آذار وبحار الدم (الحلقة 34)
حافظ الأسد ينحني أمام العاصفة ويتقدم ببرنامج مصالحة وطنية
نشطت المعارضة غير المتجانسة بشكل خاص في شباط عام 1980م، وطرحت كتلة التجمع تحويلاً ديمقراطياً شاملاً وعميقاً بالأساليب السلمية بما فيها الإضراب الشعبي والعصيان المدني، كمخرج وحيد لحل الأزمة. في حين لم يكن لدى الطليعة أي برنامج سوى إسقاط (النظام) بأسلوب (الكفاح المسلح).
وفي هذا السياق تقدم حافظ الأسد في 13 شباط عام 1980م من خلال الجبهة الوطنية التقدمية التي تمثل الإطار المؤسسي الرسمي الوحيد التي يقودها حزب البعث للعمل السياسي في سورية، بما يمكن أن يسمى بإعلان مصالحة وطنية، يشكل نوعاً من حل وسط بين الكتلتين الأساسيتين (الإسلامية) و(الجبهة الوطنية). وحدد البيان الإجراءات التي قامت بها السلطة وستقوم بها بـ:
تشكيل حكومة (تكنوقراط)، وتبني سياسة القضاء على نشاط رأس المال الطفيلي والوسطاء والسماسرة في دوائر الدولة ومؤسساتها، وحصر اختصاص محكمة أمن الدولة في الجرائم التي تقع على أمن البلاد، وإعلان إيقاف العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية، إلا في الحالات الخاصة التي تتعلق بأمن البلاد وسلامتها، وتنفيذ الأحكام القضائية أياً كان نوعها وحجمها، وتطبيق أحكام القانون على الجميع، ومنع إعطاء أي استثناء لأي إنسان، وضبط سلوك العاملين في مختلف أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، وتشكيل لجان خاصة لدراسة أضبارات الموقوفين واتخاذ الإجراءات الفورية لإطلاق سراح من ثبتت براءته منهم، أو إحالتهم إلى القضاء.
و(تطوير الجبهة الوطنية التقدمية بحيث تأتي ممثلة لأوسع الجماهير، ومعبرة عن الاتجاهات الوطنية ومهما تعددت أصدق تعبير).
كان هذا البيان وما رافقه من إجراءات حسن نية إعلان تسوية يقع في فضاء سياسة المصالحة الوطنية.
كما أقر البيان بعدم كفاية الأطر المؤسسية القائمة للمشاركة السياسية وإعادة النظر بآلياتها والاستعداد لتطويرها، وإرساء دولة القانون على أساس يوفق ما بين متطلبات استقرار النسق السياسي السائد واستمراره وبين جزء كبير من تطلعات القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة في سورية، سواء كانت إسلامية أم قومية ويسارية معارضة أم إصلاحية في إطار السلطة نفسها.
ولم يستثن البيان من دائرة الحوار سوى ما سماه (عصابات القتل المأجورة) التي تقوم بـ(أعمال التخريب والقتل وزرع الفتن الطائفية في الداخل) دون الإشارة إلى المقصود بهذه التسمية.
وتجسيداً لوضع البيان موضع التنفيذ، فقد تم فعلياً في شباط عام 1980م إطلاق سراح النقابي البارز (عمر قشاش) عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي المعارض، والإفراج عن حوالي (500) من كوادر التنظيم العام لجماعة الإخوان المسلمين، الذين اعتقلوا بدءاً من حملتي شباط ونيسان عام 1979م، عقب مفاوضات مكثفة بين الأمين العام لجماعة الإخوان المسلمين المعتقل (عبد الله الطنطاوي) ورئيس جهاز الأمن السوري (اللواء علي دوبا) في سجن (المسلمية) شمالي مدينة حلب، وألف هؤلاء المفرج عنهم الصف القيادي الأول والثاني في التنظيم العام.
وفي هذا السياق قامت عدة وساطات لتقريب وجهات النظر وجسر الهوة بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام، كان من أهمها وساطة نائب المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين (أمين يكن). وعلى ضوء هذه الوساطة دخل (علي صدر الدين البيانوني) نائب المراقب العام في أوائل شباط عام 1980م إلى مدينة حلب، وأقام في القاعدة المركزية بحلب، واتصل بـ(عدنان عقلة) بغرض استيعابه وإعادته إلى صف الجماعة، ولكنه أخفق في ذلك أمام رفض عقلة أي لقاء مع المتخاذلين، جماعة (التنظيم العام) – على حسب قوله – مما جعل نائب المراقب العام البيانوني يطلب إلى الأمين العام للجماعة عبد الله الطنطاوي (الذي أجرى المحادثات مع دوبا وأفرج عنه مع من أفرج) أن يغادر سورية حفاظاً على حياته، كما طلب إليه الإيعاز إلى كوادر الإخوان الذين يشعرون بالخطر إلى مغادرة البلاد. وفي تلك الأثناء تشكلت (لجنة العلماء)، وترأسها الشيخ (أبو النصر البيانوني) التي أصدرت بيان تهدئة ساهمت أجهزة الأمن السورية في توزيعه، في الوقت الذي عممت فيه أجهزة الأمن على مخبريها خطياً بإشاعة أن (الدكتور إبراهيم سلقيني) الشخصية الإسلامية البارزة والمحترمة أنه سينضم إلى (الجبهة الوطنية التقدمية).
إضراب عام يشل الحياة العامة في سورية
شكل الإضراب العام الذي دعت إليه (النقابات المهنية والعلمية) في سورية محور التحدي للسلطة بشكل علني وسافر، وشاركت (الطليعة) بضغطها على التجار لإغلاق الأسواق في مدينة حلب، ثم أصدرت بياناً في حلب سخرت فيه من المطالب الديمقراطية الليبرالية للنقابات، ودعت إلى مواصلة المجابهة المسلحة حتى إسقاط النظام. فقد رأت (الطليعة) في برنامج (النقابات) وتبني (التجمع الوطني الديمقراطي) له، محاولة قومية يسارية لاستثمار ما قامت به وأدت أعمالها إليه، والاستيلاء السياسي عليه. ولم تفلح محاولة بعض الإخوان النقابيين من إقناع (الطليعة) بتأييد برنامج الإضراب العام. وشهدت معظم المدن السورية خلال النصف الثاني من شباط، والنصف الأول من آذار عام 1980م حلقات هذا الإضراب العام الذي لم تكسره سوى العاصمة دمشق، وهذا ما جعل المعلومات عن هذا الإضراب شحيحة ومحدودة في غياب وسائل الإعرم المستقلة. وكان هدف (التجمع) يذهب إلى تطوير الإضراب إلى أن يصل إلى عصيان مدني شامل وعام يتم من خلاله فرض (التحول الديمقراطي) على السلطة، أما (الطليعة) فقد تمكنت من تحويل الإضراب إلى حركة عصيان وتمرد وإحداث شغب وإرباك للسلطة وتقليم أظافر أجهزة الأمن وإسقاط هيبتها. وقد تصور (عدنان عقلة) في حينها أن سقوط النظام بات مسألة وقت.
وسوم: العدد 749