أين المفرُّ !
يقول المولى تبارك وتعالى : ﴿ مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ ﴾ [ ق: 18]
لو علم الإنسان بمُخبِر يَرقُبُه ويتتبَّعُ أقواله وأفعاله لأوجسَ منه خِيفة، وكان منه على حذَر ، بل لترك ماأقدم عليه ، فما بالُ هذا الإنسان مهما كانت منزلة هذا المخلوق لو علم بأن كل أقواله وأفعاله ونياته هي بين يَدَي العليم البصير جبار السماوات والأرض ، وأنه سيحاسب عليها ، ويومئذ : أين المفر ؟!
وأخصُّ فيها من بني الإنسانِ = مَن عاثَ بالإعلامِ في الأعنانِ
ومَن ارتأى الكذبَ المذمَّمَ قائلا = مافيه زور القولِ والتبيانِ
ومن استفزَّ بخبثه فيما أتى = للناسِ من عبثٍ ومن شنآنِ
ومن المبادئ صاغها أهلُ الهوى = من حاقد أعمى وذي أضغانِ
هاهم بأسواقِ الضلالِ استنسروا = من غير آدابٍ ولا وجدانِ
هم سوَّقوا هذي التجارةَ عنوةً = مستأنسين بدعمِ كلِّ جبانِ
وبكلِّ محفلِ فرقةٍ مأفونةٍ = سيؤول موقعُها إلى الخسرانِ
وبكيدهم هذا الذميم تشكلتْ = أحزابُ أهلِ الغيِّ والكفرانِ
وترعرعتْ مللُ تجافيها الحِجَى = لفسادها ولمكرها الشيطاني
ساقتْهم الأهواءُ بعد نزوحهم = من فطرة الباري إلى الكهانِ
ومن السمو بأنفسٍ جاءَ الهدى = لمكانةِ الإنسانِ والإيمانِ
فاستعملوا نعمَ الإلهِ لشرِّ ما = قالوا من الهذيانِ والبهتانِ
أولاءِ لمَّا يؤمنوا بعقيدة = قدسيةِ التوجيهِ والإحسانِ
فاستعذبوا سوء المقالَ وأدبروا = عن خيرِ ما قد جاءَ في القرآنِ
علماؤُهم أدباؤُهم إعلامُهم = ومفكروهم من فسادٍ عانُوا
ملأ الأذى دنيا الأنام لعُقمِ ما = في جعبةِ الضُّلاَّلِ من نكرانِ
للهِ خالِقهم وللدين الذي = فيه المفازةُ من لظى النيرانِ
أين المفرُّ إذا الموازين انجلتْ = فيها الشهادةُ وانجلى البرهانُ
هيهات ينفعُ من تمادى شرُّه = ما كان من جاهٍ ومن سلطانِ
ومن السفاهة والوقاحة والأذى = للناسِ من فكرٍ ومن عصيانِ
سيكونُ في يوم الحسابِ عقابُهم = عمَّا جنى من زورِ بثِّ لسانِ
ومن الذي فيها جنتْه يداهُ من = قتلٍ وتدميرٍ ومن عدوانِ
مايلفظُ الإنسانُ من قولٍ بها = إلا وسطَّرَ قولَه الملكانِ
طوبى لأهلِ القولِ ماقالوا سوى = ماكان من قيمٍ ومن إحسانِ
وتقومُ آدابُ الأفاضلِ بالذي = تُرضَى فرائدُه لدى الرحمنِ
فالشعرُ والنثرُ اللذان استوفيا = أسبابَ نيلِهما عرا الرضوانِ
كانا من المهجِ التي أوجاعُها = وجعُ الشعوبِ وسطوةُ الطغيانِ
فالقول أخبرْني إذا لم يفضحَنْ = ظلما عرا والبغيَ في البلدانِ
ويُشِدْ بأسبابَ النهوضِ لأُمَّةٍ = قد سامها الطاغوتُ بالإذعانِ
ويفجِّرِ الطاقاتِ في أحنائها = ويُثِرْ مشاعرَ روحِها الربَّاني
والشعرُ أخبرْني فما هو شأنُه = إن لم يكن للدِّين والإيمانِ !
ما أعذبَ الإنشادَ في قيم الهدى = والصَّدْعَ بين الخَلْقِ بالفرقانِ
وبسُنَّةِ الهادي البشيرِ أقالنا = من ظلمةِ الأهواءِ والإذعانِ
أما إذا لعبت به أهواؤنا = أو قد باتَ مطيَّةَ الشيطانِ
أو أنه أضحى لكلِّ متاجرٍ = بحضارة الترفيهِ في البلدانِ
وبكلِّ وادٍ سالَ في جنباته = فسقُ المخنثِ هاج كالفضيانِ
لعبتْ به النزواتُ أغناها الفجورُ . = .بعالَم السفهاءِ والخلانِ
ماعاد يضبطه بها شكلٌ ولا = قيمٌ ولا ماكان من أوزانِ
لم تستقمْ بهرائهم أركانُه = وطلاسمِ المفتونِ بالعمرانِ
فهوتْ بهم لمآلها الموعودِ في = قاعِ الهوانِ وقعره الملآنِ
بالموبقات أباحها أعداؤُنا = وبكلِّ مخزٍ في بني الإنسانِ
وَغَدَا يُباعُ على رصيفِ حضارةٍ = مُجَّتْ حماقةُ زيفِها العريانِ
ركلتْه أرجلُ وعيِ مَن لم يستمعْ = لفحيح أفعى العصر في العنوانِ
يبدو لذيذَ الطعمِ لكنْ سمُّه = غذَّى لهيبَ الحقدِ في البركانِ
قلها بيانا ناصعا لاتفتري = ماشاع من دجلٍ بلا أرسانِ
سيموتُ في سوقِ التَّبخترِ فاقدا = أغلى سُمُوِّ المطلع المزدانِ
ومَن ادَّعى زورا بأنَّ مكانه = عرشَ البيانِ بظله الفينانِ
وهو الهزيلُ بنفسه وبكَلْمِه = وهوى بقاعِ المقتِ لا الإيوانِ
وصُوَيْحبُ المغرورِ يعلمُ أنَّه = لايشتريه بأبخسِ الأثمانِ
ومآلُه ذاك التبابُ لأنه = مثلُ الغثاءِ يطوف في الشطآنِ
قد غرَّه المزمارُ في فمِ فاسقٍ = وعراهُ غيُّ مرارةِ الإدمانِ
يعوي لهدمِ العزِّ في تاريخنا = باسم التقدمِ حيلة الشيطانِ
واسمِ الحداثةِ أفلستْ أسواقُها = تجارُها لم تلقَ من أعوانِ
تاهوا وربِّك في مسارات الهوى = وبغمرةِ التدليسِ والرَّغوانِ
ويلفُّهم سوءُ المآلِ إذا أتى = قدرُ الإلهِ القادر الدَّيَّانِ
أينَ المفرُ بهذه الدنيا وإنْ = جاءَ الحسابُ وجيْءَ بالندمانِ ؟!(3)
طوبى لمَن صاغ الحروفَ نديَّةً = بالصِّدقِ تُروى اليومَ والإيمانِ
شعرًا ونثرًا في تصانيف الهدى = لم يرضَ بالتهريجِ والعصيانِ
هو موئلٌ في ظلِّ نفحِ عقيدةٍ = وترفُّ فيه حكايةٌ و معاني
لله لا للزيفِ والطاغوتِ كانَ . = . حداؤُنا والنَّبضُ في الشريانِ
وبخيره نشدو ليسعدَ عالَمٌ = يرضى بأهلِ الدِّينِ والوجدانِ
والنَّأي عن قبحِ الخصالِ حروفُنا = لم تأتِ بالإسفافِ كالصِّبيانِ
هوامش :
- أقالَ : الإقالة في اللغة: الرفع والإزالة .
- فحيح : الفحيح هو صوت الأفاعي والثعابين الصادر من فمها .
- الندمان : ويومئذ لاينفع الندم .
وسوم: العدد 1098