاب ) ينتسبون الى حبوبتهم ( الجافلة ) و يقال عنها أنها كانت إمرأة صعبة المراس و فارسة ولها موآقف جليلة و مشهودة في تأريخ قبيلة الكلاكلات و بإذن الله سوف نأتي لذكرها لاحقا بالتفصيل
و على مر الأزمان أشتهر أهلنا ( الجافلاب ) بخصوصيتهم و تقاليدهم و إرثهم الذي توارثوه أب عن جد و حتى زمن قريب كانوا جزيرة معزولة و محصنة لا يسمحون لاي غريب باختراقهم و حتى يحافظوا على هويتهم فإنهم يتزوجون من بعضهم البعض و هذا عرف بينهم متفقون عليه بالإجماع و هذا ما أوقع أخونا المرحوم ( عمر البلولة ) في المحظور عندما كان سكرتيرا لجمعية الكلاكلة صنقعت الخيرية و في ذلك الوقت كانت توزع المواد الإستهلاكية بالتموين و خاصة سلعة السكر و كان نصيب الجمعية الخيرية جوال سكر واحدا يوزع على الأعضاء حسب حجم الأسرة فيأتي اليه شاب من الجافلاب لاستلام حصة أهله فيسأله عمر عن إسمه فيقول حمد السراج حمد فيعطيه و يأتي آخر و يسأله عن إسمه فيقول السراج حمد السراج فيعطيه و يأتي آخر بشكل مختلف و لكن بنفس الإسم فيعطيه وهكذا حتى إكتشف أن نصف جوال السكر قد نفذ و الصفوف ما زالت طويلة و يلعن حظه العاثر الذي أوقعه في هذه المصيبة و تبدا الهمهمة وسط الصفوف بأن أعضاء الجمعية باعوا السكر وكان هذا يؤلم فقيدنا العزيز عمر البلولة عفيف النفس و اللسان و يكتشف الخدعة في تشابه الأسماء و الأشكال في أسر أهلنا الجافلاب فيلتفت اليهم و يقول لهم قولته الشهيرة ( الله لا تريحكم إعرفوكم كيفن يا الزي الصينين )
و لقد عاصرت بحكم سني أبوات الجافلاب الأربعة الكبار ( أولاد حمد الأطرش ) وهم بالترتيب السراج و نصر و أمحمد و أيوب و هو أصغرهم وكان لكل منهم شخصيته المتفردة و كان ما يميزهم جميعا الفطنة و الدهاء في حل المشاكل و كانت لهم جلسة فريدة أمام ساحة بيوتهم يفترشون فيها الأرض على برش كبير منذ العصر الباكر و حتى العشاء يتسامرون و يحلون مشاكلهم و يكرمون الضيف العابر لانهم كانوا عرب حقيقين أهل كرم و جود
و الضلع الآخر المكمل لابواتنا الجافلاب هم ( أولاد الصديق ) و كان للصديق ولد وأحد هو جدنا ( المهل ود الصديق ) ابو و الدنا أطال الله في عمره ( الصديق المهل ) أما بناته فهن أ ربعة ( رابعة و العاجبة و والنعيمة و الشباك ) أما أشهرهن فهي المرحومة حبوبتنا ( رابعة بنت الصديق ) فكانت إمرأة من حديد قوية الشخصية و صاحبة كريزمة خاصة حرمها الله نعمة الأبناء و لكن عوضها حب الناس و ( موهبة الطبخ ) و كانت تلقب ( بطباخة القرية ) و لا يتم اي فرح بدونها و هي التي تعد الطعام لكل المناسبات بمستوي عالي و بنكهة و مذاق لا يقاوم كما أنها كانت إمرأة نظيفة و مرتبة وجادة تشتغل باتوكيت و لا تحب ( المسخرة ) أثناء أدائها لعملها كان لها صوتا غليظا مهابا يرتعش منه الرجال قبل النساء و تختار تيمها الذي يساعدها من النساء و الشابات بعناية فائقة لا مكان فيه لضعيفة الشخصية و الويل ثم الويل لعضوات تيمها إن أخطأت أحدهن أو قصرت في أداء المهمة المؤكلة لها لأنها لا ترحم و لا تجامل و لكن بعد أن تنهي مهمتها بنجاح تتحول الى إنسانة أخرى و شخصية وديعة و مداعبة و صاحبة مقالب و نكتة يلتف حولها الرجال و الشباب و النساء و الشابات ليستمتعون بقصصها و محاكاتها للرجال
أما صاحبة المقال حبوبتنا المرحومة ( النعيمة بنت الصديق ) فكانت إمراة بسيطة و مسالمة لم يرزقها الله أولاد و لم يكن لها مصدر رزق لذلك كانت تعتمد في معيشتها على نفسها فامتهنت مهنة عمل ( اللقيمات ) ( الزلابية ) و أشتهرت بها و بجودة صناعتها و تبدأ مراسم عمل ( اللقيمات ) بعد صلاة العشاء مباشرة بلخ العجين و تعريضه للهواء الطلق ليتخمر و هذه عملية تأخذ و قتا طويلا يستمر الى ما قبل صلاة الفجر بقليل لانه لا
توجد خميرة في ذلك الوقت و كانت تعبئ اللقيمات في قفف كبيرة و تذهب لتبيعها في السجانة أما اللقيمات فكانت رائحتها نفاذة لا تقاوم تستفز الكبار قبل الصغار و توجد فتحة صغيرة ( طاقة ) تفتح على الشارع في غرفتها المتواضعة و المشيدة من الطين و تستخدم هذه ( الطاقة ) للبيع لزبائنها المحليون قبل أن تغادر ببضاعتها للسجانة
أما نحن شباب القرية في ذلك الزمان فكن صياعا بمعنى الكلمة و خاصة في فترة إجازة المدارس لا هم لنا الا سك ( الحفلات ) عفوا ( بيت اللعبة ) سابقا و كن نتجول طوال الليل بين قرى الكلاكلات التى كانت قرى صغيرة و متباعدة و مكشوفة و خاصة عندما نسمع صوت ( الدلوكة ) في هدوء الليل و سكونه وكن نستمتع بوشوشة فتيات القرى عندما نسمع عبارتهن هي ( أولاد العوضاب جو ) فتسري هذه العبارة في وجداننا مسرى السحر و ترفع معنوياتنا و تحسسنا بقيمتنا و تطفئ قليلا من نيران لوعتنا و هيامنا في زمن ( ....... ) المكتوم و خلوها في سركم
تنتهي ( اللعبة ) فجر الصباح و تبدأ ثورة الجوع تلهبنا بسياطها إذ لا يوجد سيوبر ماركت و لا تموينات و لا فول و لا تميس إذا الملجأ الوحيد هو ( لقيمات حبوبة النعيمة ) و هنا تبدأ معاناتنا مع الإنتظار بالقرب من طاقة غرفة حبوبة النعيمة علنا نظفر ببعض منها لنسكت ثورة الج
وع بداخلنا و من أشهر زبائن حبوبة النعيمة الزبون ( المزعج ) و ( الملحاح ) د. عوض حامد فهو ( جرسة ) و ما عنده صبر و خاصة كنا في بعض الأحيان تنتهي ( اللعبة ) مبكرا قبل الفجر بساعة أو ساعتين و لا بد من الإنتظار حتى تصحى ( حبوبة النعيمة ) من نومتها الثقيلة لرمي اللقيمات و لكن مين يقنع هذا العوض و كان يبدأ حوارا مزعجا مع حبوبة النعيمة و يبدأ الحوار بوضع رأسه داخل ( الطاقة ) عله يرى بصيصا من الأمل نارا تشتعلت أو صوت زيت يغلي ولكن لا هذا و لا ذاك مما يوحي أن إنتظاره سيطول و عندها يتخذ قراره بمحاولة ليصحيها من نومها العميق :
د. عوض حبوبة النعيمة ... حبوبة النعيمة ... حبوبة النعيمة ولكن لا مجيب
د. عوض مرة أخرى حبوبة النعيمة ... حبوبة النعيمة ... حبوبة النعيمة و لكن لا مجيب
و مرة ثالثة يكرر نفس الكلام و في هذه المرة ترد عليه هي يا عوض يا ولدي لسع أصبر شوية
و بعد فترة قصيرة يذهب للطاقة و يحشر رأسه حشرا داخلها و يردد نفس الكلام و هنا ترد عليه حبوبة النعيمة بغلاظة هي يا عوض يا ولدي ( العجين لسع ما رفع رأسه ) يعني عملية التخمير لم تكتمل و يرجع الينا د. عوض عابسا و هو حسير لأنه خسر معركته مع حبوبة النعيمة بضربة فنية قاضية أصابته في مقتل و لكن د. عوض لا يستسلم و يعاود المحاولة و قبل ان يقترب من الطاقة يشتم رائحة اللقيمات و صوت الزيت الذي تقلى به في النار و الذي يميزه جيدا مع حاسة شمه القوية و يسرع الخطأ فينادي عليها فترد أها يا ولدي بكم بخمسة قروش يا حبوبة و تلفها له في ورق الجرائد و يأتي بها مسرعا و في الطريق يكون قد التهم حبتين ثلاثة عربون نضاله الطويل في هذه المعركة لانه يعلم أن هنالك أنيابا مفترسة تنتظر بفارغ الصبر هذه اللقيمات و تبدأ معركة ( الختف ) و المنتصر هو الأقوى و بالرغم من ذلك تشع بيننا روح الود و المحبة و السعادة و في هذه اللحظات يكون أخونا شيخ بله نورالدين قد رفع الآذان لصلاة الفجر و ننصرف الى بيوتنا بقناعة و رضاء
الا رحم الله حبوبتنا ( النعيمة بنت الصديق )
بسم الله الرحمن الرحيم
أنفاس القرية
ثنائية الحبوبات ( بنت رابح و روقلي )
الكلاكلة صنقعت في أوآخر الخمسينات قرية ريفية صغيرة وادعة تلفها الطبيعة الخلابة من كل صوب وهي تتدثر كالعروسة في بهائها و جمالها
ففي جنوبها من ناحية الدخينات يرقد ( قوز حسوب الشامخ ) الواقف كالطود في عزة و كبرياء و القوز لمن لا يعرفه هو عبارة عن كثبان رمالية عالية بيضاء اللون و نظيفة تتكور في شكل هندسي رائع يشبه الهرم تكسوه الخضرة الخلابة في موسم الأمطار
في شمالها تمتد غابة كثيفة من الأشجار الضخمة كانت تسمى ( غابة البرم ) و البرم زهرة صفراء اللون شبيهة بزهرة عباد الشمس و تختلف عنها في حجمها الصغير و نعومة ملمسها و ترعاها الأغنام و هي مدرة ل اللبن
في شرقها ( الميكحات الخمس ) وهي عبارة عن 5 شجرات شكلتها الطبيعة في شكل دائري من الصعب الدخول لوسطها من شدة كثافة أغصانها و الميكح يا أبنائي و أصدقائي ثمرة مقلفة باللون الأبيض و في حجم ( الودعة ) أو أكبر منها بقليل بداخلها نواة مغطية بكريمة لزجة حمراء اللون مذاقها سكري حلو كمذاق ( الفراولة ) , أسالوا عنها عكاشة عثمان و بابكر الفاضل و عثمان محمود وهذه المنطقة مرتفعة نسبيا وكان يفضلها أهلنا كمعسكر خريفي لأغنامهم فينصبون رواكيبهم و زرائيبهم و يقضون فيها كل فصل الخريف الذي تتوالد فيه الأغنام و تتكاثر
من ناحية الغرب تمتد ( منطقة السالي ) وهي المنطقة الزراعية الشهيرة لأهلنا في ذلك الزمان الغابر يزرعون فيها و يحصدون و يحفرون ( المطامير ) و مفردها مطمورة و هي عبارة عن حفرة كبيرة بعمق مترين أو أكثر تستخدم كوعاء لحفظ العيش للإستفادة منه في موسم ( الدرت ) و الدرت هو الفصل الذي تنعدم فيه الأمطار
أما في وسطها تتكاثر ( الميعات ) و الميعات هي أماكن منخفضة تتجمع فيها المياه في فصل الخريف و أشهرها الميعة الكبيرة التي كانت تمتد من الفسحة التي أمام منزل المرحوم الوالد سليمان يحي و تصل حتى منطقة أهلنا الجافلاب الحالية وكان يستفاد منها
في مياه الشرب و الطبخ كما كانت تمثل بالنسبة لنا نحن الأطفال مسبحا و ملها و لعمقها كان يتعذر التنقل بين أطراف القرية لفترة طويلة من موسم الخريف
في هذه البيئة الساحرة عاش أسلافنا في نعيم و هناء و ستر و رضاء بما رزقهم به الله لا يشكون و لا يتذمرون قنعون متحابون و متواصلون ما لفت نظري ونحن صبية صغار في ذلك الزمن هو ( ثنائية الحبوبات ) و حلقة اليوم مخصصة لثنائية الحبوبتين ( بنت رابح و روقلي ) بنت رابح هي جدة و الدنا المرحوم احمد ود العوض من أمه و روقلي هي والدة عمنا المرحوم علي القاسم و أصدقوني القول أنني لا أعرف أسمائهن الحقيقية بالضبط حتى هذه اللحظة من عمري ولكن ما أتذكره هو أنهن كنا في مرحلة متقدمة من العمر و لشدة إرتباطهن ببعضهن البعض هجرت الحبوبة روقلي بيتها و سكنت مع فردتها و صديقة عمرها بنت رابح و بيت بنت رابح عبارة عن غرفة من الطين متهالكة و آلية للسقوط و صغيرة الحجم. أمام الغرفة شيدت راكوبة من الحطب و القش لا يزيد إرتفاعها عن مترين فقط و ما كان يربطنا طيلة النهار بحبوبتينا هو الراكوبة لأن الراكوبة كانت بيئة صالحة لطائر ( الزرزور ) لبناء أعشاشه و الزرزور هو طائر صغير الحجم و له شقشقة و صوت صارخ و طروب و كنا نستمتع بمطاردته و أصطياده بالحجارة تارة و ( بالنبلة ) تارة أخرى و كنا نشكل صداعا دأئما لحبوبتينا طيلة النهار و نحرمهنا من نومة ( القيلولة ) ما يدفعهنا لمطارداتنا بالعصاء و التمامة كمطاردتنا للطير وكنت عندما أرجع للبيت تصيح أمي في و جهي و تقول لي زحي مني ( ريحتك طير طير ) أمشي ( إتبرد ) و البرود يا أصدقائي هو الحمام بلغة التكنلوجيا اليوم وله طقوس خاصة تبدأ ( بنشل الماء من البئر ) كخطوة أولى ثم غسل الملابس الداخلية و شرها في الشمس ثم تأتي ( بالطشت ) المصنوع من الألمنيوم الخفيف و الطشت قد أكل عليه الدهر و شرب و توجد به عدة ثقوب و أطرافه متآكلة هذه إذا كنت محظوظا أما غبر ذلك فعليك إنتظاره لساعات و ساعات لأن الوالد يكون قد أخذه لسقاية البهائم في البئر او يكون قد أخذه الجيران لغسيل ملابسهم و لا تحدثني عن تجهيز صابونة الحمام فهذا حلم في الخيال
لقد كانت المهنة المحببة للحبوبتين بنت رابح و روقلي في هذه السن هو نفش القطن من بذرته و غزله ( بالمترار ) و المترار عود مرن يصنع من التمام لتحوبله لخيوط تصنع منه الطواقي للكبار و الصغار و حتى الأطفال كما كانتا ماهرتين في صناعة البروش و بالذات ( برش العريس الأحمر ) و كل هذه الصناعات الريفية خاماتها متوفرة من الطبيعة في منطقة السالي و قوز حسوب و لا يوجد مستورد
أيضا كانت لصناعة الألبان حظ عندهنا خاصة أن الألبان كانت متوفرة بكثرة فيستخدمنا ( السعن ) في هز الألبان و تحويلها لزبدة تصنع منها أجود أصناف ( السمن البلدي الأصلي ) ذو النكهة المميزة و الرائحة الذكية وباقي العصارة من اللبن المهزوز يتحول لروب يكون في متناول اليد لمن يريد بلا مقابل نعمة ما بعدها نعمة ( خارج النص ) كم سعر رطل اللبن اليوم ؟؟
كانت راكوبة الحبوبتين منتدى ذو أنشطة متعددة لا يهدى من الصباح و حتى المغرب يرتاده الصغار و الكبار و الأمهات و الأخوات. الصغار للعب و اللهو في الصباح تأتي الأمهات و الأخوات ( للمشاط ) و تفقد الحبوبات عند منتصف النهار و الكبار لشرب القهوة و التسامر عند العصرية و ما يحدث هذا كان يعزز قيما ذات مغذى عميقا في المجتمع أهمها إحترام كبار السن و تفقد أحوالهن
و عندما و صلت الحبوبتين مرحلة أرزل العمر بدأت ( خطرفة الكبر ) و كنا نتمحلق حولهن و نتسلى بهن و هن يتونسنا مع بعضهن و يحكينا عن العريس القادم و الشيلة بل و تحدد إحداهنا موعد العرس بالضبط فكنا عند سماعنا لهذه الخطرفة نضحك و نقهقه بصوت عالي فنستفزهنا و نعاقب بالطرد و السك بالعصا الا رحم الله الحبوبتين ( بنت رابح روقلى هذا المقالة مشاركة بينى وبين مهندس الفاتح نور الدين
وسوم: العدد 673