شعر المعتقلات

علي صدر الدين البيانوني

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتعريف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيّين، وعلى آله وأصحابه الغرّ الميامين، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.. وبعد:

فقد قدّر الله لي أن أعيش سنتين ونيّف، مع ثلّة كريمة من الإخوة، في سجن "الشيخ حسن" في حيّ "الميدان" بمدينة "دمشق"، حيث اعتقلنا لعلاقتنا بجماعة الإخوان المسلمين. كان ذلك في منتصف شهر آذار من عام 1975، واستمرّ الاعتقال حتى نهاية الأسبوع الأول من شهر نيسان 1977، حيث أفرج عن معظمنا، دون أن توجّه إلينا أيّ تهمة، ودون أن نحال إلى القضاء، بينما استمرّ اعتقال الآخرين ثلاث سنوات أخرى، ثم أفرج عنهم أيضاً دون أن يحاكموا أو يوجّه إليهم أي اتهام.

ولقد كانت تلك الفترة التي قضيتها في السجن مع هذه المجموعة، من أخصب سنوات العمر، إشراقاً روحياً، واطمئناناً نفسياً، وأنساً بالله عز وجل، ورضىً بقضائه، وتذوّقاً لمعاني الأخوّة في الله والمحبة فيه.

وقد تعلّمنا الكثير مما لا يُتاحُ تعلّمه في غير هذه الظروف، وكانت لنا لقاءات وجلسات، يُفيضُ كلّ واحدٍ على إخوانه، مما أنعم الله به عليه، وأكرمه به، من المعاني الإيمانية، والفيوضات الربّانية. ولعلّ السنة الأولى التي كان فيها كلّ واحدٍ منا في خلوة تامّة، في زنزانته الانفرادية، كانت هي الأجمل والأغنى والأنفع، وكان من بعض حصيلتها هذه القصائد والرسائل، التي أمكن تهريبها إلى خارج السجن، والتي أنشرها في هذا الكرّاس، لأول مرة، تلبية لرغبة بعض الأحباب.

ولقد عبّرت عن مشاعري في ذلك الحين، لوالدي الشيخ أحمد عز الدين البيانوني، رحمه الله تعالى، عندما زارني في السجن، بعد حوالي ثلاثة أشهر من الاعتقال، وسألني: كيف حالك؟. قلت له: إني أعيش – بفضل الله – أسعد أيام حياتي في هذه الزنزانة، ألا تذكرُ – يا أبتِ – تلك الأيام والياليَ التي قضيناها معاً في مكة المكرّمة حول الكعبة، وفي مِنى وعرفات، عندما حججنا معاً قبل عام؟. قال: بلى، أذكرها جيداً. قلت: فإني أعيش أياماً ولياليَ في زنزانتي، تشبه تلك الأيام والليالي. فذرفت عيناه – رحمه الله – وقال لي: هنيئاً لك!. جئت أواسيك، فإذا بك تواسيني. ودعا لي، وشدّ على يدي، وشجّعني، ووعدني أن يزورني كلّ شهر، لكنه مرض بعد ذلك، وامتدّ به المرض، حتى توفّيَ في نهاية عام 1975، ولم أرَه بعد تلك الزيارة، كما أنني لم أعلم بوفاته إلاّ بعد خروجي من السجن في السابع من نيسان عام 1977.

كم كنت أتمنى لو أني سجّلت ذكرياتي اليومية عن تلك الفترة، لكن ظروف السجن لم تكن تسمح بذلك، إذ كان مجرّد حيازة قلم أو ورقة أو كتاب أو مصحف.. من قِبل واحدٍ منا، تعتبر جريمة نعاقَبُ عليها جميعا.

ولقد كان من حسن الحظ، أن سلمت بعض القصائد والرسائل، التي أمكن تهريبُها خارج السجن، خلال زيارات الأهل نصف الشهرية، وقد اطلع عليها بعض الأحباب، ورغبوا إليّ في نشرها، وكان أستاذنا الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري، رحمه الله تعالى، يطالني بنشرها كلما التقيته، وكنت أعتذر له وأتعلّل.

وأخيراً، وبعد أكثر من عشرين عاماً، وأمام إلحاح بعض الأقارب والأحباب، وجدتُني مدفوعاً إلى طباعة هذه المجموعة المتبقّية من ذكريات تلك الفترة، لعلّها تعبّرُ – ولو بشكلٍ جزئيّ محدود – عن بعض ملامح تلك المرحلة، التي عشتها مع مجموعة من الإخوة الأحبة، ما زلت أحتفظ لهم في أعماق قلبي، بمحبة خاصة، فلقد سعدت بصحبتهم ردحاً من الزمن، وتعلمت منهم الكثير..

واللهَ أسأل، أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، ويتقبّلَ مني صالحَ عملي، ويقيَني سيئه، وأن يرحم شهداءنا الذين قضَوا في سجون الظّلمة، ويفرّج عن إخواننا الرّابضين في غياهب السجون، منذ أكثرَ من ثمانيةَ عشر عاماً، وما زالوا ثابتين على طريقة الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله.. "وما نقموا منهم إلاّ أن آمنوا بالله العزيز الحميد". وأسأله - سبحانه وتعالى – أن ينتقمَ من الطغاة والظالمين، الذين يحاربون دينه، ويسومون دعاته سوء العذاب، إنه قويّ عزيزٌ شديد العقاب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

15 من رجب 1418 هـ الموافق 15 تشرين الثاني 1997 م

أبو أنس

إلى الأخ المنشد المبدع أبي أنس الدمشقي

أنشد الأخ الكريم أبو أنس (الدمشقي) قصيدة في السجن، ضمنها حنينه إلى أهله وزوجته وولده، وأضفى عليها بعاطفته الإسلامية الصادقة، وختمها ببيت خاطبني فيه بقوله:

أبا أنس سميّي لا  تلمني

إذا غنيتُ، ترجيعي نحيب

فأجبته بهذه الأبيات العشرة التي كانت البداية الشعرية في السجن:

أبا أنس يا رفيق الجهاد

غناؤك تسلية للفؤاد

ألومك! كيف ألوم الهزار

يسبح لله رب العباد!

غناؤك في السجن أنشودة

يرددها الحر في كل واد

غناؤك يا صاحبي شعلة

تنير طريق الهدى والرشاد

تغنَّ أخي سوف أصغي إلى

غنائك مهما يطول السهاد

تغنَّ فليل الظلام الطويل

سيمضي. وليس له من معاد

ومهما يطل ليلنا يا أخي

سيطلع من بعد فجر العباد

وإن نحن لم نشهد الانتصار

ترفرف راياته في البلاد

ففي أنَسَيْنا رجاء كبير

وفي النشء أن يستمر الجهاد

أبا أنس يا حبيب الفؤاد

غناؤك ملحمة للجهاد

وسوم: العدد 767