جسْر على نهر دَرينا
(ملحمة الإسلام في البوسنة والهرْسك)
(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) سورة التوبة 19
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا .وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴿٣٩﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ .وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا. وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّعَزِيزٌ ﴿٤٠﴾
سورة الحج
إشارة
تستعير هذه اللوحات الشعرية عنوانها من رواية الكاتب البوسني، الكاثوليكي، إيفوأندريتش: (جسر على نهر درينا)، التي ظهرت غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، عام 1945.
إن رواية (جسر على نهر درينا) تختصر تاريخ البوسنة والهرسك، منذ الفتح العثماني حتى الاستعمار النمساوي، برؤية الكاتب الخاصة.
لقد بُني الجسر الذي كان قائما على نهر درينا، عام 979ه (1571م)، بأمر الوزير العثماني محمد باشا سوكولوفيتش الذي ولد في قرية صغيرة، من قرى البوسنة، قرب فيشيجراد، القرية الواقعة عند ملتقى النهرين: درينا ورِزاف، وقد أراده الوزير رابطاً بين الإقليمين العثمانيين: البوسنة والصرب.
واليوم، يعود نهر درينا ليشهد مآسي لم يعرف لها العالم نظيرا، حيث يقوم الصرب بتذبيح المسلمينَ، رجالا ونساء وأطفالا، ويلقون بجثثهم إلى النهر.
وحين يمتنع النهر عن التهام الجثث، فتظل طافية، يقوم الصرب ببقرها لتستقر في أعماق النهر..
إن أعماق نهر درينا تضم اليوم كثيراً من الشهداء.
إنّني أرفع هذه الأشعار إلى المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، من شعب البوسنة والهرسك، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
وجدة: 4 جمادى الثانية 1413/29 نوفبر 1992
إضاءات
{1}
«أخذ بعض سكان المدينة ينشدون معاً، على طريقة أهل المدينة هذا النشيد، وقد شحبت وجوههم من فرط الانفعال:
" في سراييفوا والبوسنة
كلّ أم حزينة
من فراق ابنها
الذي بعثت به إلى الإمبراطور مجندا »
الرواية: 1/313.
{2}
كتب بديع، الشاعر العثماني، أبياتا شعرية نقشت على الجسر. وكان النص المنقوش هو التالي: «هذا محمد باشا، أعظم العظماء وأحكم الحكماء في عصره. لقد وفى بالعهد الذي قطعه على نفسه، فأقام بعنايته وجهوده هذا الجسر على نهر درينا. على هذا النهر العميق السريع الجريان لم يستطع أن يفعل سابقوه شيئا.
والله أسأل أن يجعل مبناه قويا متينا، وأن يرفل بثوب السعادة، وألا يعرف الحزن إلى قلبه سبيلا، لأنه ظل طوال حياته ينفق الذهب والفضة في أعمال البر. وما من أحد يستطيع أن يقول إن المال الذي ينفقه في هذه الوجوه يذهب سدى. إن «بديع» الذي رأى كل ذلك قد نظم هذه الأشعار حين انتهى بناء الجسر. بارك الله هذا المبنى الذي بلغ في جماله الإعجاز».
الرواية 1/83.
{3}
«من يدري؟ لعل هذا الدين الباطل (المسيحية) الذي ينظم أهله كل شيء، فينظفون ويصلحون ويحسنون، من أجل أن ينسفوا وأن يهدموا بعد ذلك في لحظة واحدة كل شيء، لعل هذا الدين الباطل سينتشر في المستقبل على الأرض كلها، فإذا أهله يجعلون من جميع هذا العالم الذي خلقه الله ساحة مقفرة لبنائهم المجنون وتخريبهم المجرم، ومرعى لجوعهم الذي لا يشبع، وشهواتهم التي لا تفهم.. كل شيء ممكن. غير أن هناك شيئا واحداً يستحيل أن يكون، وهو أن تخلو الدنيا خلواً تاماً، إلى الأبد، من رجال عظماء حكماء، أصحاب نفوس سامية، وهمم عالية، يبنون في سبيل الله مباني باقية خالدة، لتصبح الأرض أجمل، وليعيش الإنسان حياة أفضل وأسهل. فإن اختفى مثل هؤلاء الناس كان معنى ذلك أن حب الله قد انطفأ وزال من هذا العالم، وذلك ما لا يمكن أن يكون».
علي خجا، بطل الرواية، قبيل استشهاده.
{4}
كما يقع كثيراً في تاريخ الإنسانية، أصبحت أعمال العنف والنهب وحتى القتل من الأمور التي يسكت عنها وتباح، شريطة أن ترتكب باسم مصالح عليا، وتحت ستار شعارات معينة، وأن تنزل على عدد صغير ممن يسمّون بأسماء معينة، وينتمون إلى عقيدة معينة.
الرواية: 2/149.
ورقة مُهْملة
من سيرة حيران بن الأضعف
عنْدَما كُنَّا صِغَارا
نكْتُبُ الشِّعْر جِهَارا
للعَذَارى
كانتِ الأيَّامُ حُلْماً
شَعَّ في الأفْقِ بهيجاً
لحْظَةً ... ثُمَّ تَوَارى
لم نَكُنْ نَعْرِفُ يومَ احْتَضَنَتْنَا الجَامِعَة
فاحْتَرَقْنَا في ميادينِ الصِّرَاعِ
أنَّ أبناءَ الأفَاعي
في الَّليالي الحالكَة
ينْفُثُونَ السُّمَّ باسْمِ الطَّبَقَاتِ الكادحة
في العروق الجائعة
عِنْدَمَا كانَ صَدِيقي
ذلك السَّاري على سَاقِ الأجَلْ
في دَيَاجِي اللّيْلِ يسْتَنْطِقُ أعْنَاقَ الْجِيَادِ النَّافرة
يومَهَا طَلَّقْتُ أشْعَارَ الْغَزَلْ
وأناشيدَ الضَّيَاعِ
واتَّخَذْتُ الحُزْنَ في الدَّرْبِ رَفِيقا
وادَّخَرْتُ الفَرَح المَوْعُودَ للشَّعْبِ..
وكَوْكَبْتُ الأمَلْ
عندَمَا كُنَّا نُغَنِّي الشِّعْرَ والثَّوْرَةَ
في سَاحَةِ ( هوشِي منْه)
والقلْبُ على الكَفِّ وَ( يومِيَّاتُ بُولِيفْيَا) وأشْواقُ الكفاحْ
لم نكُنْ نعْرِفُ غَيْرَ" دْيَانْ بِيَانْ فُو"
أمَلاً يَشْفِي الجِراحْ
ويُغَنِّينَا" صُمَادِحْ"
" هُوَ شَيْءٌ مِنْهُ، مِنْ سُهْدِ التِّلالْ
فلْتَكُنْ ذِئْباً وخَلِّ الصَّابرينْ
خلّةُ الصَّبْرِ سلاحُ العاجزينْ
وبَنُو الأرْضِ ذئابٌ كلُّهُمْ
لا تَكُنْ فيها الخَرُوفَ المسْتَكِينْ"
عندما كنْتُ على حَائِطِ بَرْلِينَ أخُطُّ الأحْرُفَ الأولَى جِهَارا
ثُمَّ أدْعو: (شِي جِفَارا)
لم تكُنْ – وا أسَفَا- أنْوَالُ عنْدِي
نجْمَةً في الصُّبْحِ تَهْدِي السَّالكينْ.
عندما كانَ الفَتَى الأشْقَرُ إسْمَاعِيلُ
( ذاكَ الألَقُ القادِمُ منْ قَلْبِ سِراييفو الأبيَّة)
كلَّمَا قامَ ليتلُو سورةَ الفَتْحِ قُبَيْلَ الافتتاحْ
ضجَّتِ القاعةُ بالإعْجَابِ أو بالصَّمْتِ أو بالاِحْتِجَاجْ
عندما كُنَّا نَرَى الثَّوْرةَ منْشُوراً خُرَافِيًّا
يرجُّ الشَّعبَ عبْرَ البُنْدُقِيَّةْ
يومَهَا وشْوَشَنِي الشَّيْخُ الفَتَى:
إنِّي سَأُفْضِي لَكَ بالسّرِّ، فلا تجْهَرْ بهِ
من قَبْلِ أنْ تُؤْنِسَ نَارَ الأبَدِيَّةْ
فجميلُ الصَّبْرِ مفتاحُ القَضيَّةْ
يا بُنَيّ
سوفَ يأتي- واحْفَظِ القَوْلَ- عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ
تُصْبِحُ اللِّحْيةُ فيهِ بُنْدُقِيَّةْ
وخِمارُ البنتِ يغْدُو قُنْبُلةْ
وظننتُ الشَّيْخَ يَهْذِي
وبأعماقِي ضَحِكْتُ
لم أكُنْ أفْقَهُ شَيْئاً
وهْوَ يتْلو الزَّلْزَلَةْ
البَيان
( كل المشاهد تقع قرب الجسر القائم في أقصى المسرح. فعلى الجسر تعلق إعلانات الغزاة، ويعلق الضحايا، ويصلب الثوار، الخ… تقوم الإنارة بمهمة رئيسية في التعبير.)
- علي خوجة: سوْفَ نَقْضِي ليلةً باردةً
ليلةً أخْرى على وقْعِ الدَّمارْ
ليلةً يغْمُرُها صوتُ الرَّدى
لحْظةُ العيْشِ بها ثوْبٌ مُعَارْ
- إسماعيلوفتش: ليلةً أخْرى وينفَكُّ الحِصَارْ
( يتنهد) آهِ ما أقْسى الحِصَارْ
- على خوجة: لا تُمَنِّ النَّفْسَ بالوهْمِ
- إسماعيلوفتش: أليسَ الصُّبْحُ في الأفْقِ؟
- على خوجة: بلى! حانَ النَّهارْ!
إنَّهُ فَصْلٌ جَدِيدٌ مُرْعِبٌ
منْ حَكَايا القصْفِ يتلوهُ انْفِجَارْ
ثُمَّ مَاذَا؟
- إسماعيلوفتش: ( متعجبا) ثُمَّ ماذا؟!
( وكأنه يذكر صاحبه)
تمَّ توقيعُ الوثيقَةْ!
وبهَا أنَ انْبِثَاقَ الفَجْرِ ميلادٌ جديدٌ
للجماهيرِ الَّتي ما فَتِئَتْ تحْلُمُ بالشَّمْسِ طليقةْ
- على خوجة: قد نصحتُ القومَ لكنْ لا تحبُّون النَّصيحَةْ
إنَّنَا للمَرَّةِ الألْفِ عقَدْنَا الصُّلْحَ لكنْ…
تحْتَ خَيلِ الكُفْرِ أضْحى كلُّ عَقْدٍ
مثْلَ أحْلامٍ كسيحَةْ
- إسماعيلوفتش: لا تَدَعْ لليأسِ سُلْطَانًا عليكْ
فغداً تُشْرِقُ أنوارُ الحقيقةْ
وغداً ….
( يُسمعُ صوت انفجارٍ قويٍّ… ويظهرُ لمعانُ القصْف).
إسماعيلوفتش: قصْفٌ …دمارٌ…ضحَايا…
الكَوْنُ أصبح أبلهْ
على خوجة: ( في ثقة) تَرْكُ الجهادِ مَذَلَّةْ
( تعتيم، ثم إضاءة،
يظهر بعدها صبي يقرأ جهارا وثيقة معلّقة على الجسر )
الصبي يقرأ : -
نحن " فرنسوا جوزيف الأول إمبراطور النمسا..
نعلن لأهالي البوسنة والهرسك ، ما يأتي :-
إننا لم نأت إليكم أعداء، بل أصدقاء، وإننا نعزم عزماً قويّاً على إزالة جميع الشرور التي أثقلت كاهل وطنكم خلال سنين".
"…وعلى أساس الاحتفاظ بذكرى الصِلات التي كانت قائمة منذ أزمنة بعيدة بين هذين البلدين وبين أسلافنا الأماجد الذين تعاقبوا على عرش المجر، فقد جعلنا حقوق سيادتنا تشمل البوسنة والهرسك…."
" اعلموا أن المساواة بين الجميع أمام القانون والمشاركة في وضع القوانين، وإدارة البلاد، وحماية جميع الأديان وجميع اللغات، وجميع الخصائص القديمة، على حد سواء، اعلموا أن كل هذه الخيارات العظيمة، ستتمتعون بها كاملة غير منقوصة.
حرية الأفراد، وخير الجماعة، ذلك هو النجم الهادي الذي سيقود خطوات حكومتنا في هذين البلدين "
( يتجدد القصف، وتضطرب الأمور،
... تعتيم )
الجرْح الهادر
صوت الشاعر
كبر الحُلْمُ على كفِّ اليقينْ
ثم غالتْهُ أعاصيرُ السنينْ
ها أنا أحكْي لكمْ عنْ قَرْيتي
يا أحبِّائي الصِّغَار الطَيِّبِينْ
عن طيور هَاجَرَتْ أوكَارَها
عن رجالِ القَرْيَةِ المسْتَضْعَفِينْ
هذه القرْيةُ كانتْ موْئِلا
للعَصَافِيرِ ومأوى الياسمينْ
تَقْرعُ الأجْراسُ فيها غدوةً
بابةَ الصّبْرِ على رُكْنٍ مَكِينْ
والأذانُ الغَضُّ في أرْجائِها
يَنْشُرُ البِشْرَ ويَهْدِي السالكينْ
فحَيَاةُ النَّاسِ نَبْضٌ خَافِقٌ
بيْن إنْجِيلٍ وقُرآنٍ مُبينْ
النَّدَى منْشُورَةٌ رايَاتُهُ
والسلامُ البِكْرُ وضَّاحُ الجَبِينْ
يا قروناً خَمْسةً لألاءةً
كرحيقِ الفجْرِ ما بيْن القرونْ
مَنْ طَوَى أعلامَكِ الخضْراءَ؟ منْ
نسجَ الأكْفَانَ للحَقِّ الرَّزينْ؟
قَدْ غَدَا نَهرُ ( دَرِينَا) ظامئاً
ولكَم كَانَ يُرَوِّي الظَّامئينْ !
والعَصَافِيرُ التي كَانتْ هُنَا
زينَةَ الرَّوْضِ وكُحْلَ النَّاظرينْ
ذَبَحُوهَا …هَدَّمُوا أعْشَاشهَا
صَادروا ألْحَانَهَا بيْنَ اللُّحُونْ ..
هَتَكُوا سِتْرَ الصَّبَايا، عَذَّبُوا
كُلَّ شَيخٍ… قطَّعُوا كُلَّ وتينْ
سَرَقُوا الأطْفَالَ مِنْ أُمَّاتِهِمْ
شَرَّدُوهُمْ.. يَا لَظُلْمِ الظَّالمينْ
قَتّلُوا كُلَّ أَبِيِّ… صَلَّبُوا
يَا سَرَايِيفُو بَنِيكِ المُهْتَدِينْ
جَمْرَةٌ مُطْفَأَة ٌشَمْسُ الضُّحَى
وفُؤادُ اللَّيْلِ بَكَّاءٌ حَزينْ
جُنَّتِ الأرْض ُمن الذَّبْحِ، فَمَنْ
يَمْلِكُ الرُّقْيَةَ من مَسِّ الجُنُونْ؟
يا دُموعَ الأرْضِ كُوني منصلا
يتَلَظَّى في صُدورِ المعْتدينْ؟
يا سراييفُو جراحِي جَمَّةٌ
ونداءُ القلْبِ مكتومُ الأنينْ
واصطباري فيك أضْحى خنجرا
كلهيبٍ يبْعثُ الدَّاء الدفينْ
يا حواريّيّ جُرْحي هادرٌ
بعْدَ صَمْتٍ، وغَضوبٌ بعْدَ لِينْ
إنَّها مسْألَةٌ واحدَةٌ:
أنْ نكون الآنَ.. أو أن لا نَكُونْ
الصَّلب
( رجل معلق ، موثق إلى الجسر )
حاصَروني
أنا لا أدْري لماذا حاصَروني
ولماذا اعْتَقَلُوني
ولماذا فوقَ هذا الجسْرِ ظُلْماً صلَبُوني
أنا لا أدْري لماذا اغْتَصَبُوا أخْتي حيالي
يا لعَاري
يا لذلِّي وانْكساري
ولماذا عذَّبُوا أمِّيَ واقتادوا أبي للاعتقالِ
أنا لا أدْري لماذا قيّدونا بالسَّلاسلْ
فأبي الفَذُّ المناضلْ
كان تحْتَ الرايَةِ الحَمْرا يقاتِلْ
يدفع النَّازيَّ في ليْلِ المحَنْ
عن ( بلِكْراد) وعن( زغْرِبَ) عن كلِّ مدينةْ
فقدتْ طعم السّكينةْ
وأبي ظَلَّ يقاتِلْ
عَنْ سراييفو التي تشْمخُ في قلْبِ الزّمنْ
نحنُ دافعنا عن الأرضِ، عن العرْضِ، وعنْ مجْدِ الوطنْ
فلماذا اليومَ صرْنا غُرَبَاءْ؟
ولماذا اليوم صِرْنا كالوبَاءْ؟
الواقِعة
-تلك غرناطةُ، أم تلك سراييفو الشهيدةْ
مثل أم حُرَّةٍ غاب بنوها
(خَرَّ منْ خَرَّ، ومنْ فَرَّ فقَدْ فَرَّ)
وفي الأفْق نداءٌ نازفُ الجبْهةِ
يسْتَصْرخُ أبنَاء العقيدةْ
- ليت للمسْلمِ عيناً فترى
ما ألاقِي من عذابٍ وضنى
قيَّدوني ..عذَّبوني.. ضربوا
موطِنَ العفَّة منّي بالعصا
- آه يا أمِّ اعْذرينا
نحن أصبحنا أُسارى الذّلِّ والقهْر الشَّديدْ
اعذرينا
فلقدْ أدمتْ سجايانا القُيودْ
- لم أجدْ عُذراً لكُمْ، بعد امتهانِ العِرْضِ والدِّينِ…
وما غبطةُ حيٍّ صار يحيا كالعبيدْ؟
لم أجدْ عذراً سوى أن تطلبوا دربَ الشّهيدْ !
الاغْتصاب
( صراخ مدمر للأعصاب، ينطلق من حناجر الصبايا اللواتي يتعرضن لتعذيب شيطاني لا يوصف)
لجسدٍ مُرْتعِشٍ
على سريرِ الرُّعْبْ
لصرخةٍ موءودةٍ
من طفلةٍ شرقيّةٍ شقراءْ
تجأر بالدُّعاءْ
لرافع السماءْ
لجسدٍ مُنْفَطِرٍ
ممَّا جناه الصِّرْبْ
وأذرعٍ مشْلولةٍ
تهتفُ في مرارةٍ: يا ربّْ
صيَّرْتُ سيْفي قَلَمي
جعلتُ حِبْري من دماءِ القلْبْ
لعلَّ رمْحَ الصَّرخة الخرساءْ
يشقُّ قلْبَ عابِدِ المحْرابْ
بالغضبِ المغمُوس في قرارةِ الأحقابْ
ويبعثُ الدماءْ
كاسحةً من قلب هذا الشّعْبْ !
الذّكْرى
ذكر القَرْيةَ
فاشْتاقَ ..
فأغْفَى لحظَةً
ثُمَّ تَنَهَّدْ
هاهنا ربْعي الطفوليُّ
هنا حلْمي الربيعيُّ
هنا بستانُ أحلامي المنَضَّدْ
وهنا في الأفُقِ الغربيِّ شلالٌ من الضّوْءِ
لُجَيْنيٌّ تهجَّدْ
فوقهُ شلال عَسْجَدْ
هاهُنا نهْر تجَمَّدْ
( أيُّها النهْرُ الذي يلفظ أكوامَ الجثثْ
أيُّها النهْر الشَّهيدْ
كيف يغدو الدمُ ماءً؟..
كيف يغدو القتل، كاللعبة؟
سجِّلْ أيُّها النهْر الحدثْ! )
ها هنا لفحةُ شمسٍ، فوقها ظلٌّ تمدَّدْ
وهناك انتصبَ السَّرْوُ على جبهته تاريخُ شعْبٍ
هَدَّهُ القهْرُ، وضجَّ الصَّبْرُ في الصَّدْرِ..
فأرغى ثُمَّ أزبَدْ
هاهنا شهقةُ بحْرٍ
هاهنا صولةُ غابةْ
هاهنا غيمةُ عشْقٍ
هاهنا ظلُّ سحابَةْ
هاهنا هاجرةٌ تنفي عن الصدر الصَّبابةْ
هاهنا أمشاجُ ذكرى :
ضِحْكةٌ،
حُلْمٌ،
كآبةْ
الرُّؤْيا
يا مُحمَّدْ
دعْ عيون القمرِ النَّاعِس تشْهدْ
دعْ شفاه النَّهَرِ الظّمآنِ تشهدْ
مولدَ الفجْرِ على ساعدِ شيْخٍ يتعبَّدْ
مثل بلقيسَ التي أبْصرت الحقَّ
وقد لامست الصَّرْحَ الممَرّدْ
يا مُحَمَّدْ
قُمْ إلى النهْر، وصِلْ ما بين مشكاتين:ِ عِيسى ومُحَمَّدْ
إنَّ ما بين( فشيجرادَ ) و ( إسطنبولَ ) حبلٌ مبرمٌ…
عهدٌ موطَّدْ
وغدا يعلو على نهْر دَرينا
جسرُ إيمانٍ منَضَّدْ
رغْم قبْرٍ يتمرَّدْ
يا مُحَمَّدْ
أُحْدُ باسْمِ اللهِ…ضعْ رجليك في عزِّ الركابْ
إنَّها قافلةُ الإيمانِ لا تخْشى الذئابْ
الخُرافة
كان مارْكُو يثِبُ الوثْبَةَ..
تَنْشَقُّ لها الأرضُ وتنهَدّْ.
اتَّقِ الغولَ!
وما الغولُ؟
خليعٌ عربيٌّ ضيّقُ الجبهة أسودْ
يطلُعُ الليلةَ من قلْبِ الجدارْ
يزرع الرُّعْبَ بأحْداقِ الصِّغارْ
مسلمٌ أنتَ؟ إذن أنت من التُّرْكِ..
أتُرْكيٌّ؟ إذن أنت غريبْ
بل عدوٌّ ظامئٌ للدّم والقَتْلِ المريبْ
الحَقيقة
أغريبٌ أنا في أرضيَ؟
هيهاتَ.. أبي روّى ثراها
كلُّ شبْرٍ فوقها يشهد أني مَنْ بناها
ورعَاها
وسقَاها
فأنا الذي جَمّلتُ من حُلَلِ الهدى أقطارَها
ورفعتُ ألوية السلام بها وشدْت منَارها
وأبي الذي من أجلها أعطى دمهْ
ضحَّى لتبقى مُسْلِمَةْ.
بديع يتلو أشْعاره
{1}
طاول النجمَ الحجرْ
شاخت الأزهارُ..
والبدر انتحرْ
وتمطَّت عند أعتاب القمرْ
ذئبةٌ تعزف ألحان الظفَرْ
{2}
أيُّهَا الجسْرُ الوديعْ
أيُّهَا النهْرُ العميقْ
عمْقَ إيمانِ العجائزْ
أيُّهَا النهر السَّريعْ
أيُّهَا الملهِمُ أشعَارَ بديعْ
يا رفيقي، منذ أنْ عز الرفيقْ
ما الذي يبْقى من الشّعْرِ إذا صار فماً دونَ قضيَّةْ
ما الذي يبقى إذا صار كَوَرْدِ المزهريّةْ
في بلاط المترفينْ؟
أيُّهَا الحرف الأمينْ
لتكن سيفاً بصدر الظالمينْ!
{3}
عند أصْل المنبرِ
قطّعوا رأس الإمامْ
وهْو يتلو سورةَ الكهْفِ صباح الجمعةْ
عذَّبُوا كلَّ المصلّينَ معه
وتغنَّوا بالسلامْ
يا أحبَّاء السلامْ
إنَّ كأس الغضب الغامر أضحت مترعةْ
ودنا يومُ الحسابِ الأكبرِ
{4}
أين فرعون؟
ونيرونُ؟
تماروا بالنُّذُرْ
فإذا همْ كهشيم المحتظرْ
أيها الظَّالُم مهلا..
إنَّ ربِّي أخْذُه أخذَ عزيزٍ مقْتدِرْ
وا إسْلاماه
ولدي الحبيبْ
ماذا صنعتَ وأنت ما أدركتَ بعدْ
سنّ الفطامْ؟
ماذا أتيتَ من الذنوبْ؟
ذبحوكَ بين يديَّ، شقّوا الجيبَ، واغتصبوا دمي..
أبُنيّ ما صنع العتاة؟
كانوا أضرَّ من الذئاب الجائعاتْ !
أبُنَيَّ ما صنعت يداكْ؟
ولَدي الحبيبْ
شقُّوا الثيابْ
نقشوا بخنجر حقدهمْ
نقشوا على الصَّدْر الصليبْ
ولدي الذبيحْ!
أرأيتَ ما يأتيهِ أعداءُ المسيحْ؟
باسْمِ المسيحْ..
ذبحوكَ بين يديَّ، أعداءُ المسيحْ
أعداءُ كلِّ الأنبياءْ..
الصِّرب.. مصَّاصو الدماءْ !
ولدي.. وما صنعت يداكْ؟
والنور يطمح أن تراه وأن يراكْ!
أتت القيامةُ.. هذه أشْراطُهَا…
ساقٌ هنا.. وهناك معصمْ
عنُقٌ مضرَّجةٌ هنا..
وهناك رأسٌ قد تحطَّمْ !
والذنبُ ؟ لا ذنبٌ سوى أن قيل :
مُسْلمِ!
بالأمس يا ولدي الحبيبْ
رغم القيودْ
رغم العواصفِ والرعودْ
رغم الرِّياح العاتياتِ السُّود..
رغم الزوبعةْ
رغم الحراب المشْرعةْ.
أبحرتُ كالجبَّار أهزأ بالرياحْ
وشققت قلب الصّخر ألتمس الصباحْ
ووضعتُ قرصَ الشمس في كفِّي..
وزاحَمْتُ الجبالَ بمنْكِبي
وهتفت: سيري يا جبالُ وأَوّبي
وتدفّقي بالنور أيَّتُهَا السماءْ
فأنا سليلُ السّائرينَ على طريقِ الأنبياءْ
دربي أنا متوهِّجٌ بين الدُّروبْ..
يا.. هؤلاءْ!
لا تُسْكِتوا غضبَ الشعوبْ
لا تطْفئوا نورَ الهدايةِ في القلوبْ
هذا نشيدي شَقَّ أروقةَ الفضاءْ:
حُرِّيَّتِي هي نعْمتي
ديني أنا كينونتي
أنا نجمةُ الصبح التي تهدي الورى سُبُلَ السَّلامْ
أنا نقطةُ النُّور التي انبثقتْ
كمشكاةِ النبُوُّة في الظلامْ
فهوت إلى محرابها القدسيِّ أفئدةُ الأنامْ
أنا مسْلمٌ وحقيقتي
أنْ أَحملَ النُّور الذي جلاّه صوتُ الأنبياءِ إلى الوجودِ
فلتحفظوا عني نشيدي!
سأظل أندبُ يا بديعْ
ولقد يجفُّ النهْرُ..
لكن لن تجفَّ - وإن تصبَّرْتُ - الدموعْ
أنا لست أندبُ طفليَ الغافي
على صدر الرصيفْ
لكنني - واحسرتاه – أندبُ الإسلامَ
يذوي مثل أوراق الخريفْ
وهناك في بعضِ الجهاتْ
يغفو الولاةْ
يغفو الولاة على سرير الطيِّباتْ
كلٌّ يُجالسُ عجْله الذهَبِيَّ،
يسْأله صكوكَ المغفرةْ
حينا.. ويغفو كالصنمْ
ما بينهم يوم الكريهة خالدٌ أو معتصمْ
إنَّ الولاةَ مزيَّنونْ
بالحِلْمِ، رغم تهتك الأَعْراضِ.. رغم المجزرة
يغفون، لا خوفٌ عليهمْ لا، ولا هم يحزنونْ
يا أرضَ أنْدلسٍ سلاما
ما عدتِ وحدكِ جمرةَ الذّكْرى، سلاما
هذي سراييفو تبادلكِ التحيَّةَ والختاما…
يا أرضَ أندلسٍ سلاما…
أطفال سراييفو يتحدون الحصار...
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا. وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
سورة الحج 39
نحنُ أطفالُ سراييفو العتيدةْ
إن حُرمنا من حنان الأمَّهاتِ
في الليالي الحالكاتِ
فلأنَّا مسْلمونْ
نحنُ أطفالُ سراييفو المجيدةْ
إن رَمَونا للسجونِ
أو سقَونا في الصِّبا كأسَ المنونِ
فلأنّا مسلمونْ
نحنُ رغم القهْر والقيْد اللَّعينْ
سوف نبقى مسلمينْ!
نحن أطفالُ سراييفو الجميلةْ
نعشقُ العصفورَ والوردةَ تزهو في الخميلةْ
نعشقُ الأرجوحةَ الخضراءَ في الحقْلِ، ونعْدُو
نَحْوَ أفْقٍ لا يُحَدُّ
نعشقُ الشَّمْسَ ولونَ البحْرِ، نلهو بالمحارْ
مثل آلافِ الصغارْ
ونحبّ النهر يشدو.. والفراشةْ
تملأ الكون حبوراً وبشاشةْ
فلماذا يا إلهي ضربَ الصربُ الحصارْ؟
ولماذا يا إلهي سرقوا منا النهارْ؟
ولماذا بالدماءِ
لطَّخوا وجه السماءِ؟
ولماذا تصبح الأحلام كابوساً؟
ويغدو لبنُ الأمّ دماً، يا أصدقائي؟
ويصير الأملُ الأخضرُ من قبل الفطامِ
يا أحبائي حطاماً في حطامِ ؟
ولماذا يقتلُ الوردَ الرَّصاصْ!
أيُّهَا الظالمُ ما أقسى القِصاصْ!
أيُّهَا الظالمُ ما أقسى القِصاصْ!
نحنُ أطفالُ سراييفو القتيلةْ
قيَّدونا…
عذّبونا…
أحْرقوا المسجد، والروض، وأحلام الطفولةْ
صادروا الآباء منا.. والبراءةْ
والحكايات الجميلةْ
علّمونا في ربيع العمر أن نلعق جرح الكبرياءْ
علمونا أن نُغنِّي للردى الزاحف..
أن نعزف ألحان المنيّةْ
علّمونا أن نصلِّي..
ويدٌ تحضنُ جسم البندقيَّةْ
ما أشدّ الابتلاء!
ما أشدَّ الابتلاء!
نحن أطفالُ سراييفو الشهيدةْ
سنصلّي.. ونصلّي..
ونعيد الضوءَ، باسم الله، للشمس الطريدةْ
منْ بعيدٍ. من بعيدْ..
نحن عدْنا من بعيدْ..
من ضفاف الموت عدنا
نلعق الجرح العتيدْ
نحمل الفجر الوليدْ
يغمر الناس، جميعَ الناس، بالعدل الرشيدْ
فليمت من مات منّا
وليهاجرْ من يهاجرْ
سوف تخضرّ المنابرْ
من جديدٍ.. من جديدْ..
والمحاريب ترى الذكْر نديّاً
من جديد.. من جديد..
وستزهو الأرضُ من دفء الأذانْ
ويعمّ النورُ، يا أحبابنا، كلَّ مكانْ.
سوف نعلي راية الإسلام في الأرض وإنْ طال الحصارْ
وسنبني للحضارةْ
ها هنا ألف منارةْ
ومنارةْ..
يا سراييفو المجيدةْ
يا سراييفو الشهيدةْ
أذِنَ الله بأن تُرفع رايات الجهاد
نحن أطفالُك، حُرَّاسُ العقيدةْ
لن يطول الانتظارْ!
لن يطول الانتظارْ!
تمت في 22 / 11 / 1992
وسوم: العدد 734