مرآة الغريبة، إلى ابنتي هدى
قال ذو الرّمّـــة، غيلان، يصف ناقته:
لها أُذُنٌ حَـشْــرٌ وذِفْـــرى أَسِــــــيلــــةٌ وخدّ ٌ كَـمِـــرْآةِ الغَــريبةِ أسْـجَحُ
(الديوان: 1217)
قال أبو نصر الباهليُّ، صاحبُ الأصمعيّ، شارح الديوان:
وقوله:" خدّ كمرآة الغريبة": وذلك أنّ المرأة إذا كانت في قوم غرباء، فهي أبداً تجلو مرآتها، تشتهي أن تَحَــسَّــنَ وتَـزّيَّنَ. فشَبَّـه خدّهـا بالمرآةِ المجلوّة.
مـــرآة الغربية
أميرةُ قلبي تسافرُ.
كلُّ الأميراتِ غادرنَ حجرةَ قلبي
وقلن: رضينا
بأنّ تتولى الأميرةُ أمْــرَك طوعاً، رضينا
ونحن الجواري
أميرةُ قلبيَ
قد حمَلتها الأعاصيرُ عنّي
بعيداً، بعيداً،
كعندلةٍ أفلتتْ من جفون النّهارِ
إنّهــا قطرةٌ من دمي
تستوي نجمةً في بلاد "عرارِ"
لتُــنْـشِدَ:
حبّي كقلبِكَ يا أبتي مزهرٌ
كالزنابق في خافقيّ
ـــ من ترى، يا ابنتي،
يزرع الضوء في مقلتيّ؟
من ينام، إذا غبتِ يوما،
على ركبتيّ؟
وعمّـــانُ صوتــانِ:
صوتُ ملاكْ
وصوتٌ نذير بريحِ الهـــلاكْ
وعمّــــــانُ نهْــــرانِ:
نهْــرٌ يخبّئ في الثلجِ
دفْءَ المحبّينَ، فيه أراكْ
ويفتحُ للنّــبَط العابرينَ ذراعيهِ،
يرشقهمْ بالورودِ
وطيبِ الأراك
ويبني عريشاً على ضفّتيهِ،
أرائكهُ
ليس من نَجْــمةٍ تعتليها سواكْ
ونهْـــرٌ يهيّئُ للزائرين الشِّبَـــاكْ
لتغـــدوَ أرضُ الصّحَـــابةِ جِـسْراً إلى التّيهِ.
ما أوحشَ العُــمْــرَ
حين تغيبينَ عنْ صوْتِ أمّــكِ.
والحُــزنُ لبلابــةٌ
تتسلّــقُ أوردةً ساغبةْ
الغواةُ ينـــادونَ:
هذا سبيلُ الهُدى فأْتِــنا،
نبايعْــكَ، عند اشتعال البروقِ،
أميـــراً على الكلماتِ،
ونرفعْ بيارقكَ الغائبة
ولكنّــني
أكتفي بترابي وشمسي
وأقتنص اللحظة الهـــاربة
بَــــرْقُهمْ خلّــبٌ،
وسحابتهُمْ كاذبة
وأرضي مسيّجــةٌ
بنداء النبــوّاتِ،
فلينفخوا ريح أحلامهِمْ في الميادينِ،
وليستعيـــروا لضوءِ البساتينِ
شمسَ سمائهم الشاحبة
ويتّخذوا من نِــيُويورْكَ قبراً لهمْ،
ومن الريحِ زرعاً لهمْ،
وتيجانَهم من وراء البحارِ
فحسبي رواءُ بلادي،
وناسُ بلادي،
يُحيّــونَ من زارهُمْ بالرياحينِ،
نارُ القِــرى عندهمْ
ليس تُـطْــــفِــــئُها طعنات الزّمانِ
أنا يا ابنتي اليومَ شيخ كبيرٌ
يساورني زمنٌ
كان طوع بناني
يرشّ على قدمِـــي الأمنياتِ الحسانِ
فصار كرقطاء يمتصّ هوناً
رحيق كياني
أنا اليوم أنشودةٌ
وقّعتها الأعاصيرُ،
إن صار صوتي بغير صدى في القفارِ
فحسبي صداكْ
وإنْ ناوشتني
مقاريض غربتنا واجتوتني
فحسبي رضاكْ
هما غربتان: فغربة دارِ
وغربة همّ بعيدِ القــرارِ
فيا ربّنا لم يعد من ملاذ سواكْ
فأرسلْ علينا نداكْ
سألت الأحبّة خبزا
وغَــرْفَــةَ ماءْ
وآتيتهم عدّتي ومتاعي
ولكنهم طفَّفوا في العطاءْ
وعمّانُ كم فتحتْ صدرها،
وعرارْ
يغنّي نشيداً بعيدَ القرارْ
وكمْ هيّأتْ لي
ترائبَ مصقولةً
وضفائرَ مجدُولةً
بعبيرِ الأماني
دعتني إلى القدسِ،
يومَ كمال رشيد
يخبّئ أسرارها في العيون
ونبيلة يوقفها الجندُ:
ــ ماذا يخبئُ صدرُكِ؟
ــ حبّاً لأمّينِ:
أمّي التي ولدتني
ونابلسَ، من وهبتني
جَـــمْرة القُـدْسِ،
ثمّ رمتني بقافيةٍ سكنتني
لأنسج حبَّ فلسطينَ
للعاشقينَ رداءً،
إذا شوقُـهُمْ أشعلَ العهدَ في الخافِـقَينِ
ووحّدَ في لحظةٍ
صبوةَ المشْرِقَينِ.
وعمّانُ توقدُ نار القرى للضيوفِ،
وتشعلُ (ريمَ البوادي) بوقع السيوفِ،
وتوقظ نخوتنا العربيّةَ،
تنشدُ لحنَ الغريبةِ:
لبيتٌ تخفـــــــــــــقُ الأرواحُ فيه
أحَبُّ إليّ من قصر منيفِ
وكلبٌ ينبحُ الطّــرّاقَ دوني
أحَبُّ إليّ من نقر الدفوفِ
وأكلُ كُسَيْرةٍ من كسرِ بيتي
أحبُّ إليَّ من أكل الرّغيفِ
ولبسُ عباءةٍ وتقــرَّ عيني
أحبُّ من لبسِ الشفـــوفِ
من زمانْ
من زمَــانٍ بعيدٍ،
رأيتُ خطاهُ مبللّةً بالشّهادةِ،
فاتّــخـَـذ القلبُ عدّتهُ،
ليشايعَ تلك الخطى،
وفي الدّارة الأرقميّة
كنّــا نؤثّثُ أحلامنا،
كطيورٍ مُـهَـــاجرةٍ،
ولُغوبُ المساءِ يرَاودُها،
والقلوبُ تُرتّلُ ما قدْ تيسّر من سورةِ الفجرِ،
("بوشكينُ "كان يُرتّلها،
فتطوفُ على القَصْـرِ،
حـــاملةً شارة النّــصْــرِ)
هلْ كانَ عــزّامُ من عالم الغيبِ
ينظرُ سبْطيَّ (1)
من صُلبهِ يأتيانْ
فينفثُ في كلماتيَ سحْــرَ البيانْ؟
ويُردّدُ صوتي:
سيأتي على الناس يومٌ،
تردّ الودائع فيه،
وتوضع فيه الموازينُ بالقسطِ،
يُنصَف فيه المساكينُ والفُقراءْ
وتُــنْــصَفُ فيه النِّساءْ
سيأتي زمان يقال لكمْ:
أيُّها الشعراءْ
أين كنتم؟
وقد كانت الأرض
تجأر من دعوات الدماءْ
وكانت عساكر نيرونَ
تختطف الناس جهرا
وتقتلهم في العراءْ
وكانت جموع المساكين في سفُــــنِ الموتِ
تبحث عن موتها في بلاد von Goethe البعيدة
(هنالك حيث تجلّى النجاشيُّ،
يمشي الهوينى
بشكل امرأة
يُــوَزّعُ جذوةَ إيمــانهِ في العراء
عسى يمنحُ النّورَ أفئدةً مطفـــأة)
المساكينُ تبحثُ عن ملجأ من مُدى كاليغولا،
وأنيابِــــــه وهْو يمتصّ روح البراءةِ،
أو يشربُ الدَّمَ منتشياً بالدمار
ومجانيقُ كسرى تلَبّي مواثيقَ قيصرَ،
كُـــلّهــمُ والغٌ للقرارْ
والنّجــاشيُّ منْ أمرِ أحلامنا أعجبُ:
أمكّــةُ أم أرض روما
إليكمْ تُرى أقربُ؟
*********
أميرةَ قلبيَ، مجْــلوّةٌ،
مثل أقمارِ صيفِ المساكينِ،
مِرآةُ منْ دثّــرتهُ ثيابُ اليقينْ
فلا تحْــزني، فالأعاصيرُ ليستْ تجذُّ السنابلْ
ولنْ يُخزيَ اللهُ عــزّامَ في قبرهِ
بعدما نضحته العرائسُ طيبَ الشهادةِ،
وانْسابُ نهرُ الطمأنينةِ الحلْوُ من فُوّهات القنابلْ
ونوديَ أن:" قد تدانى لقاءُ الأحبّة"،
وانهلَّ منْ صخْرةِ الحقّ ماءٌ معينْ
**********
ذات يوم تلا شاعر من بلاد العجم
وبعينيه حزن ألمّ:
إذا أنا لم أحترق يا صديق
ولم تحترق أنتَ،
من ذا يضيء الطريق؟
**********
شعبنا يحترقْ
1- السبطان هما: عمر ولينة حمزة عبد الله عزّام.
2- ما بين قوسين ليس مقتبساً.
وسوم: العدد 656