إلى أمي الحبيبية
إلى التي حَمَلَتْني وتَحَمَّلَتْني ...
إلى ربَّتي التي ربَّتْني وعلَّمَتْني ...
إلى من يخجلُ الشِّعْرُ في وصفِ قدمَيْهَا
فكيف في وصفِ ما فيها وما لَدَيْهَا ...
إلى مهجة الروح ...
إلى أمي الحبيبة ...
حنانُ الأمِّ لو تدري
عظيمُ الشانِ والقَدْرِ
عميقٌ لا قرارَ لهُ
وبحرٌ ليس كالبحرِ
وسيلٌ جارفٌ عَرِمٌ
جرى من نبعةِ الخيرِ
وبئرٌ عذبةٌ أبداً
على البيداءِ والسَّفْرِ
وزهرٌ لا ذبولَ لهُ
يضُوعُ بأطيبِ العطرِ
شعورٌ لا مثيلَ لهُ
وليس يُقاسُ بالـحَصْرِ
ولا إنسٌ يجودُ بهِ
ولا وَجْدُ الهوى العُذْري
وعاطفةٌ صبابتُهَا
تُذيبُ معادنَ الصَّهْرِ
وإحساسٌ لهُ أثرٌ
معاذَ اللهِ كالسِّحْرِ
حنانٌ للنُّفُوسِ غدا
ملاذاً دافئَ الصدرِ
ومنتجعاً ومتكأً
وثييرَ القلبِ والظهرِ
نُزُولُ الغيثِ حكمتُهُ
سخيٌّ دائمُ القَطْرِ
فَكَمْ هطلتْ سحائبُهُ
على الفيحاءِ والقَفْرِ
وكم سُكبَتْ مودّتُهُ
على يُسْرٍ ورا عُسْرِ
نقيٌّ لا يُشَابُ ولا
يُعَابُ كخالصِ الدُّرِّ
وما غَرُبَتْ محاسِنُهُ
وتَغْرُبُ نَجْمَةُ العَصْرِ
حنانُ الأمِّ مختلفٌ
بسكرتِهِ عنِ الخمْرِ
فخمرتُهُ مُحَلَّلَةٌ
وفوقَ الخمرِ في السُّكْرِ
وليسَ الإثمُ مصدرَهَا
ولكنْ كوثرٌ يجري
وهلْ غيرُ التي ذُكِرَتْ
يُنادِمُ طيفُهَا فكري
ويَشْغلُني تَعَلُّقُهَا
وقد دامتْ على ذكري
فيا أمي التي سَهِرتْ
وذاقتْ حنظَلَ المُرِّ
وأفنت نفسها تعباً
لأجلِ سعادةِ الغيرِ
ولم تَمْنُنْ على أحدٍ
بقَدْرِ قُلامةِ الظُّفْرِ
وصامت غيرَ مُفطرةٍ
وما صومٌ بلا فطرِ
سوى نفس مُسارِعَةٍ
إلى الخيراتِ والبِّرِّ
وكم أعطت وكم نذرت
وكم أوفت على النَّذْرِ
وكم ضحّت بمهجتها
تُريدُ اللهَ بالنّحْرِ
وكم ضارت حُشَاشَتُها
من الإحساسِ بالفَقْرِ
وكم باتت مُقَرَّحَةً
تُعاني رِقَّةَ الخصرِ
وما سَئِمَتْ وما يَئسَتْ
من الإقْدامِ والكَرِّ
كأنّ الحُبَّ يَعْصِمُهَا
منَ الإحْجَامِ والفَرِّ
تَمُدُّ لنا عواطِفَهَا
على الأهْوالِ كالجِسْرِ
لِنَعْبُرَ فوقَ أنّتِهَا
بلا رَوْعٍ ولا وَعْرِ
وتمسَحُ عن مشاعرِنَا
قُرُوحَ البردِ والحَرِّ
وتكسونا الأمانَ إذا
تعَرَّيْنا منَ الذُّعْرِ
بأيديها تُوسِّدُنا
وِسادَ الأنْمُلِ العَشْرِ
إذا ما الليلُ أرَّقَنا
تُلازِمُنا إلى الفَجْرِ
تُداعبنا وَ تُضْحِكُنا
وأدمُعُها على النَّحْرِ
ويُفْرِحُنا إذا ضَحِكَتْ
تبسُّمُ ذلكَ الثَّغْرِ
تُعَلِّمُنا بلهفتِها
علينا شِدَّةَ الأسْرِ
تُلَمْلِمُ عنْ جوارِحِنا
خِداشَ الضُّرِّ والشّرِّ
وتدفعُ عن هواجِسِنا
صُروفَ الهمِّ والأسْرِ
وتزرعُ في مضاجِعِنا
نعيمَ رياضِهَا الخُضْرِ
جديدَ الثوبِ تُلْبِسُنا
وما لَبِسَتْ سوى الطِّمْرِ
وما ادَّخَرَتْ لفرحتِها
سوى الإطراءِ والشكرِ
لها قلبٌ أضالِعُهُ
تُزلزلُ قسوةَ الصَّخْرِ
تُفجِّرُها مشاعرُها
بعاطفةٍ منَ الجمرِ
وآهاتٍ مُنَقَّبَةٍ
عصِيَّاتٍ على السَّبْرِ
ولولا أنها طَهُرَتْ
وكانت غايةَ الطُّهرِ
لكانت نارُ لهفتِها
كنارِ جَهَنَّمِ الحَشْرِ
يقيناً لا يرى قلبي
سواها في مدى العُمْرِ
أراها فوقَ معجزةٍ
أراها توأمَ الدّهْرِ
لأدعو اللهَ مولانا
إلهيَ صاحبَ الأمْرِ
بأنْ يجزي أُمُومَتَهَا
جزاءً أعظمَ الأجْرِ
ويكلأها برحمتهِ
بعينِ الحفظِ والسّتْرِ
ويكتُبَ في صحائفِها
ثوابَ الفتحِ والنصرِ
يميناً إنَّ منْ حَملتْ
شقاءَ النفسِ بالصّبْرِ
وكانت في مواجِعِها
تَصُدَّ الدََّاءَ بالقَّهْرِ
لَنَفْسٌ لا يُشاركُها
صغيرُ الذّنبِ والإصْرِ
فكم شغلت بواجبِها
فراغَ اللهْوِ والهدْرِ
ولم تُهْمِلْ فرائضَها
بعذرِ أو بلا عُذْرِ
وكم ضاقَ الكرى ذرعاً
بما أبدَتْ منَ الهَجْرِ
كأنَّ النَّوْمَ ماتَ بها
فآوَتْهُ إلى القَبْرِ
وكم باتت تُضَمِّدُنا
وتَجْبُرُ عظْمَةَ الكَسْرِ
لِتَجْمَعَ شملَنا فيها
بحضنٍ واسعِ الْحُجْرِ
ولا تشكو إلى أحدٍ
سوى الرحمنِ في السِّرِّ
وكم كانت حماسَتُها
تفوقُ حماسةَ البِكْرِ
وكانت رغمَ شيبتِهَا
على الأيامِ كالنَّسْرِ
تُبارِزُ كلَّ نائِبَةٍ
وتبري مِخْلَبَ الصَّقْرِ
لترعانا وتحرُسَنا
وتحمي حُرْمَةَ الخِدْرِ
يميناً إنَّ من أخذت
تَغُضُّ الطَّرْفَ بالشُّفْرِ
عنِ المُخْطي الذي ينسى
جميلَ الفضلِ بالنُّكْرِ
وكانت لا تُسيئُ إلى
فِرَاخِ الطيرِ والذَّرِّ
وكانت لا تُسيئُ ولا
تردُّ الغَدْرَ بالغّدْرِ
وتملأُ كفَّ جاحِدِها
بما يُغْري وما يُثْري
وتلقى وجهَ مُنْكِرِها
بوجهِ الصَّفْحِ والبِّشْرِ
لَنَفْسٌ بَرَّةٌ قَنَعَتْ
منَ الأشياءِ بالنَّزْرِ
وما شَحَّتْ بما مَلَكت
وإنْ عاشَتْ بلا وَفْرِ
وما نَهَرَتْ إذا سُئِلَتْ
تَجُودُ بخَاتَمِ الْمَهْرِ
لعمري لا أرى أحداً
ينيرُ الحرفَ في السَطْرِ
سوى أمي التي سكبت
غديرَ الرُّوحِ في الحِبْرِ
فكانت آيةً عجباً
منَ الآياتِ في السِّفْرِ
ولولا أنْ يُعَيِّرَني
جميعُ الناسِ بالكُفْرِ
لقلتُ بأنَّ الأمَّ غدت
كآيَةِ مُحْكَمِ الذِّكْرِ
يميناً إنَّ منْ صنعت
رحيقَ الذِّكْرِ والفخرِ
لنورٌ يستضاءُ بهِ
كنور الشمسِ والبدْرِ
ونفسٌ لا يُكاقِئُها
بديعُ النَّثْرِ والشِّعْرِ
ومهما كانَ شاعرُهَا
عظيماً .. فهو لا يدري
وسوم: العدد 713