التغريدة الأخيرة

"ستكون التغريدة الاخيرة". هي العبارة الاكثر انتشاراً منذ مساء الاثنين، تترافق مع سيطرة القوات النظامية السورية على أحياء مدينة حلب. تبخرت أحلام ناشطين سوريين معروفين، بالبقاء على قيد التغريد، بعد انهيار أحلام استخدام المنصات الالكترونية نفسها لاعلان انتصار الثورة، أو رحيل بشار الأسد. اختنقت العبارات في الأجهزة المحمولة، كما اختنقت قبلها العبارات في الأفواه، تعبيراً عن وجود عشرات القتلى تحت الانقاض، على وقع دوي القذائف وأزيز الرصاص.

ناشطون معارضون، لا يعلنون يأسهم من مجتمع دولي مقيد بالتوازنات الدولية، ومن أصدقاء لا يفتحون منابرهم إلا للتنديد واعلان التعاطف، فحسب. الناشطون، يعلنون سكوتهم الابدي. يقفون أمام مشنقة معلقة، لا يطلب منهم الجلاد كلمة أخيرة، أو طلباً أخيراً. فالجلاد، في حلب، لا يمنح ضحيته تلك الفرصة، كونه يخيرها بين الموت أو التسليم. 

لذلك، أخذوا على عاتقهم المهمة، ليس لإعلان طلب أخير، بل لإعلان الموت المؤجل. الموت القادم. الموت القريب الذي يلامس الاجساد، بعدما توغل في الآذان على شكل قذائف. وفي الانوف كدخان. وفي شعر الرؤوس كلهيب. 

الضحية تتحدى قاتلها. منذ أربع سنوات أراد لها ان تصمت. استطاع أن يخرسها اليوم حين قطع الانترنت عنها. وهي، تجد حياتها في اعلاء الصوت. في اطلاق صيحات الاستنجاد التي باتت استجداء لمن يزعم الانسانية. أعلن كثيرون صمتهم، وبه، موت سابق لأوانه. الموت بالإخراس، أبلغ أنواع الفناء بالنسبة لناشط، اعتاد أن يثير العالم، ولم يحركه لردّ فعل. ومع ذلك، لم يستسلم الا بموته الذي يقترب شيئاً فشيئاً، مادياً ومعنوياً. 

حزين هو اعلان طبيب على قناة "الجزيرة"، صباح اليوم، أن حديثه قد يكون الاخير. بذلك، يعلن أن رائحة الموت، تقترب أكثر منه. لا مخرج آمن، ولا هدنة لايقاف آلة القتل، ولا ضمانات لخروج من غير اعتقال. ذنبه أنه ترك أدوات طب الاسنان، وتحول الى طبيب مناوب يداوي جرحى القصف. شأنه شأن العشرات من الاطباء الذين ظلوا في أحياء حلب المحاصرة، لتقديم العون للمرضى والجرحى. 

ومثله، المئات من الناشطين. لينا الشامي التي أفرجت عن معاناة حلب للعالم باللغة الانكليزية، ستسكت. عشرات الناشطين، يلوذون بالخوف، قبل تنفيذ حكم الاعدام. الموت يقترب، ولا من يتحسس نبض الاطفال، ودموع الثكالى. الموت يقترب، والنظام يتحسس كلمة يطلقها الناشطون، لعلمه أنها قد تغير العالم. الكلمة تموت قبل الجسد.. والجسد محاصر باللهيب.. ولا تبقى الا عبارة واحدة: ما النا غيرك يا الله!.

*رئيس قسم الميديا في "المدن".

وسوم: العدد 698