القوانين التركية بعد الانقلاب
استهدفت القوانين والإجراءات الصادرة بعد إعلان حالة الطوارئ في تركيا إثر انقلاب الساعات الستّ الفاشل ثلاث مؤسسات كبرى فاعلة، الأولى هي مؤسسة الجيش الذي تعرّض لعملية تطهير كبرى سُجن خلالها 167 جنرالا، أي نصف عدد الجنرالات والأدميرالات في الجيش التركي وصدرت قوانين بتنحية 1648 عسكريا بينهم 149 جنرالا وادميرالا (87 من كبار الضباط هؤلاء هم برتب عليا في القوات البرية و30 في سلاح الجو و32 في سلاح البحرية) بسبب مشاركتهم في الانقلاب الفاشل في 15 تموز/يوليو.
وجاءت عمليات التنحية هذه، عشية اجتماع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة التركية عقد أمس الخميس في انقرة بحضور رئيس الوزراء بن علي يلديريم وكبار المسؤولين العسكريين، لإقرار إصلاح واسع في الجيش، وهو ما يعني أن المؤسسة العسكرية، ولأول مرة منذ تأسيس الجمهورية عام 1921، ستتعرض لعملية هيكلية تجعلها تابعة للسلطات السياسية بعد أن كانت دائماً تعتبر نفسها أهمّ من هذه السلطات، وهذا يتجاوز عمليّاً العقوبات المرتبطة بالعسكريين المرتبطين بالانقلاب، واجتثاث نفوذ جماعة فتح الله غولن إلى طور جديد في تاريخ العلاقة المعقدة بين الدولة التركية والجيش.
المؤسسة الكبرى الثانية هي القضاء التي تعرّضت بدورها لحملة مماثلة أدّت إلى طرد 2754 قاضياً من المحسوبين على حركة فتح الله غولن التي اتهمتها السلطات التركية بالمسؤولية عن الانقلاب، وبما أنه من غير المعقول أن يكون القضاة المفصولون مشاركين في الانقلاب فإن الإجراء يعتبر استباقيا ووقائياً ولكنّه قرار يثير الجدل حول مدى قانونيته وتناسبه مع مقوّمات شعارات العدالة التي يرفعها الحزب الحاكم.
أما المؤسسة الثالثة التي استهدفتها قرارات الطوارئ فكانت الإعلام حيث وجّهت ضربة هائلة لامبراطورية غولن الإعلامية من خلال إغلاق 3 وكالات أنباء، و16 قناة تلفزيونية، و23 محطة إذاعية، و45 صحيفة، و15 مجلة، و29 دار نشر، وبررت السلطات قرارها بـ»توفر دلائل على صلة هذه الوسائل الإعلامية بمنظمة فتح الله غولن».
ترسم هذه القرارات صورة عن مواجهة وجودية كاسرة بين تيارين إسلاميين، الأول هو حزب «العدالة والتنمية» الذي اختار العمل السياسيّ وتعرّض حركاته للمنع المتكرر والانقلاب عليها وقمعها بالإعدامات والسجون، والثاني هو تيار فتح الله غولن الذي اختار العمل الدعوي والتربوي عبر المدارس ووسائل الإعلام والمصارف، وامتد نفوذه إلى كافة قطاعات المجتمع المهمة وتحالف مع ما يسمى «الدولة العميقة» في الجيش والقضاء والإعلام، وهي المؤسسات التي استهدفت، الآن، بما كانت تنتوي فعله بحزب «العدالة والتنمية».
بهذا المعنى فإن الانقلاب ظهر كفعل استباقيّ كانت أسباب فشله أكبر من أسباب نجاحه، وعلى رأسها طبعاً وجود تيّار كبير مناصر لـ»العدالة والتنمية» في الشارع واجه دبابات وطائرات الانقلابيين، والنجاح الكبير الذي حققه الحزب في مجالات التنمية والرخاء للأتراك والتي كان الانقلابيون سيقامرون بها لتنصيب مجموعة من المغامرين الذين خبر الشعب التركي على مدى تاريخه الحديث بطشهم واستهتارهم بالحريات وأركانها.
الإجراءات القاسية التي اتخذتها السلطات في أنقرة لحماية الكيان التركي لا تعني أن حركة السلفية الدعوية التي تمثلها جماعة غولن ستختفي، والأغلب أن تجريمها وإضعاف نفوذها وطرد أنصارها في المؤسسات الكبرى سيدفع بها إلى العمل السرّي في الوقت الذي تعاني فيه تركيّا من ضغوط داخلية هائلة يمثلها حزب العمال الكردستاني وتنظيم «الدولة الإسلامية»، وضغوط خارجية من محيطها القريب المتمثل في روسيا وأوروبا والبعيد المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى ضغوط الوضع السوري عليها، بدءاً من أزمة اللاجئين، وليس انتهاء بمخاوفها الحدودية من دويلة كردية في سوريا، ومن استمرار التفاقم الأمني هناك.
الضمانة الوحيدة لخروج تركيا من عقابيل هذا الصراع الكاسر الذي اضطرّت إليه هو الحفاظ على ديمقراطية نظامها السياسي الذي جاء بحزب «العدالة والتنمية» إلى السلطة وحماها من الانقلاب.
وسوم: العدد 679