تشجيع السياحة بين مهنة الدعارة وأكل الطيارة
من الحياة اليومية لمواطن سوري
هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص التي عايشتها مع أحد أصدقائي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.
كما ذكرت في القصص السابقة، فقد دخلت كلية الهندسة الميكانيكية في دمشق عام 1975 وتخرجت منها عام 1980، وقد جرت هذه القصة حين كنت في السنة الثالثة. حدث وأن دعاني أحد أصدقائي في الكلية إلى كأس شاي في المقصف وقال أنه يريد رأي في موضوع هام. كان الشاب من دورتنا وزرته عدة مرات في بيت أهله في حارة تقع خلف سينما السفراء التي تطل على الساحة التي كان الدمشقيون يطلقون عليها اسم ساحة (أبو مئشة) والغير بعيدة عن ساحة السبع بحرات الشهيرة. وبعد أول رشفة شاي، قال صديقي: هل تذكر الموتيل الصغير الذي في منتصف الحارة المؤدية إلى حارتنا؟ يبدو أنه بات مؤخراً مرتعاً للدعارة حيث ترتاده التايوانيات والفيليبينيات وبموديلات تخدش الحياء العام، وهذا طبعاً لايناسب العائلات التي تسكن في الجوار والتي تحاول أن تربي أولادها وبناتها على الأخلاق الحسنة.
مرت لحظات من الصمت قبل أن أتوجه بالكلام لصديقي قائلاً: وماالذي يدور في ذهنك؟ فعاد صديقي وتابع: أفكر أن نذهب، أنا وأنت، ونقابل صاحب أو مدير الموتيل ونرى ماذا سيقول، ومن معرفتي بك، أعتقد بأنك ستدير الحديث وتستعمل اسلوب الاقناع أفضل مني، وفي حالات كهذه، فاثنين أفضل من واحد، فما رأيك؟ لم أكن أنا في يوم، ولم يكن صديقي هذا أيضاً، من المتعصبين دينياً، وكنا نعرف تماماً أن مهنة الدعارة، والتي تسمى أيضاً (أقدم مهنة في التاريخ)، ستبقى تمارس طالما بقي الجنس البشري على وجه الأرض. وهي مهنة بالرغم من كل مساوئها ومضارها، فشل الأنبياء، أيام الأنبياء، أن يوقفوها، وبقيت تمارس إلى يومنا هذا إن بالسر أو بالعلن، ولذلك لاأعتقد أن البشر العاديين اليوم أو في المستقبل سيتمكنوا من إيقافها لابقانون ولابغيره. ولما سلمت بعض الحكومات بهذه الحقيقة، اكتفت بأن منعت هذه المهنة أن تمارس أو تدار من قرب المجمعات السكنية أو المدارس أو دور العبادة، في حين غضت النظر عن ممارستها من المناطق التجارية أو السياحية.
وافقت على فكرة صديقي وذهبنا في عصر أحد الأيام بعد انتهاء المحاضرات إلى الموتيل المذكور لنفاجأ بصورة عملاقة لرفعت الأسد بلباسه العسكري على الجدار. ومع أن الصورة كانت قد بدأت توضح السيناريو، فقد طلبنا مقابلة المدير أو صاحب المحل وعرفنا عن أنفسنا بأننا من الجيران. اتصل عامل الاستقبال بالهاتف ولم تمض دقائق حتى وصل رجل في الخمسينيات من عمره وعرف عن نفسه بأنه المدير وبادرنا بابتسامة مصطنعة قائلاً: أهلين بالشبيب، شو فيني إخدمكين؟ كانت اللهجة الساحلية واضحة في كلامه كما وأنه لم يحاول إخفاء المسدس الذي كان على جنبه. ولما لاحظت تردد صديقي وتلعثمه، بادرت الرجل قائلاً: نحن من سكان الجوار ونريد الاستفسار عن موضوع يخص موتيلكم. تابع الرجل الاحتفاظ بابتسامته المصطنعة وقال لي: تفضل، ماهو الموضوع؟ فقلت له بأن الجيران لاحظت أن هناك (نشاطات مشبوهة) تجري في الموتيل قد لاتكون الإدارة قد لاحظتها، ونحن أتينا إلى هنا للفت النظر إليها والاستفسار عنها. لاشك أن الرجل كان قد فهم سبب حضورنا إلا أنه تظاهر بعدم الفهم وتابع قائلاً مع نفس الابتسامة: تفضل وماهي هذه (النشاطات)؟ فقلت له بأننا نعتقد بأن مجموعة من (النساء الأجنبيات) يبدو وأنهن يستعملن الموتيل كمركز للدعارة، والتي هي أصلاً ممنوعة بالقانون كمهنة في سورية، وهذا يسيئ للجيران وأيضاً لسمعة الموتيل وقد يعرضكم للمسائلة القانونية وبالتالي فان استمرار الوضع على حاله ليس من مصلحة أحد.
صمت الرجل لثوان وراح ينظر إلينا ويتأملنا من الرأس إلى الأقدام، وشعرت بأنه يجاهد للاحتفاظ بابتسامته وبرود أعصابه إلى أن قال لنا أخيراً: اُحيّ فيكم روح النخوة وخوفكم على سمعة الحي وعلى مصلحة الموتيل، ولكن دعوني أوكد لكم بأن مادار في ذهنكم هو تخيلات لاأكثر ولاأقل. فمن الأمور التي يفخر به موتيلنا هو (السمعة النظيفة) حتى باتت شعارنا الغير معلن، أما بخصوص النساء الأجنبيات اللاتي يترددن على الموتيل، فهن (فنانات) يتم تسهيل حضورهن إلى البلد من قبل (جهات نافذة) في الحكومة بهدف (تشجيع السياحة) لاأكثر ولاأقل. يبدو أن الرجل اعتقد عند هذه النقطة من الحديث بأننا قد فهمنا مايقصد وأننا سننصرف، ولكنه عندما رآني على وشك الاسترسال بالحديث، قاطعني سريعاً وقرر أن يحسم الموضوع بأن يستعمل آخر سلاح بقي في جعبته، والذي يجعل من لايفهم أو لايريد أن يفهم، يجعله يفهم. أردف الرجل قائلاً وهو يشير إلى صورة رفعت الأسد المعلقة على الجدار: وبما أن المعلم من مشجعي السياحة في البلد، فقد أخذ على عاتقه حماية تلك الفنانات وتسهيل ممارستهن للعمل الفني، وضمان عدم إخلالهن بالآداب العامة أو خرقهن للأخلاق أو القانون. وبالتالي فيمكنكم التوجه إليه في حال وجود أي شكوى أخلاقية أو قانونية، وأنا مستعد لايصالها له وهو سيتواصل معكم إذا تركتم أسمائكم وعناوينكم وأرقام هواتفكم، ثم أخرج ورقة وقلم من جيبه ونظر إلينا بتحدٍ بانتظار المعلومات.
نظرت أنا وصديقي كل منا إلى الآخر، وكان من الواضح أن الرجل قد مل من (كترة غلبتنا) وأنه كان يقول لنا بشكل غير مباشر ولكن بطريقة ليس فيها أي إلتباس: هل ستحلون من هنا أم أنكم تشتهون كم فركة أذن وكم طيارة على رقابكم؟ لم يكن الموضوع بحاجة لكثير من التفكير، حيث التفت إلى الرجل وقلت له: مافي ضرورة معلم، فنحن نثق بكلامك، وعلى مايبدو فقد أسأنا الظن وخدعنا بالمظاهر، الله يلعن الشيطان، ولكنك نورتنا وباتت الأمور أوضح من ضوء النهار، سلامنا للمعلم (ونظرت إلى الصورة الجدارية) ودمتم وأمثالكم ذخراً للوطن ومصلحة الوطن. خرجنا سريعاً من الموتيل وتأكدنا أن أحداً لم يتبعنا، ولما صرنا في بناية بيت صديقي، التفت إلي قائلاً: هل كانت هذه (الديباجة) الأخيرة التي قلتها لهذا (القواد) ضرورية؟ فقلت له: هو لم يستحي من بيعنا وطنيات وسلخنا خطابات، فرأيت أن أرد عليه بنفس اسلوبه على أمل أن يفهم أننا لسنا أغبياء ولكننا ببساطة لسنا قادرين على عمل شئ. وبعد هذه الحادثة عرفنا أن هذا الموتيل لم يكن الوحيد، بل أن العديد من أمثاله وفي قلب الأحياء السكنية وبالقرب من المدارس ودور العبادة يمارس مهنة (تشجيع السياحة) وكلهم يضعون نفس الصورة الجدارية لراعي الفن و(الفنانات). وللعلم فقد اختفت ظاهرة الفيليبينيات والتايوانيات فجأة عام 1984 حين تم نفي رفعت الأسد إلى الخارج بعد محاولته الانقلاب على أخيه، فتيتم فن (تشجيع السياحة) وتيتمت فناناته.
هذه هي سورية الأمس واليوم للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، فهنا تتحول الحكومة إلى عصابات مافياوية تحول البلد إلى مجموعة من المواخير ولاتستحي في ذات الوقت أن تستحمر الشعب وتزاود عليه وتبيعه وطنيات الصمود والتصدي والمقاومة والممانعة.
وسوم: العدد 752