رأَيْتُ مقابلةً في إحدى الفضائيات مع أمِّ في مركز المسنِّين ، هجرها أولادها ، فقلت : دخل الحنانُ غرفة أمِّ قابعةٍ في ظلامِ مركز المسنِّين ، فسمع أنينَها الحارقَ ، ورأى دموعَها اللاهبة ، وهي تنظر في الفضاء البعيد من نافذتها الصغيرة ، علَّها تَرى خيالَ أَحَدِ أَبْنائِها ، فكان هذا الحوار :
دُموعُ الأُمومةِ مِنْ عَيْنِها = تَساقطُ كالغَيْمةِ الهامِيةْ
تَحدَّرُ حبّاتُهُ كالَّلظى = تلهَّبُ نيرانُهُ الحاميةْ
فَتَحْرِقُ قَلْبًا بها يَكْتوي = تُجفِّفُ أَنهارَهُ الجاريةْ
فَجاءَ الحنانُ إِلى جَنْبِها = يُكَفْكِفُ أَدْمُعَها الغالِيَةْ
وقالَ بِصَوْتٍ رَقيقٍ حَزينٍ = أَتبكينَ يا جنَّتي العاليةْ ؟
أَتبكينَ يا دفْءَ أَيامِنا = أَتبكينَ يا شمْسَنا الدافيةْ ؟
فأَنْتِ الضِّياءُ وأَنْتِ السَّناءُ = كُؤوسُ الهناءِ لنا ساقيةْ
أَتبكينَ ؟ أَنْتِ لنا روضةٌ = ظِلالُكِ وارفةٌ حانِيةْ
قُطوفُ حَنانِك لا تَنْتَهي = وأَعْذاقُ أثماركِ الدانيةْ
أَتبكينَ ؟ والدَّمْعُ دُرٌّ نفيسٌ = فَدَمْعُكِ لؤلؤةٌ غاليةْ
أَتبكينَ ؟ تبكي نجومُ السَّما = وتبكي الينابيعُ والسّاقيةْ
وتَبْكي الرياحُ وتَبْكي الغيومُ = تسحُّ الدموعَ كما الغاديةْ
أَتبكينَ ؟ تبكي الدُّنا لوعةً = وَتَبْكي حمائِمُنا الشَّاديةْ
أَنا إنْ بَكَيْتِ غَدَوْتُ اليَتيمَ = وَهَمُّ الدُّنا فوقَ أَكْتافيةْ
فقالت : وهمُّ السِّنينِ الطِّوالِ = وزفْراتُ حُزْنٍ بَدَتْ عاتيةْ
حَنانَكَ يا منْ لَهُ أَضْلُعي = يحلُّ بها الرُّتْبَةَ الساميةْ
زُرِعْتَ بقلبي فكُنْتَ النَّخيلَ = بأَعْذاقهِ الحُلوةِ الزَّاكيةْ
فقسَّمْتُها رُطَبًا تُشْتَهى = وَوَزْعْتُها بينَ أَوْلاديَهْ
لقدْ كنتُ يا وَلدي حِضْنَهمْ = وطاعمةً كنتُ والفاليةْ
ومنْ ثَدْيِ قلبي أُروِّيهِمُ = وأَمْضي على عَطَشٍ ظاميةْ
وأَمضي الَّليالي إذا ما شَكُوا = مُمَرِّضةً بالدُّعا راقِيَةْ
حياتيَ مِنْ أجلهمْ بِعْتُها = أَمانيَّ دنياهمُ الزاهيةْ
فلما غَدُوا في شَبابٍ وريفٍ = ولمّةِ شعرٍ كَما الدَّالِيَةْ
نَسُوني وفي رُكْنِ هذا المكانِ = رَمُوني كَما الخِرْقَةِ الباليةْ
فَهذي دُموعِيَ يا خالِقي = منَ القلبِ مُوجَعَةٌ باكيةْ
تَجيءُ وحُرقةُ أَيّامِها = إِلَيْكَ بِلَوْعاتِها شاكِيَةْ
فأَنْتَ الحَكيمُ وأَنْتَ البَصيرُ = وأَنْتَ العليمُ بأَحْواليَهْ