لولا مَخافةُ خالقي ومُعيني=لصَرَختُ صَرْخَ مُعذبٍ وطَعينِ
أحثو الثَّرىْ مَثوىْ الحَبيبِ وَليتَنيْ=تحْتَ الثَّرى وبكَفِّهِ يَحثونيْ
خوفَ اجتراعي للوداعِ بساعَةٍ=مِنْ ذِكرِها بحَياتِهِ تُبكينيْ
ويَهُزُّ روحي أنْ يَذوبَ بحَسرَتيْ=وتُرى الدُّموعُ بعَينهِ ترثينيْ
فتعودُ نفسي للرَّجاءِ بلَيتَنيْ=كُنتُ المُجاورَ في مَثاويْ الطينِ
يا هادِمَ اللذاتِ عَجِّلْ بالخُطى=رُدَّ الأمانَةَ للَّذيْ يُحيينيْ
لأنامَ مُنشَرِحَ الفُؤادِ بليلَتيْ=ويُغادِرَ الشَّوقُ الرَّهيبُ جُفونيْ
نَفسـيْ تتوقُ لأنْ أراهُ بجنَّةٍ=حَـيَّ الوصالِ لقُربِهِ يُدنينيْ
ويَبوحُ لي بوحَ المُحبِّ كَما مَضى=مُتَبسّماً ويَمينُهُ بيَمينيْ
وضُلوعِيَ الظَّمأى تَحِنُّ لضمَّةٍ=مِنْ صَدرِهِ الحانيْ لكي تَروينيْ
ويقرُّ طَرْفي بالتفاتةِ طرفِهِ=نحويْ فنظرةُ عطفِهِ تحويني
أنا لا أبالغُ إن وصفت أبي=كوني ودنيايَ التي تعنينيْ
والله يعلم ما بصدري نحوه=ما كنت يوماً حانثاً بيميني
لو بالطبابةِ كان طولُ بقائه=لحملتُهُ مشياً لحدِّ الصِّينِ
ودفعتُ عمري درهماً بدوائه= فرضاه من دنيا الأسى يكفيني
وحديثُهُ شهدُ الشِّفا لجوارِحيْ=ولقاهُ بلسَمُ هَدْأتيْ بأنيني
أحسستُ في هرمِ الكهولةِ حينما=صَمَتَ الطبيبُ وخلتُه يَنعيني
دُفنتْ مُنايَ بِساعِ دفنِكَ يا أبيْ=ولفظتها من لحظةِ التكفينِ
قد كنتُ أعلمُ بارتحالِكَ غُربَتيْ=عَنْ بسمَتيْ لتنهُديْ وأنينيْ
ولبرِّ والدَتيْ أنوءُ بعَبْرَتيْ=مُتظاهراً بتجلُّديْ وسُكونيْ
وهيَ التي يبدو بصَفحَةِ وجهِها=رَهَقَ المُحِبِّ وغصَّةَ المحزونِ
فألوذ بالصمتِ الكئيب بحُجرتي=مُستذكراً لحنانِهِ بحَنيني
أتظنُّها "أبَتاهُ" يَنْطِقُها فَميْ؟=روحيْ ووِجدانيْ ولَحْظُ عُيونيْ
دَمْعٌ يَهُلُّ وأصلُ مَنْبَعِهِ دَميْ=فَوِدادُهُ يَسـريْ بنـبـضِ وَتيـنيْ
بالأمسِ كنَّا هانئينَ بعَيشِنا=فتكدَّرتْ أحلامُنا بمَنونِ
طيفُ الحياة تبدَّلتْ ألوانه=في مَطلعِ العِشرينَ من كانونِ
يُتمُ الطفولَةِ ما نعيشُ بلا أبٍ=وصَغيرُنا بأواخِرِ العِشرينِ!
لستُ الجَزوعَ منَ القضاءِ وإنَّما=حَرُّ الفِراقِ وجمرهُ يَكوينيْ
سَهْمُ المَنيَّة في البريَّةِ صائِبٌ=ومَداهُ لَنْ يُخطيهِ أو يُخطينيْ
جَفَّت صحائفُها وحبرُ مِدادِها=آجالُنا من نَفخةِ التكوينِ
وليشهَدِ الثقلانْ عَنّيَ بالرضا=سَلَّمْتُ أمرِيَ للإلهِ مُعيني
لكنَّ بِيْ زفرَ التوجعِ والأسى=وأبُثُّهُ برَحيلِ خيرِ سِنينيْ
أبتاهُ يا سنداً ألوذ بظله=حينَ اشتدادِ ملمَّتي تَحمينيْ
أورثتنا معنى الرجولةِ والفِدىْ=نصرُ الضعيفِ ونَجدةَ المِسكينِ
شهماً جواداً لا تخافُ مَلامةً=من لائِمٍ بالحقِّ أو في الدِّينِ
عَلَّمتَنا برَّ الأبوَّةِ دونَما=أمْرٍ ونَهيٍ مِنْ أبٍ لبَنينِ
كنَّا نَراكَ لِوالِدَيكَ مُعظِّماً=بفِعالِكَ الحُسنى وقولِ اللينِ
فزرَعتَ بِرَّكَ بالفؤادِ مَسَرَّةً=والبرُّ ليسَ بكثرَةِ التلقينِ
ما زلتُ أذكُرُ جَدَّتيْ بِنِدائِها="ناجي الحَنونُ"..فمَن له يُنسيني؟
ما زال ثوبك يا حبيب مُعَلقاً=وأشمُّ فيه مشاعراً تُدميني
ولصوتك الدافي صدىً في خافِقي=للقربِ مِنكَ برقةٍ يَدعونيْ
وأراكَ في وقت الغروب مُرتلاً=للتينِ والزيتونِ مع ياسينِ
إنْ رنَّ هاتفك انتظرت تحيةً=بسماعها من حيرَتي تَشفينيْ
رُحماكَ ربِّي فالحياةُ مَريرةٌ=بغيابِ مَنْ بجَنانِهِ يُؤوينيْ
حيرانُ مكتئِبٌ ويخنقني النوى=وتخيلي لمجيئِهِ يُعيينيْ
سَحّ الدموع من الرجالِ رزية=إلا على مَنْ روحه تفديني
وهو الذي أهدى لنا من عمرِهِ=زهرَ الشبابِ وفيأة السبعينِ
حقاً رحلتَ أيا أبي وتركتنيْ=وحدي أصارعُ ظلمة بسجوني
يا آخذا مني العزاءَ وداعياً=لي بالسلامَةِ.. قل: ليسلمَ دينيْ
إن السلامة للنفوسِ من المُنى=وبقاؤها في الناسِ محضُ ظنونِ
والكل منا عن قريبٍ راحلٌ=بالموتِ إيماني وعينُ يقيني
رباهُ فاكلأني بصبركَ والرضا=وارفع مقامَ أبي بعليينِ