المُناكفاتُ الفصائلية، و ظاهرةُ هدم المؤسسات في الثورة السورية
إنّ ممَّا يُميِّز السلوك الجمعيّ في الدول ذات الأنظمة الديمقراطيّة، عن غيرها من الدول التي تؤول فيها الأمور عن طريق التغلُّب، أو الانقلابات، أنّ المجتمع يظهر حرصًا غير خافٍ في الحفاظ على مؤسسات الدولة، و مرافقها، و أنظمتها المرعية، و كثيرًا ما يحدث الانتقالُ السلميُّ بشكل سَلِسٍ، لا يثير الانتباه.
في حين أنّه في الدول التي ما تزال مبتلاة بالانقلابات العسكرية، أو التي ما تزال تشهد بين الحين و الآخر صراعات مجتمعية، ذات منحى: إثنيّ، أو طائفيّ، أو آيديولوجي، أنّ المؤسسات و المرافق فيها تنهدّ هدًّا عنيفًا، و توضع اليدُ على مقدراتها المادية، بذريعة تبعيِّتها العهدَ البائد.
و هو الأمر الذي غلبَ على مجريات الأمور في سورية بعد أحداث 2011م، فلم تسلم مؤسسة أو مرفق عام من النهب و التدمير و العبث، و من عموم الأطراف المنخرطة في جولات الصراع المسلّح منذ سبع سنوات.
و أكثرُ ما كان ذلك من العناصر الوافدة، سواءٌ من المليشيات المنخرطة مع النظام، أو تلك التي وفدَتْ للدفاع عن مظلومية السوريين، و لاسيّما من عناصر داعش الذين وصل الأمرُ بهم إلى حدّ الشبق و الهوس، في إتلاف السجلات و الوثائق، على غرار ما كان في مدينتي الرقة و الطبقة، اللتين لم يسلم فيهما سوى خزنات الأموال في البنوك، و أمّا ماعداها فقد أصبح رمادًا، و أثرًا بعد عين.
و هو الأمرُ الذي طالت عدواه أيضًا عموم الفصائل المؤدلجة، التي أباحت لنفسها مكاتب هيئة الأركان، و المجالس المحلية التابعة للمجلس الوطني، و وريثه الائتلاف، ثمّ ما كان منها تجاه بعضها لاحقًا، كما حصل في المبنى الأزرق لأحرار الشام، و بعض مكاتب معبر باب الهوى، و ذلك تحت ذرائع لم يفِ بحقها الصائلون، و كذلك مؤسسات النظام حين دخولها إدلب، و أحياء حلب الشرقية.
يُذكر أنّه ـ قديمًا ـ كانت إحدى الحيل التي تستخدمها الجيوش لتُخيف أعداءها، أن يتحرك الفرسان بخيولهم ليثيروا الغبار، فيرتفع التقدير العددي للجيش في عيون العدو، ذلك التقدير الذي قد لا يكون سوى محض الخيال.
و بعد مرور سبع على الثورة نستطيع أن نقول: إنّ الغبار الثوري قد سَكَنَ، بما يسمح لنا أن نرى حقيقة المشهد، فقد ذهب أوان السكرة، و حضر أوان الفكرة، و من الخطأ أن نظل سُكارى في لحظات استحضار الوعي، و عودة الذاكرة؛ فالسوريون في أمس الحاجة إلى بناء مؤسساتهم، و العودة إلى مرحلة ما قبل العسكرة، و الانتظام في سلك الحياة المدنية.
و في ذلك يرى عددٌ من المراقبين أنّه على الفصائل أن تبني على ما كان، سواءٌ من عهد النظام، أو من عهد الفصائلية، أو المؤسسات و الأجسام الثورية الأخرى، التي تعاقبت في الثورة السورية، لا أن يأتي كلُّ فصيل على ما كان من سلفه، أو ممّن لا يرضى من أجسام الثورة، ولاسيما حينما يؤول الأمر إليه تغلُّبًا و صيالاً، و تحديدًا عندما يكون الفصيل المعنيّ ذا منطلقات آيديولوجية، طارئة على الثورة، و مباينة لما قام من أجله عموم السوريين، في الأيام الأولى لحراكهم الثوري؛ فيقوم بهدم البناء التراكميّ الذي تحقَّق للسوريين، من مؤسسات و هياكل و أنظمة، و يعتقل القائمين عليها، و يُضيِّق عليهم، و يخلي مكاتبهم، و يصادر محتوياتها، بطريقة لم تَعُد تروق لهم بعد ( آذار 2011م ).
على مَنْ يريد تطوير الثورة، أو استثمارها، أو البناء عليها، أن يعلم أن منبت الثورة الذي نبتت منه، ومقصدها الذي يجب أن تتوجه إليه هو المجتمع السوريّ، و أن حواضنها الشعبية قد راكمت نمطًا من الرؤى و التصوُّرات و الأنظمة و الهياكل المؤسسية، يتحتّم الإبقاءُ، و المراكمةُ عليه، و ليس استنطاقُها بنماذج لا ترضاها، مُنبتِّة الصلة عن عموم الحراك المجتمعيّ للسوريين، فتلك المحاولة مصيرها الفشل و لن تعود على دعاتها بما يتمنّونه للسوريين، و هو الأمرُ الذي يجعلهم في موضع اتهام، بحرف البوصلة عن وجهتها.
إنّ ترشيد الفيضان الثوري الذي يجول في نفوس تلك الفصائل، لا شكّ أنّه سيستكين و ينفض زخمه، تمامًا مثلما كان لغيرها من الفصائل التي خلفتها، لذلك من الضروري أن تلجأ إلى الترشيد في اندفاعها و حماسها، فنهضةُ المجتمعات لا تكون إلاَّ بأن يتابع الخلفُ السلفَ، و يبني على ما كان منه، لا أن يهدمه و يأتي عليه، فتكون كالتي نقضَتْ غزلَها من بعد قوة أنكاثًا.
إنّ العمل بمبدأ المتغلِّب، لا يُقنع غير صاحبه، و إنّ مَنْ يسعى إلى ذلك سيُصيبُه ما أصاب أسلافَه، لأنّه قد كرَّس بذلك مبدءًا للمداولة في الحياة، سيكون هو أحدَ ضحاياهُ في وقتِ أوانِ ضعفه.
إنّ النهضة الحقيقية للمجتمع، تكون باستنطاق ذلك المجتمع، بخصوصيته الثقافية و الحضارية كمكوّنات للهوية، التي لا تفرض عليها مشاريع لم تكن موضع تطلُّعاته في مجمل تحركاته، و مساعيه نحو بناء دولته و مستقبله.
إنَّ الثورة كحلقة من حلقات التدافع والتنازع بين الناس و السلطة على شغل الحيز العام، هي ثورة الناس على المظلّة السياسية الفاسدة، بغية إسقاطها واستبدالها أو تطهيرها. في ذات الوقت الذي تكون مؤسسات الدولة الإدارية و الخدمية بمنأى عن الهدم و التخريب و العبث، و من باب أولى مؤسسات العمل الثوري للفصائل.
وسوم: العدد 752