الانتشار النمطي للإرهاب
معضلة الوجود البشري لاتتوقف عند حاجاته الغرائزية فحسب، بل تتعداها الى خلق اشكال وصور نمطية متوازية للحركية الغرائزية الداخلية كي تتوافق مع الموجودات الخارجية، على ان هذه الموجودات الخارجية هي وحدها التي تحلق خارج النمطية الغرائزية باعتبارها التجدد والتحديث والتطور المصوغ خارجياً ضمن الموجودات والمنتوجات والمصنوعات والمخلوقات الناجمة من الحراك النمطي الغريزي البشري منذ تكوينه الاول.
على هذا الاساس نرى بأن ما يتبعه البشر في مواكبة الموجودات الخارجية هو اتباع المنهج التحديثي لفرض رؤيته النمطية الاساسية والتي ترتكز على اشباع غرائزه بكل توجهاتها.. وهذا ما يجعل من النمطية التقليدية موجودة في الحدث الاساس الغريزة الطامحة في تحقيق ما تريد.. ولكنها في مسارها النمطي تستخدم الان مستجدات عصرية ووسائل مختلفة غير التي كانت تستخدم في البدء.. وهذا ما يجعلنا نقول بالنمطية كون الجوهر ثابت الغريزية على الرغم من صورها التنوعية الحالية.
وهذا هو الارهاب الحالي حيث جوهره متصل افقيا وعمودياً بالاصل الثابت الغريزة البشرية، ولكن الوسائل تختلف في تحقيق ما تصبو اليه تلك الغريزة.. ولقد برهن الارهاب منذ البدء على انه تصور استحداثي براني خارجي اكثر ما هو تحديث فكري جوهري ضمني، فالجوهر والمضمون الارهابي ثابت وهو ازاحة كل ما لا يتوافق معه، ومع صيرورته وفكره الدموي، الملتحف بالرداء الديني او المتكلم باسم الله وكذلم الملتحف بالفكر البشري الداعي للانسانية او المتكلم باسم البشر، وهذا بالذات الذي يجعل من الجوهر الارهابي ثابت لايتغير، الله عندهم هو مصدر الالهام والتشريع والآمر وانهم مجرد عبيد يؤدون واجباتهم المقدسة تجاه الله المقدس عندهم.. او انهم دعاة الانسانية الحديثة الذين يسعون لتحقيق التكافأ بين المصوغات السماوية والارضية.
ولان الجوهر ثابت فان الارهاب لابد ان يواجه التحديات العصرية التي تعيق تحركه، فهو من جهة لايريد ان يخرج عن الجوهر اي تحقيق امر الله او رغبة الانسانية الحديثة، ومن جهة اخرى لايمكنه مواجهة الواقع العصري بكل استحداثاته وتطوراته، وهذا ما يخلق لدى البعض الشك في النمطية التي يتبعها الارهاب، ظناً منهم بان الوسائل هي التي تخلق النمطية وتخرج عنها، دون الاخذ بنظر الاعتبار ان الجوهر الفكري للاهارب هو المخصص بالنمطية.
ومن يراقب التجربة البشرية على الخراب الارضي يجد ان الجوهر الغرائزي لم يتغير ضمنياً وكفكرة، انما فقط تغير بالرداء الذي يلبسه في كل مرة، ولأن الغريزة هي المحرك، فان الصورة واضحة سواء من حيث الطلب الميثولوحي الثيولوجي المهمين على الوسط الارهابي منذ بدء الخليقة وحركية الصورة التي طرد الانسان من خلالها من مأواه الاصل ومكانه الاصل الى هذه الارض الخراب، ام من خلال المترتبات التي اوجدتها الغريزة البشرية بعد تقبله لواقعه الجديد الارضي، وهذا ما يمكن ان نصنفه بالمنبع الاساس للانتشار النمطي الارهابي البدائي والمستمر، لاسيما انه حين تشيع بين البشرية تلك الرؤية التي مفادها ازاحة الاخر دون الرجوع الى مايمكن ان يوقف تلك الرؤية او حتى دون الرجوع الى الماهيات والممكنات التي قد ترافق وتخلفها تلك الرؤية، وذلك بعرضها على الواقع الحياتي البشري من خلال موجبات العقل والفكر فان الانتشار النمطي يغدو واقعاً ملموساً وواضحاً لايمكن انكاره او تجاهل مقاصده النمطية المبنية اساساً على الغريزة الاولية والبدائية.
وما يدعونا الى القول بالنمطية هو ان الانتشار الارهابي الذي لايخضع الان لوسائلية واحدة في صورته الخارجية، لكونه يتجانس مع التطورات الحدثية على الساحة الارضية بصورة عامة، ولكنه في فعله وما ينتجه وما يدعوا اليه بل حتى فيما يسعى لتحقيقه في الجوهر " ازاحة الاخر"، هو تأكد لمقولة النمطية الغرائزية وتأكد في الوقت نفسه للوجهة الاضطرارية للارهاب في تقبل الممكنات الحداثية للانتشار، والملفت للنظر هو الانتشار السريع للوسائل الارهابية المحافظة على جوهرها، وهذا ما يجعلنا ان نعزي ذلك الى وجود البيئة الثقافية والنفسية المتاحة لتقبل الفكر النمطي والانصياع للواقع التحديثي التجديدي الوسائلي وذلك عبر توظيفات فكرية ناجمة عن استغلال الوسائل الاعلامية لفرض الرؤية الارهابية بالطبع عبر استخدام تقنية الترهيب وغرس الخوف في النفوس من جهة، وكذلك عبر اتخاذ النموذج الديني والايديولوجي الترهيبي ايضا للعامة، والترغيبي لاصحاب الفكر الارهابي من جهة اخرى، وهذا بالضبط نقطة التحول في الفكر الارهابي، فحين يشاع الفزع والخوف ويصبح الامر وكأنه حرب ضد المجهول الذي لايلبس ضمن سياقاته الرداء الخارجي النمطي، لكنه في الجوهر يمارس الفعل الغرائزي النمطي الارهابي المؤدي الى قتل الاخر وازاحته، وتعمل وسائل الاعلام على نشر الفكرة دون وعي استباقي بالمؤثرات النفسية والارهاصات الجانبية التي قد تنتج من هذا النقل والنشر، فان الاستفعال الجوهري للفكر الارهابي يتوغل بصورة طوعية داخل المنطومات البشرية، مما يعني بالتالي ان اية بيئة متاحة ومناخ مهيأ جراء خوف ذاتي او رفض محتمل للواقع سيدخل ضمن دوامة النمطية الارهابية الفكرية، وحينها سيبحث عن الوسيلة التي تناسب وقته ومكانه للقيام بالجرم الارهابي.
وما يحدث الان على الخراب الارضي خير دليل على وجود النمط الجوهري الارهابي الغرائزي البشري.. ليس الثيولوجي الديني فحسب انما حتى ضمن سياق الافكار البشرية المستحدثة ايضاً ، التي تتبنى الفكرة الاساس والاصل والجوهر والتي تتمثل كما سبق وان قلنا بازاحة الاخر او اخضاع الاخر.. وفي المقابل ان الوسائل الاعلامية تساهم بشكل كبيرة في انتشار النمط الارهابي، وذلك من خلال مواكبتها وبمبالغة ما يقوم به هولاء الارهابيون، وحين نسترجع بالذاكرة القريبة سنجد ان التفجيرات كانت هي حصيلة ذهنية تجددية واقعية تعبر عن الجوهر النمطي الارهابي حيث كانت في البدء موجهة ضمن المؤسسات والمنشأت الحيوية، ثم تحولت الى المرافق الحكومية والاماكن التي يتواجد فيها اتباع السلطات، وثم توجهت نحو المرافق العامة، الاسواق، الميتروات، وفي الوقت نفسه سنجد انه حين اصبحت الانظار موجهة نحو هذه الوسيلة، تكيف الارهاب مع واقع اخر وهو التنوع الوسائلي فاصبح وفي اكثر من حادثة متكررة يوظف الفئات القابلة للفكر الارهابي وذلك عبر اعمال فردية يقوم بها اشخاص داخل مجتمعات منوعة وذات ثقافات مختلفة، ولكن في الغالب يكون من يقوم بالعمل هو منتمي الى ثقافة دينية او فكرية واحدة، كما حدث في كل من فرنسا سواء بالهجوم على مقر احدى الصحف، او الهجوم بالحافلة، وفي المانيا مسلح يطلق النار على الناس العامة في المحلات التجارية، او في امريكا اطلاق النار العشوائي في المدارس والشوارع والضحايا ليسوا اصحاب مؤسسات ولا اتباع السلطات انما افراد عاديون من عامة الناس، وبالتالي ان النمطية الارهابية السريعة الانتشار اخذت تؤثر على النفسيات البشرية واخذت تعطي للفئات المتاحة والمهيئة ثقافياً ونفسياً وسائل تجددية لتحقيق الفكر الاساس النمطي والجوهري في قتل الاخرين وازاحتهم.
وسوم: العدد 679