أقول لكم (الصحف الأخرى)
إلى شعراء الأمّة: حسّان وإقبال وعاكف
الصحيفة الأولى: زاد المعاد
الفاتحة
ما فتّحتْ صحفي القديمةُ رغم مصباحي سبيلا
لا (الحزن يزهر مرّتين) ولا (البريد) ورى فتيلا
فلعلّ ما أتلو على الأفق البعيد أسَدُّ قيلا
وسمعْتُ صوتا في العشيّة هاتفًا: "إلا قليلا"
فأتيْت باب الله ألْتمس المَعين السَّلسبيلا
ولعلّ أمّتيَ الكسيرةَ ترتدي العزْم النبيلا
إلى أمّتي
الذين تباروا زمانًا طويلا
بتكريمِ صوتي
يريدون صمتي
يقولونَ: صوتُك ضاعْ
وما عدتَ ملتزما صَفّنا في الصّراعْ
يُريدونَ موتي
لأنِّيَ ألقيتُ جمْرةَ عِشْقي
على كلّ بيْتِ
وما علموا أنّني منذ خمسينَ عاماً
أغنّيك أنتِ
الصراط
أسيرُ يميناً إن هُمُ قدْ تشمألوا و(كلتا يديْه) نهْجُ روحي المؤمّلُ
وإن همْ زرافتٍ إلى الأرض أخلدوا فإني إلى نور السَّمَاء سأرحلُ
وإن سجدوا للسامِرِيِّ تركتهمْ وما عبدوا، واللهُ ربّيَ فيْصلُ
ولا عجْلَ بعْد اليومِ يُغوي قصائدي وحسّانُ مصباحٌ وإقبالُ صيْقلُ
وكيف أُزلّ الحَرْفَ عَنْ صهَواته أَعنْديَ سيفٌ حيْدرٌ ثمَّ أُهْمِلُ؟
(وهذا صراطي مستقيماً) محجّتي وقنديلُ روحي والدّجَى متسربلُ
الشعر
لم أتخذ غير نهْج الله كأس رضا ولم أوقّع لغيْر الحق أبياتي
والشعر ما لم يكن حقّا يؤازره حسْنٌ تردّى بوديان الضَّلالات
فقُلْ إذا هتفوا: "جافيتَ هيكلنا وللشياطين وحيٌ سيله عاتِ":
شعْري من الملأ الأعلى منابعه موتوا بغيظكم أهْلَ الضلالات
السيفُ والقنديل
سوَّاك ربُّكَ شاعراً حتّى تَرى ما لا يُرَى
وتكونَ نَجْماً هادياً للحقّ يَسْطَعُ نَيِّرا
وتكونَ مثْل السيْف حطّم مَنْ طَغى وتَجَبَّرا
وتَكُونَ نَبْعاً صَافِيًا للظَّامِئِين مُكَوْثَرا
وتَكُونَ مِصْباحاً لِمَنْ وسْط الحَوالك قَدْ سرى
الشعْرُ ليْسَ غِوايةً حَمْراءَ تَزْرعُ مُنْكَرا
كالسَّامِريّ يَصُوغ عِجْلا كَيْ يُضِلَّ ويَسْحَرا
لكنّهُ قِنْديلُ حبٍّ قدْ تَفَجّرَ أخْضرا
وَسَنَابلٌ مَمْدودةٌ للجائِعِ افْتَرشَ الثّرى
فاصْدَعْ بِمَا أولاك ربُّك واتّخِذْ لك مِنْبَرا
حسّانُ فَصَّلَهُ، وإقْبالٌ كساه الجَوْهَرا
البضاعة الكاسدة
لَمْلِموا أحْرُفَكُم وابْتَعِدُوا
لا يُصِبْكُمْ مِنْ لَظَانَا النّكَدُ
احْمِلُوا أحْرُفَكُمْ وارْتَحِلُوا
لَيْسَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا البَلَدُ
نَفْخَةُ الرُّوحِ خَبَتْ في طِينِكُمْ
فَهْوَ مِنْ بَعْدِ اشْتِعالٍ زَبَدُ
كُلُّ حَرْفٍ لَيْسَ يُجْدِي أمّتي
لا جَمَالا في حِمَاه نَجِدُ
أيْنَ مَا شِدْتُمْ وَمَا أعْلَيْتُمُ؟
هَبَّتِ الرِّيحُ فَطارَ العَمَدُ
لَكُمُ البَرقُ تُمشّونَ بهِ
فإذا أظْلَمَ مَنْ ذا يُرْشِدُ؟
ولنا المشْكاةُ منْ زَيْتُونِها
وسَنَاها يُسْتَمَدُّ المَدَدُ
مِنْ حِرَاءِ (اقْرَأْ) هَمَتْ أحْرُفُنَا
وهَجا منْهُ يُضِيءُ المَقْصِدُ
فَهْيَ للحَقْلِ عُيُونٌ فجّرتْ
وهْيَ روحٌ منْهُ حَيَّ الجَسَدُ
إنّ هذا الكَوْكَبَ الدُّرِيّ لمْ
يَدْرِ بعْضاً مِنْ سَناهُ جَمْشِدُ
سيْفُ نُورٍ نال مِنْ أفْئِدَةٍ
قَبْلَ أنْ يَفْتَحَ أرْضاً مُغْمَدُ
فإذا التَّكْبِيرُ في الهِنْدِ عَلا
وانْتَشى مِنْ نَغْمَتَيْهِ المَسْجِدُ
جَاوَبَتْ قُرْطُبَةٌ أصْدَاءهُ
ومَضَتْ طَنْجَةُ مِنْهُ تَسْجُدُ
هامش: جمشٍدُ، أو جمشيد: من كبار السلاطين، كانت له فيما زعموا كأسٌ يرى فيها العالم وأحداثه.
إلى شاعر شاب
كَمْ آزرٍ ينحَتُ الأصْنَام مبْتَهِجا
في الأرض، لَمْ يُبْدِ لا إثْما ولا حرَجَا
وشَرُّهُمْ مَنْ يصوغ القَوْلَ زَخْرفةً
لكي يُضلَّ الورى والحقَّ ما نهجا
عُبّادُ يونانَ بحرُ السُّمّ قَطْرتُهُمْ
شاهَ المِدادُ إذا بالحقِّ ما لهَجا
هُمُ همُ في كتابِ الله قَدْ وُصفوا
يلوونَ ألسنةً يبْغونها عِوجا
تركتُهمْ والذي صاغوه من سفهٍ
وهلْ أنازعهمْ إن يخْطبوا العَرَجا؟
أضحت عروسيَ فيهم روضةً أُنُفًا
تحُفُّها دمِثاتٌ تَنْفَحُ الأرجا
أضحى إليهَا كلامُ اللهِ منتسبا
كقابِ قوسين قولي فاحذر الثبجا
بنيّ إن تبْغٍ من حسْن البيان شذا
والحسْنَ منفجراً صِرْفا وممتزجا
فدونكَ البحْرُ، قولُ اللهِ، فامْشِ به
وسْط الأعاصير يدفَعْ رهبةً ودجى
ولستَ تلْقى لأفروديت كأسَ ندى
ولا وجدتَ لآدونيسَ فضلَ حجا
مرآةَ إيزيسَ حطّمها تجدْ فرجا
وبرقَ دوريس كذّبهُ تنلْ درجا
حسّانُ نالَ بنشر الطيبِ أوسمةً
ما نالها شاعرٌ من قبلُ إن هزَجا
وشبّ إقبالُ في ظلمائنا قبساً
فقدْ غدا اليَوم في أعْماقنا سُرُجا
الحقيقة
لا تصدّقْ قول من قال الكتابة
يا رفيقي هي تدجينُ السحابة
وهي لا تشعلُ في القلب صبابة
وهي لا توقظ لحنا في ربابة
ربُّنا اختار ضياء الكلمات
كي يبثّ النّور في نبض الحياة
فبها يونسُ شقّ الظّلماتْ
وبها أيّوب قد ذاق النّجاة
والقلوب الغُلف من بعد المماتْ
أبطلتْ بالمصطفى سحْرَ مناة
واستفاقتْ ببهاء الكلماتْ
فإذا بابلُ بُرْجُ الطيّباتْ
أيّها الساكنُ في جفن المآبْ
لا تكنْ شاعرَ لهو وشرابْ
ولتكنْ في الأفقِ نجماً ثاقباً
ربّك اختار بأن تعلو السّحابْ
وكنِ العنقاءَ في شمّ الذرى
إن هَوَى غيرُك للأرض اليبابْ
الشاعر والتمثال
أنا إزميلي لا ينحَت بالأهْواء صخرا
إنما يبعث من أعماق بحْر الروح درّا
سل (جلاتيا)، أتراها حملتْ في القلْب سرّا؟
إنَّ بجماليون سوَّى الحسْن عريان فأزرى
هو لم ينفخ به روحا ولا أوقد جمرا
وخلود الفنّ يا صاحبُ ألا يتعرّى
إن إزميلي وفني ينْشر الأموات نشْرا
عندما من نور طه يملأ الأكواب عطرا
النخبة
أمّتي ضيّعَ مجْدك نخبةٌ تخفر عهدكْ
تدَّعي حسْناً ولكنْ حرْفها يحفرُ لحدكْ
غزل (1)
كأن حمامةً صدري تدقُّ لها دون الطوارق فيه خفقُ
وهل يُنسي الأحبّةَ بُعْدُ دارٍ وبين جوانحي قلبٌ يرقُّ؟
النبأ العظيم
تغلغل في شعاب الرّوح وحيٌ بجوف الليل كالنّبأ العظيمِ:
أمجنونَ الهوى ليلاك طين وأنت خلقت للأمر الجسيم
ألست خليفة الرحمن فيها ألست مجدّد العهد القديم؟
وما كانت خديجة غير مأوى يظلل صاحب النور الكريم
أترغب بالظلام عن الثريّا وتشغل بالبروق عن النجوم
وتستبق الطوارق قبل طرق ومن همّ تساق إلى هموم (1)؟
وإن آذوك فالبس ثوب صبر فأنت على صراط مستقيم
ومومن آل فرعونٍ شهابٌ يصبّ النور في الليل البهيم
أرى في كلّ شبر من بلادي جماجم تستجير بلا رحيم
فكيف تُرى استحرّ القتل فيهم وصار سلامهم نار السموم؟
وجاءك من وراء الغيب صوتٌ يسوق الناس للدرب القويم:
كذلك من تجافى عن كتابٍ فسوف يذوق من حر الجحيم
لقد ذاد الجنادب عن لهيبٍ شديد الوطء ذو القلب الرّحيم(2)
فخذ يا صاحبي عِبراً وسارعْ إذا ناداك للخير العميم
يردّد عاكفٌ والكون يصغي نشيدا عبر أوردة العصور:(3)
(إذا جلب العدوّ على حمانا مآذننا رماحٌ في الصدور)
وإن جنحوا سنابلنا سواءٌ لنا نصف ونصفٌ للفقير
وما من أمّة إلا ستفنى وأمّتنا مشتْ فوق الدهور
لأنّ كتابنا من عند ربّي وحفظ كتابه وعْد القدير
ونبقى ما حفظناه كراماً فإن زغنا نؤول إلى القبور
وإن إلهنا حكَم وعدْلٌ ألا لله عاقبة الأمور
ملكنا فاستقام الكونُ سَلْماً وفتّح غيرنا باب الفجور
سل الثّقفي عنْ سِنْدٍ وهنْدٍ ومثلُ الباهليْ هل منْ خبير؟
وشيّد طارقٌ للعدل صرحاً نبَتْ عنهُ أباطرة العصور
فكيف تؤول من بعد الثُّريّا إلى الدّركاتُ أمّاتُ النّسور؟
أنيري أمّتي سُبلَ الحيارى فقدْ حنّتْ إلى قمر منير
وشدّي عزمة الأحرار منهمْ إذا سألوك بعضاً من نمير
هو الإنسانُ غايتنا جميعاً ليحيا آمناً نارَ السّعير
قال صلى الله عليه وسلم:" من جعل الهمّ همّا واحدا، كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعبته الهموم، لم يبال الله في أيّ أودية الدنيا هلك". الحاكم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) :(مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي). مسلم
الشاعر التركي الكبير محمد عاكف أصوي، واضع النشيد الوطني للجمهورية التركية، وأصله من كوسوفا.
في وصف حال الأمة
وحدوا الله وقوموا واسجدوا
مالكم من دونه ملتحد
واكسروا في ذاتكم أصنامكم
واحْرقوا آزركم واتحدوا
وبحبل الله فلتعْتصموا
فبذا أوصى الودود الأحد
هذه العيدانُ إما جمّعتْ
لم يكسّرها القوي الأيد
ويح قومي، ما لهم قد جهلوا
ما به منذ قديم سعدوا
يُعْقَدُ الأمر وأنتُمْ غيّبٌ
تهتك القُدْس وأنتُم شهّدُ !!!
أعتى منْ هُبَل
اجْعَلْ جذاذاً ذلك الصّنَمَ الذي
سَكَن الجَوانحَ فهْو أعْتى من هُبَلْ
صنَمُ الهوى الجبَّارِ إن تَابعْته
يُرْدي، فَأفْتَكُ سُمُّهُ مِنْ سُمِّ صلّ
مسْراه أخْفَى مِنْ دبِيبِ النَّمْل إن
تَغْفَلْ، وويْلٌ للمُكَابِدِ إن غَفلْ
يأتيكَ حينا في جناحِ حمامَةٍ
أو في صبَابَةِ غُصْنِ زيتُونٍ خَضِلْ
أو نهْرِ موسيقى ترقْرَقَ صافياً
أو ظِلِّ بسْتانٍ بأحْداقٍ نُجُلْ
أو قد يجيئُك ثوبُهُ متَهَلْهِلٌ
في ضَوْءِ مِحْرابٍ تبتّل واسْتَهلّ
ولكَمْ تَفَرّقَ في البلادِ جُنُوده
أفَأنْتَ تَأْمَنُ ما يُحاكُ من الحيلْ؟
كُنْ مثْلَ إبْراهيمَ أسْلمَ أمْرَهُ
والنّصْلُ بين يديْهِ قَذْفٌ منْ شُعَلْ
وغُلامُهُ كالفَرْخِ طوْعَ بنَانِهِ
متبتّلٌ عنْدَ الكريهَةِ مبْتَهلْ
كَمْ آزَرٍ في الأرضِ يَنْحتُ ربَّهُ
والنَّاسُ بيْن يديْه تَرْعى كالهمَلْ
جرّدْ لسانَ الحقِّ فهْوَ أعَزُّ مِنْ
جنْدِ الطغاةُ، ومِن حرابهم أجلّ
المرأة
أنصِفوا المرأة بالشرع المبين
لا بأهواء العتاة المفسدين
إنها روض يسر الناظرين
بتقاها وبعلم ويقين
إنها الشمس ومصباح البنين
كيف يمشي الطفل في درب الظنون
إن حجبنا عنْه نورا للعيون؟
إنها مدرسة الحقّ الرّصين
هل وجدتم مثل أمّ المؤمنين
نجمة تهدي الحيارى السّالكين؟
لا تضلوا باتّباع المشركين
من أضاعوا الدين والعقل الرصين
فإذا المرأة حلي يُشْترى
كمتاعٍ عنْد سوق المترفينْ
تحرمون البنت من علم ودينْ
وتقولون هو العصر الضنين
بالجمال الحر يغشاه حجاب لا يبين
ثم تلقون قيوداً من قوانين الجنون
دون درب العفة الوضاحِ، والأمن الأمين
أنت لو أنصفت يا متّبع الغربِ عسى تبلغ شأو الغالبين
لجعلت العلم والإنصاف تاجاً،
لا قشور القوم، من ليل المجون.
يا ابنة الإسلام أنت الشمس، إن الشمس تعشو الناظرينْ
فاسألي أسماء، أو خولة، لا جانينَ، عن كرم اليقينْ
عيد الأمّ
تُكَرّمُها يوما وتكْفرها دهرا
لعمرك هذا الكفرُ قد جاوز الكفرا
وتنزلها في ملجأ صار قبرَها
بلا زائرٍ من قبل أن تنزل القبرا
وتحملُ وَرداً كلّ شهر سفاهةً
وتزعم أنْ حقا بررت بها برّا
وما الوردُ إلا الشوكُ يبري ضلوعها
وجرْح الهوى يبري المحبّ ولا يبرا
حوتك مع الأحشاء تسعة أشهر
وضقت بها لما بكت واشتكتْ ضُرّا
وكم سهرتْ تسقيك من ماء قلبها
وأنت قرير العينِ توسعها قهْرا
وكم سهرت تبغي حياتك يافعا
وكهلا، وترجو أن تكون لها ظهرا
وإن دمعت عيناك فهْي لك الشفا
وما راحةٌ إلا براحتك الكبرى
فوا عجبا سيفان والغمد واحد
تريد بك اليسرى وتبغي لها العسرى
حوار ودي مع أبي العلاء
يقول لي المعرِّي في إباءٍ
ولم يكُ رأيه يوما كسيحا
"أعبّادَ المسيح يخاف قومي
ونحنُ عبيدُ من خلق المسيحا"؟
فقلتُ: لقدْ اُحِلّوا جُحْرَ ضبٍّ
وقد تركوا بها أفقا فسيحا
يُكدَّرُ حين يرْكُد نهرُ ماءٍ
ويصفو إنْ بوجْهِ الأرض سيحا
رَهينَ المحبسينِ يشيخُ ليثٌ
فيصبح رهْنَ غيضته حبيسا
أرى القسّيس أشرفَ من إمامٍ
يبيع الدّين كي يرضي الرئيسا
يقول: "تقيّةً حصني منيعٌ
وقد رهنَ الكرامة والنفيسا
وإنّ اللهُ أرسَل بعد طه
نبيّا صار يتبع المجوسا
وآيته التي ليست تضاهى
فقد أضحى بها يحيي النفوسا
يُنصّبُ كلَّ سفّاحٍ وزيراً
ويرفع كلّ زانيةٍ عروسا
غزل (2)
إلى الشاعر الهندي طفيل مدني
كنت كالطفل على البوسفور والنفس رضيّة
حالما بالحبّ يسري في المغاني السندسية
فإذا الشاعر مثل البرق في كفٍّ سخيّة
يرسل الأحرف سيلا في ضمير البشريّة
زلزلت من أضلع الشّيْخِ بُرُوق الكلماتِ
فظنَنَّاه، مع الآه، صريع الصبواتِ
فهتفنا: شاعرُ الهند أتى بالمعجزات؟
ما تراه قد سقاكم من كؤوس مترعات؟
قد رأيناه تهادى مثل مجنون البوادي
أو كأن السهم أصمى عند مسّ للفؤاد
أترى مجنونَ ليلى من بلى يبعث حيّا؟
أم تراه يتلقى من سماء الوحْي وحيا؟
إنّما قال طفيلٌ : "أمهليني يا مَنِيّة
أنا مشغولٌ بمدح المصطفى خير البريّة"
طاسين الهوى
(الهوى والشباب والأمل المنشود توحي فتبعث الشعر حيّا
والهوى والشباب والأمل المنشود ضاعت جميعها من يديّا)
هكذا قال شاعر ألمعيّ لم يدع في قرارة الكأس شيّا
ثمّ أفضى فلم يعد في كؤوس العشق سكرٌ يسقي الصدى البابليّا
من تراهُ من بعد طول انتشاءٍ أبطل السّحْرَ أو أناخ الثُّريّا؟
أصغ يا صاحبي لحكمة شيخٍ قد بلا الدهْر منذ كان صبيّا
إنّما يبعث اللحون عذاباً كل حرفٍ من ظلّ طه تفيّا
فالزمنْ غرزهُ فقد ذاق من غَرفةِ طه ما يملأ الرّوح وحيا
شاعرُ الهندِ علّم الطير لحناً مثْل داود يمنَح النفس ريّا
لا تصدّقْ من ابتغاك غويّا ويريك الخراب روضا بهيّا
هم يرون الحروف عجل نضارٍ يا خليلي لا تتّبعْ سامريّا
لك من كأسٍ طيبةٍ رشفةٌ تغنيكَ عمّا تُسقيك كفّ الحميّا
طاسين الحق
نحن من علّم الأنام الحقوقا
وفتحنا لهم إليها الطريقا
كيف نمشي وراء من عبد العجل وفي الأرض راح يبني العقوقا؟
أدركوا البائسين، إنهمُ قد
أضرموا فيما يملكون الحريقا
أنتم رحمة فلا تتركوهم
إنّهم مغرقٌ يشدّ غريقا
لماذا أحبّك؟
تحدثني عن كتاب الهدى
وتملؤني عَزمة ومضاءْ
وتدخلني دمثات الربى
وتفتح لي عالماً من ضياءْ
وتُسمعني من كلام الإله
بدائع تبعث أهل الفناء
فكيف أحبَّ سواك إذن؟
ونبعك فيض سنا ورواء
وكيف أغرّ بلمع السراب
وعندك زهْر ونور وماء؟
حبيبي
أيها السائل عن وصف حبيبي
لم يُخَيَّبْ قبلُ عندي سائلُ
ضاق عن أوصافه كلُّ أديبِ
فأنا عند سناهُ باقلُ
فهْو في الأوصاف من غير ضريب
نوره في كلِّ شيء ماثلُ
فهو حسنا لا يدانيه القمر
وهو أيداً لا يدانيه الأسد
وهو جودا لا يدانيه البَحَر
وهو علما لا يدانيه أحد
أيْن يا ظامئ من ماء سواه؟
أيْن من نور سواه للحياة؟
القذى يطمس عينا لا تراه
فالتمس منه سبيلا للنجاة
أيها العاشق هذا المنزلُ
كلّ مشموم سواه يذبلُ
كّل شمسٍ ما عداه تأفلُ
كلّ محبوب سواه يرْحلُ
خطَّ إبراهيمُ دربَ العاشقينْ
فإذا النّارُ رياضٌ باليقينْ
لا تكُنْ آزر يُغْويه اللعينْ
وكُنِ اِبراهيم فالحقُّ مبين
صعودا
سائقُ الظعن قد طوى البيد طيّا
وغدا هودجُ الحبيب قصيّا
غير أنّ المجنون ما زال يهدي
في البوادي عساه يأسر ظبيا
قيسُ، ليلاك لم تعُدْ قبض طينٍ
هي روح كم راودته الثّريّا
الموقع
طأ برجليك كربعيٍّ بساط الأكرمين
حطّم العزّة من رستمَ بالرمح الثخين
وقم اللَّيل كسلمانَ لربّ العالمينْ
ولغَيْر الله يا مسلمُ لا تحْنِ الجبينْ
واذرف الدّمْعة شوقاً لإمام المرسلينْ
كُرَةً تغْدُ على كفّك شمسُ الآفلينْ
وتُوقِّعْ في الدنى عن أمر ربّ العالمين
عصا الكليم
طرَقَ الطّورَ حييّا مطرقا
عندما آنس ناراً فارتقى
هو قد آنس ناراً فأتى
يبتغي في النار ماءً غدقا
هذه أمّتكُم واحدةٌ
وبهذا قد قضى من خلقا
لا تقولوا ما الذي تجدي العصا
وشبا السْيف لديهم برقا
بالعصا أدرك موسى شأوه
وبها فرعون نالَ الغرقا
إنّما السرّ بمن كلّمهُ
لا بما ألقى ولا ما طرقا
احتطب
"احتطبْ"، لا تحتقبْ ذلَّ السؤالْ
ودع العجز ولا تبغ المُحالْ
هكذا قال الحبيب المصطفى
جعل العفّةَ عزاً كالجبالْ
إنّ منَّ الخلقِ مُرٌّ طعمهُ
وذليلٌ من يعشْ عبر النّوالْ
زوجان
العقل والقلب مصباحا الفتى الفطن
فحرّر النفس من أهواء مرتهنِ
والخير والشرّ (نبلوكم) سبيلهما
لا تجزعنَّ، ولا تفرحْ مع المننِ
والشّرقُ والغرْبُ للرّحمن أمرهما
فلا تقدّسْ ترابَ الأرض كالوثنِ
الربيع الكاذب
لم يبقَ من لون الرّبيع فراشةٌ تزهو ولا عطرٌ يفوحْ
وحبيبتي رهنت أساور حبّها المجنون للغرباء في الزمن الجريحْ
كذبتك يا قلبي الظّنونُ
فمتى يعانقك اليقنُ؟
وصية محمد عاكف
قال لي عاكف: يشبّ حريق
وتجلّى عواصفٌ وبروق
وإذا ما التنّور فار فلا تلهُ،
ومن يلْهُ عن سبيلٍ غريقُ
أفتلهو والشّعب حولك يصْلى
من عذاب السعير ما لا يطيق؟
خلّ عنْك الأوهامَ واصدعْ بما تؤمرُ
كي ينجلي لديك الطّريقُ
مائة عام من العزلة
إلى د. هبة رؤوف
في 18 مارس 2015 أقيم بوجدة حفل ذكرى تأسيس أول ثانوية بالمغرب.
فقد أسس الاستعمار الفرنسي بوجدة أول ثانوية في 1915، أي بعد ثلاث سنوات فقط من توقيع معاهدة الحماية الفرنسية للمغرب، وبعد سبع سنوات من احتلال وجدة، معلنا القصد من ذلك، وهو: (تمدين الهمج). وقد سجل الأدب، بما فيه الأدب الشعبي، تلك الفاجعة، حيث قال الشاعر الشعبي السعدني:
يا لخوان بكيو على دخول وجدة دون حرب غنمها العدو ونال المراد
أتى مثل ذئب بثوب الحملْ
يريك المرار بطعم العسلْ
يقول إلام تُرى يا صديقي
بعيشِك عيشَك بقلٌ وخلّ؟
إلام امتطاؤك ظهر الحمير
وظهْر البغال ومتْنِ الإبل؟
ودونك عيش رغيد سعيد
به الطيبات التي لا تملّْ
ضمرت، وما سرّ هذا الضمور
سوى لاتّباعك درب الهملْ
رمت بابن يوسف نحو الخراب
وأمّ لها أكسبتها العطلْ (1)
أريشةَ علْم ترى هذه
وقد زرعتْ في العقول الخطلْ؟
وقد نسجت من حبال الخبال
ثيابا لكلّ مريد أهلّْ
وأحفاد فولتير لم يبرحوا
وداء (التعصّب) فيهم مثلْ
ومَنْ غيره مجّد المجرمين
وحاول بالسوء خير الرسلْ؟
فحلِّقْ على طلل يا غرابُ
فلم يستقوا غير بعض الوشلْ
تصرّم قرنٌ ولمّا نزلْ
نساورُ أدواءنا بالعللْ
فلا نحْنُ صرنا إلى المكرماتِ
ولا قربت طيرنا من زحلْ
إذا ما الدليل أضلّ الطريق
فمنْ ذا إلى غاية سيصل؟
إشارة إلى كلية ابن يوسف بمراكش، وأمها القرويين، بفاس.
الفرار إلى اللّه
شكوت أمْريَ، لا ليلى ولا هنْدا
ولم تقُد بزمامي في الهوى سُعدى
والبيد بيدُ الأماني، ما لكاظمةِ
بهنّ منْ أثرٍ يعيي الفتى سُهْدا
والدّمْع قرّح أجفانَ الفتى كمداً
وكان من قبلُ في أرضِ الهوى جَلدا
لكنّ عجزي وتقصيري يُشيّبني
وأمّتي تشتكي ما هدّها هدّا
(أما اليتيم فلا تقهرْ) مجلجلةٌ
فكيف لا يغتدي الوجدان منهدّا؟
(ولا يحضُّ) بأعماقي لها صخبٌ
فما لخطويَ عن آثارها صدّا؟
أتلو الكتاب وأبكي، ثم يصرفني
عن الهدى شهواتٌ لم تزلْ سَدّا
يزلُّ خطويَ إن بَرْقٌ تكَنَّفني
كأنّه بسمةُ الرضوانِ تُستجدى
إذا شكوتُ إليك المُرّ من وجَعِي
فما أردتُ سوى الرحمنِ لي قصْدا
ألم تكنْ لرسول الله ثوبَ رضا
خديجةٌ حين شدّتْ عزمه شدا؟
وأسأل الله كشف الغمِّ ليْس له
إلاهُ من كاشفٍ يستوجب الحمدا
مستحقبا عزْمةً كم راح يوهنها
طولُ الأماني، وريحُ الغيّ لا تهْدا
سيري إلى الله، إنّ الصبح منبلجٌ
يا أمّتي، وسبيلُ الحقّ قد أبْدى
سيري إلى الله لا خوفٌ ولا وجلٌ
قد آنَ أنْ تسْتقي أيّامنا مجدا
سيري إلى الله، فالتّاريخ جرّد في
يمينه قلماً يستنهِض الجُرْدا
سفينة النور لا موجٌ يُزلزلها
( يا نوحُ.. اِهبطْ) نداءٌ يُبْلِغ الوِردا
قد استدار زمان الحقّ فاغترفي
من حوضهِ، من ينلْ رشفاً فلن يصْدى
ولتدفني فتنَةً إبليسُ أيقظها
وجنْدهُ، خاب من أضْحى له جُنْدا
(فِرُّوا إلى الله) جلّ الله قائلها
مصباح رُشْدٍ لمن يسترْفدُ الرّشْدا
(فِرّوا إلى اللهِ) غيثٌ غير منقطِعٍ
و(أرْمغانٌ)، ألا أكرم به رِفْدا(1)
إشارة إلى ديوان محمد إقبال: أرمغان حجاز.
مناجاة طائر الحرمين
كم ذا تحنّ إليكمُ الأرواحُ
وبذكركمْ قلْبُ الفتى يرتاحُ
شُغل الفؤادُ بحبّكم وبذكركم
إن كانَ يشغل مَنْ سواه الرّاحُ
وعلمتُ يومَ تعلّقَتْ روحي بكمْ
أن التَّعَلُّقَ بالحبيب فلاحُ
لما لحا اللاحي بسطتُ يَدَ الهوى
سِفْراً يحار بأمْره الشُّراحُ
سُدّت منافذُنا، وأنْتَ دليلُها
يا طائر الحرمين والمفتاحُ
حُبُّ الرَّسولِ لنا جنَاح خافقٌ
إنْ عَز في عز الهجير جَناحُ
وتُرابُ طِيبَةَ صار كُحْلَ عيُونِنا
وعَبيرُها بُسْتانُنا الفواَّحُ
أنا يا رسولَ اللهِ جئْتُ مُوَلَّها
قَدْ أثْخَنَتْني في الطَّريقِ جراحُ
هذا قتادَةُ شاهدًا، مَنْ غيْرُكُمْ
يأسُو الجِرَاحَ، وللجِرَاحِ نُواحُ؟
وإذا أجَرْتَ مُطارَدًا أو خائفا
ماذا عليْه بأن تهُبَّ رياحُ؟
وإذا غدوْتَ للاجئٍ حصْنًا فما
تُجْدي البُغَاةَ أسِنَّةٌ ورماحُ؟
بستانُ حُبِّكَ يا حبيبي عامرٌ
تَزْهو به الأعْناب والتُّفَّاحُ
وشَرابُ حُبِّك إنْ تحدّرَ صَيِّبًا
حَنَّتْ إلى قطَراتِهِا الأقداحُ
وإذا ادلهمّ الليْلُ، ما مصباحُنَا
إلا سنَاك يغَارُ منْهُ صَباحُ
قالوا لقد أفْرَطتَ في أمرِ الهوى
ومتى يُصِيبُ المفرطين صلاحُ؟
هيهاتَ أن يصِفَ البيانُ جمالَهُ
أو أن يحيطَ بشأنه مَنْ باحوا
إنِّي أرى الإفْراطَ إثما خالصاً
إلا بحبّكَ، فهْو لي إصلاحُ
صلَّى عليْك اللهُ ما ناحتْ على
أيْكٍ حمامٌ، واستهلّ صياحُ
آتاك عينَ العلْمِ ربُّك سابغًا
إذْ للكليمِ مِنَ الهدى الألواحُ
ولصحْبِكَ الكُرَماءِ مِنْ سَبقِ الهدى
بحرٌ يَضيعُ بموجه الملّاحُ
فسماحَةُ الصدّيقِ إن عرضتْ لنا
سُودُ المسالك نُورها وضّاح
وعزيمةُ الفاروقِ مِنْ ومضاتها
ومضائها هَمُّ الضِّعاف يُزاحُ
وحياءُ ذي النّورين روضٌ ممرعٌ
وعليه مِنْ سمت الحبيبِ وشاحُ
وخشوعُ حيدرةٍ، وقوّةُ بأسهِ،
في يَوْم خيْبرَ كوكبٌ لماحُ
فهُمُ النُّجومُ ومن بديع ضيائهمْ
يتزوّد الفقراءُ والسيّاحُ
أعليّ إنْ شرّحْتُ عِشْقيَ بعْدَ ذا
وأنرتُ درْبَ السَّالكين جُناحُ؟
ماذا أعددت لها؟
أو أنت تملك ساعتكْ؟
هيهات، ما يدريك أن طوارق الحدثان تنزل ساحتكْ؟
والموتُ يطرق دارتكْ؟
أو أنت تعلم ساعتكْ؟
ومَددتَ حبل الأمنيات البيض،
والشهوات تقطف عمرك الذاوي،
كمنجل زارع يستعجل الثمرات،
والقدر القرير العين يدعو كي تبلّغ آيتكْ.
كلّ له آياته في هذه الدنيا،
ونفس العبد طيّعةٌ، فمعتقها وموبقها،
فهيّء أيها الموعودُ بالأسرار زاد مسافرٍ
إنّ الحياةَ وإن تطاول عدّها
سفَرٌ له غاياتهُ، وعلى جبين الأفقِ ترْفع رايتكْ
قم وازرع الآن الفسيلة،
أنت لا تدري متى يا أيها المغرور تبلغ غايتك.
دعاء المومن
دع ما تفانى عليه الخلق وادّكِرِ
فأنْت عرشُك فوق الشمس والقمرِ
وأنت وحدك حرّ في عبادته
فاسجدْ تَسِرْ دورة الأفلاك في الأثرِ
وابسط جناحَك فالأيام ناظرة
لا عذر عندك إن، يا عبد، لم تطرِ
أنت الطبيب لأسْرى في غوايتهم
فارفقْ بمن صار في الدنيا على خطرِ
وآدم نال بالأسماء منزلةً
وأحمدٌ نال فضل الوحْي والسّورِ
وأنت وارث نور الوحْيِ كيف إذنْ
ترضى السفوح؟ وكم في الأرض من عبرِ
لا ترفعوا اسمي
أستودع الله أنغامي وأشعاري
عسى تقينيَ يوم الحشر من نار
وأستجير به مما يمرّ به
على لساني غويٌّ بيته هار
لا ترفعوا اسمي على الأبراج شاهقةً
فإنّ زخرفها في قلب إعصارِ
ودثرونيَ في أقدام مئْذنةٍ
من صوتها اسمُ حبيبي دائما سار
الصحيفة الثانية
العروج إلى السماء الرابعة
-1-
في البدء كان الصمتُ
2-
كان الصمتُ قنديلاً بلا زيتٍ
-3
وكان الحبُّ .
4-
كان الحبّ زيتاً للسراجِ الحرّ فاندحر الظلامْ
وتفجّرت لغة الكلامْ
-5 –
فليسكت الشعراءُ
حين يفيض بالعطر الإناءْ
ولتصمت الأقداحُ
والألواحُ
حين تفيض بالإنشادِ أوردةُ الظباءْ
-6-
إني أراكِ ولا أراكْ
فلقد تقحّمني سناكْ
أنا ما رأيتك إذ رأيتُ وما رأيتُ،
وكيف للكينونة الطينيّة التكوين
أن ترقى ويدرك كنهُها سرَّ الملاكْ؟
7
من أين أفتتح الكلامْ
وشذاك من خلف الغمامْ
سُرُجٌ تحاصر قلعتي أضواؤها
والقلب منزوع السلاح، فلا قناة، ولا مسير، ولا حسام!
من أين أيتها الأميرة، بالذي سوّاك، أفتتح الكلامْ؟
-8-
أنا لا أشبّه بالرُّخامْ
أصداءَ صوتكِ في المروجِ،
ولا عرائسَكِ التي رقصت نشاوى فوق أبراج الحمامْ
أنا لستُ أعرف كيف أرسمُ ضوء شمسك في الزحامْ
أنا لستُ أقدرُ أنْ أخبّئ ثورة الشلاّل،
أو ينبوعك السحريّ، في قارورةٍ كم كان طيبُ شموسها يجلو الظّلامْ
يا واحة الكلماتِ إن جفّت بأوردتي بساتينُ الكلامْ
هل تستطيع الكأسُ أن يمتصّ نبضُ عروقها
ما قد تحدّر من شرايين الغمامْ؟
من أين أقتحم انتظاركِ والعراءُ يُمضّ روحي؟
كيف أفتح قلعة الكلماتِ؟
يا صحراءُ قد يبستْ على شفتيّ معجزةُ الكلام.
-9-
سبحانَ، يا شمس الحقيقة، من حباك حمائل التقوى
وعلّمك البيانْ
سبحانَ من أضفى عليك الحرف إكليلا
فصارت مفردات العشقِ في ديوانك العربيّ
تيجاناً مرصّعةً تساقط دونهنّ الصّولجانْ
ويخرّ صرح العنفوانْ.
-10-
لمّا أحاط بي الهوى المخزونُ في أحداق سيّدة الصحاري
والشيبُ أسْرعَ في عذاري
أيقنتُ أنّ عَراركِ السحريّ خاتمتي،
فما بعد العشيّة من عرارِ
-11 –
كم غادر الشعراءُ من فننٍ،
وكم ضلّتْ بهم في لجّة الأشواقِ أشرعةُ الكلامِ
فإذا الكلامُ على يديكِ يطيرُ من فَننٍ إلى فَنَنٍ
كسربٍ منْ حمامِ
سُبحانَ من سوّاكِ كالمصباح ِشمساً في سماء العارفينَ
العارجين إلى مقامات الكرامِ
فتّحتِ نافذة انخطافٍ نحو معراج اليقينِ
فطار قلبي كاليمامة في سمائكِ، يا مُعلّمة اليمامِ
سجعاً يطيرُ به إلى أسمى مقامِ
- 12-
كذبتْ عليّ النفسُ إن أنا قلتُ: أعطيك الثريّا
أو سأمنحك اللآلئ واليواقيت البعيدة والنجومِ
أو قلتُ: إنّي سوف أمنحكِ الندى الفضيّ في شفة الكرومِ
فأنا الفقيرُ، أنا الفقيرْ
أنا لستُ أملكُ غير قلبٍ خائفٍ
من أن تزلّ به المسالك أو يتيهْ
فإذا أطلّ على سمائك فاقبليهْ
وتذكّري:
"يا أمّ موسى أرضعيهْ
وإذا خشيت عليه فاقذفيه وأودعيهْ
أحشاء هذا اليمّ، لا حزنٌ عليك ولا تخافي.."
آه، يفزعني المصيرْ
وأنا الفقير، أنا الفقيرْ
لا شيء عندي غير أشواقي إلى التقوى، وما ملك الضميرْ.
ستظلّ تغسلنا الدروبْ
سيظلّ يُسلمنا الشروق إلى الغروبْ
ستظلّ تمتصّ ابتسامةَ جرحنا الريحُ الغضوبْ
طرقتْ مهاوي الريح مملكتي بلا إذنٍ
وأمعن في جراحي سوطُها الدامي
وشرّد أمنياتي كفُّ بطشتها المهيبْ
اليأس يغرق كلّ شيءٍ..
كلّ شيءٍ..
قال سامرهمْ: خذوا ما قد تبقّى من ترابٍ
واجعلوه في الجرابِ، فلا سبيل إلى النجاةْ
حتى مصابيح الدروبْ
أضحى يجلّلها الشحوبْ
حتّى الولاةْ
يستعصمون بيأسهم، ويجرّعون الناس كأس اليأسِ،
فاشربْ، لا سبيل إلى النجاةْ
وأتاك من خلف السحابْ
صوتٌ له ألق الكتابْ:
يا قلبُ، لا تحزن..
فما بعد الهجير سوى الظلالِ
لقد تبدّى من خلال توهج الرمضاءِ
ظلّ وارفٌ من حوله غصن رطيبْ.
وأنا رأيتُ غزالةً مدّت إلى الرحمن حبل الخوفِ
فانفتحت مصاريع الرجاء فسيحةً في القلبِ
وانطلق اليقينُ إلى مداهْ
أفديك يا منْ أسلمتْ لله ما ملكتْ،
وعفّرت الجبين بظله، وتحررت مما سواهْ.
-13-
لِطَيْفِ غزالةٍ رهنتْ أساورها وخاتمها
لتوقِدَ شمعةً في ليلنا الأزرقْ
لطيفِ غزالةٍ من خوفها اغتسلتْ بماء الشوق للرحمنِ،
واتخذتْ سرابيلَ الرجاء وخوفَها زورقْ
لطيفِ غزالةٍ حنّت لأحبابٍ لها في الله
عاليهمْ ثيابٌ سندسٌ خضرٌ وإستبرقْ
حدوتُ الروح نحو مدائنٍ مجبولة بالشوقِ
والجسد الصديّ مجرّحٌ مرهقْ
وكان فتى كما الدرويش، إذ يغري فراشته بلفح النارِ،
قال: النار للتطهير فاغتسلي
لكي تَصِلِي
فإن النور مطلبُنا
وإن النار لا تحرقْ
فجلجل من وراء النفس صوتٌ
كانبثاق الماء في الصحراءِ: واعجبا!
تقاتل دونما سيفٍ؟ وتبحر دونما زورقْ؟
طويت النفس عن سرّ من الأسرار لا يقهرْ
فنور غزالتي مصباحي الأخضر.
14
ما بالُ فاسَ اليوم أبهى من عيونِ العاشقينْ
وغبارِ خيل الفاتحينْ؟
وسبو؟ لمن غنّى، فغطّتْ شاطئيه بلابل النجوى
وأبحرت العذارى في عُبابٍ من حنين!
والسيّد البدويّ؟ كيف يشدّ من طنطا الرحال هنيهةً
ليرى مريديه الذين تجمّعوا يوما بباب أبي الجنود،
ليشهدوا في خرقة الفقراء نور السالكينْ
تركوا الذي من أجله خرجوا، فقد ثملوا بكأسٍ من يقينْ.
السيدُ البدويُّ يذكر كيف دسّ الشانئونَ له أعاصير الغوايةِ
في أساور غادةٍ مزهوّةٍ بإهابها الغض المبينْ
لم يعتقله زُخرف الدنيا، وغضّ الطرف عن سلطانها الذاوي
وأسلم للحنينْ
مجدافه، وبكى! وقد ملكت جوانحه أعاصير الجنونْ:
خذني إلى ملكوتك الوهّاجِ، خذني يا حبيبي، إنني أدركت بالحبّ اليقين.
ظمآن يخلع خرقة الدرويش:
هل يصغي الدراويشُ العراةْ؟
هلْ يعْلمون بأن خرقتهم ستارٌ يحجبُ الرؤيا؟
وهل يدرون أنّ تأوه الفقراءِ يفضي للمتاه؟
خالطْ جموع الشاردين من الشياهْ
خالطهمُ واصبرْ لينفتح الطريق إلى الحياة
يا أيّها الدرويش:
"ما في الجبة الورقاء إلا الله" وسوسة العصاة
فاهتف إذا انفتح الطريق إلى الحبيبْ:
حمداً لك اللهمّ، أنت وهبتني سرّ الحياة
حمداً لك اللهمّ، أنت وقيتني شرّ المتاه
ومنحتني بصراً حديداً فانطلقت إلى مرادي
واخترقت الحجْبَ! ظلمةَ قبريَ المحفوفِ بالأهوالِ،
يا سبحانك اللهمّ، أنت كشفتَ ما بي من كروبْ.
سبحانك اللهمّ، فاسُ اليوم واحةْ
وهبت فتاها ما يطيب من الهوى، وشفت جراحهْ!
من قال: فاسُ تمدّ خيط الشوقِ نحو مدائنٍ مجبولة بالنورِ؟
أو من قال: إنَّ عرارَ نجدٍ في حمى البطحاءِ
ينسج للشريد المستحمّ بشوقه الدامي وشاحهْ؟
وأبو عنانٍ من عناقيدِ المرينيِّين يعصر للفتى المجنون راحهْ!
15
يدكِ البهيةُ نعمةٌ من خالقي
مرّت على جدثي فأحيت دارساَ
من خفقة موصولة بحقائقِ
قد عدتُ أيّتها الأميرةُ من شذا أعماقها بزوارقِ
مملوءة حبّا .. وتوبةَ صادقِ
هي توبة هزّت بجذعي الباسقِ
فاسَّاقط الجذع الغريبُ
بما تناثر من فؤاد شائقِ
ورجعت من شطآن مملكة الأميرةِ مثقلاً بحدائقِ
قدسيّةِ الأثمار لم تحلمْ بها من قبل ريشة شاعرٍ،
كلا ولا امتدّتْ إلى عرصاتها من قبل مُقلة عاشقِ
ولآلئٍ عزّت على الملاّحِ، أبحر فلكه الموَّارُ
في بحرٍ من الظُّلماتِ.
أفْدي مغرقي في البحر، بحر العارفين،
فصرت أكرم غارقِ
وكأنّني أُلْبِسْتُ خلعةَ "وامقِ"
سيّرتُ زورقيَ الضعيفَ سنينَ، لا مجدافَ لي،
لا سرّ من ريح الفناء يجيرني،
لا زاد في سفري الطويلِ،
يكاد حملي يقصم الظهر النحيلَ،
ونفخة الريح الغضوب تثير لفح حرائقي
سيّرتُ زورقيَ الصغيَر جهالةً في لجّة الشهواتِ
حتى كاد يخذل همّتي العمر الجميلْ
فإذا يد الأقدار تفْتح لي برفقٍ
بابكِ الورديّ، أيتها الأميرةُ، ثم تهتف بي: لقد أزف الرحيلْ
وجوادُ توبتك المجنّحُ قد أضرّ به الصهيلْ
فإذا ركبتَ الآن .. فانعم بالدخولْ.
16
مولاي، أتعبني المدى، وجياديَ الثكلى تحيط بها الذنوبُ
والشمس تومئ لي أشعّتها: لقد أزف الغروبُ
أو لم يصحْ في عارضيك الشيبُ؟ يا مغرور، قد نصح المشيبُ
وأنا الغريبُ
وأنا المشرّدُ في الدروبِ، وتبتغي دميَ الدروبُ
وأنا الذي ضيّعتُ عمري في التماس الشوقِ،
هل لي من سبيلٍ بيّنٍ للشوقِ؟
أم للشوق أجنحةٌ إليكِ، إذا جيادُكِ مسّها يوماً لغوبُ؟
وأنا الذي ضيّعتُ عمري بانتظار نواله
وأنا الذي سيّرتُ آمالي ببحر جماله
يا قلبُ، أين دليلك الهادي إلى عرصات طاعتك التي حُجِبتْ
لذنبٍ عن محاسنها القلوبُ
طوّفتُ أزمنةً، وطوّح باشتعال الأمنياتِ البيضِ
ما في أمره حار الطبيبُ
حتى إذا كادت خوابي اليأسِ، تسقي روحك الظامي
ويضطرم اللهيبُ
كشفت يدُ الأقدار ما احتجبا:
يا أيّها الساعي إلى عرصات توبتك الأخيرة
ليكن جميل الصّبر أمّاً، في الرضا، وأبا
واركب مع الأسحار أجنحة البكا
واصحب مع الإبكار من يرجون رحمته الأثيرة
لا شيخَ يملك أن يردّ عن الفؤاد جحافل الظُّلَمِ المغيرةْ
لا شيخَ إلا أن تقوم على بصيرةْ
وتسير في درب مشاه الأنبياءُ،
فإنّ شيخك أنت بارقةٌ من الملكوت تهمي
أو يدٌ برّاقةٌ بأساور التقوى، تمدّ إليك من خلف النجومِ
قصيدةً خضراءَ تنسجها أميرة
17
يا أيها الساعي إلى الفردوسِ إن كُشف الغطاءْ
فاعلم بأنّ النهر ليس سوى ابتلاءْ
واحذر تألقه فكم من ظامئ لمّا تقحّمه هلكْ.
لك غَرفةٌ يا أيّها الباغي عراجين البهاء
لك غَرفةٌ.. ثمّ السلام عليكمُ
يا أيّها الأحبابُ إنّي راحلٌ متمسّكٌ بحبال من قبلي سلكْ.
ويجيئني صوتٌ عظيمٌ أكرمُ:
ما أصعب المرْقى، نعم، لكنني خبّأت لكْ
ما ليس تبصره العيونُ، وليس يحويه فلكْ
هيّأتُ لكْ
يا عبدُ منزلةً، فمن ياقوتها الوهّاجِ، تقتبس العيون ضياءَها
تجد القلوب شفاءَها
ويسير في جنّاتها المشتاق وهْو منعّمُ
هي غايةٌ من دونها بيض الحمائلْ
هي غايةٌ من دونها حمر المناصلْ
فاركبْ وسبّحْ في الغداة وفي الأصائلْ
واصرف هواك إليّ وحدي
لا تلتفتْ .. لتكون عندي
نوراً يُسبّحُ وهْو يَسْبَحُ تحت مجدي
أأعزّ ممّن رحمةً أكرمْتُه
وجعلته، يا عبدُ، عبدي؟
18
كُشف الغطاءْ
لا ظلّ في الصحراءِ ندفن فيه غربتنا،
ولا أنداءُ بارقةٍ يواسينا، ولا قمرٌ تألّق في سماه
لا غيمةٌ تحنو على ظمأ الغريب، ولا مياه
لا نسمةٌ عذراءُ يا قلبي تمدّ إلى مرابعنا شرايين الحياة
وضربت في الفلوات أزمنةً، إلى أن جفّ عود العمر من سغبٍ
ومن عطشٍ تشقّقت الشفاه
فإذا صبا نجدٍ يبشّرني بنجمةْ
وبظلّ غيمةْ
ويقول لي: من سَرَّهُ أن يستظلّ بواحةٍ خضراءَ لا تبلى محاسنُها
فإنّ الحبّ شمس المدلجينْ
الحبّ مشكاةُ اليقينْ
ولَرُبَّ طَيْفِ أميرةٍ، كجُمانة البحريّ، أو كالكوكب الدريّ،
مسّكَ من بعيدٍ ريحُها الموعودُ، فانفتحتْ مصاريع الشهادةِ،
قد طلبتَ المرتقى فاصعدْ إلى ربّ كريمٍ.
رُبَّ طيفِ أميرةٍ، كالشمس تحت الغيمِ، جلّلها لباسُ العشق والتقوى،
تراءت من بعيدٍ، حين ضمّخك اسمها غمرتك، عند الشاطئ المجهولِ،
أمواجُ التواريخ العتيقة: كان إبراهيمُ يهجر أرض حرّانٍ،
وتحت ردائه شمسٌ مكرّمةٌ، يقول عظيمُ مصرَ: تهيئي،
فتهيّأت وقنوتها حصنٌ، تناول غيمَها الساري يدُ الجبّار،
فاضطرب الدلاء، تحجّرت يدُه،
يقول فدتك مصرُ وما حوتْ مصرٌ، بربّك أطلقي كفّي فديتكِ.
كان إبراهيم في صلواته الفيحاءِ يسكبُ دمعةَ الإخلاص في المحرابِ،
لا زادٌ كهذا الحبِّ، يا شمساً مكرّمةً يُفَدّيها بنو ماءِ السّماءْ.
كُشف الغطاءْ
فانعمْ بحبّك، واستقمْ،
واسلكْ طريق الأنبياءْ.
الصحيفة الثالثة
الأوبة إلى فاران
(1)
أيُّ بلادِ اللهِ أحبُّ إليكَ؟
بلادٌ تطْلُع منها شمسُ حبيبي.
ماذا أعددتَ، أيا محزونُ، من الزّاد ليوم غروبِ؟
فالسفر طويلٌ،
والبحر عميقٌ،
والعَقْبة كأداءْ.
أعددتُ لذلك ما زوّدني عند الأسحارِ حبيبي
كلّ دعاءْ
يطْلُعُ منه في عمري المجرودِ بساتينُ وغُدْرانْ
ليست، من بهجتها، مثلَ الغُدْرانْ
(2)
من ألقاني من بعد زمانِ الوصْلِ الفوّاحِ قتيلاً في بحْرِ الغيوانْ؟
من دثّرني بالْحزْنِ الغافي كقوارير الطّيبِ
في أهْدابِ حبيبي؟
أدّاني الهوْلُ إلى مملكةٍ واسعةٍ
لم يعرفْها إنسٌ من قبلُ ولا جان.
مملكةٍ فيها الحصْباءُ من الياقوتِ،
وفيها أنْهارٌ من عسلٍ،
وصبايا كالشّمسِ،
وطيرٌ صادحة بالهمسِ،
وفيها خيراتٌ كالنور حسانْ
من كحّل أجفاني بالهوْلِ، أنا الحيرانْ؟
من فرّق ما بين الشّيخ الموزونِ وبيني، وأعدّ ليَ الأكفانْ؟
من غيْرُ حبيبي مِن إعْصارِ الخوفِ يقيني
ويشدّ على اللأواء يقيني؟
من غيرُ حبيبي يودِع أفراحَ الجنّةِ نبْضي وشراييني؟
لو أمْلِكُ أن أهْربَ من ذاتي الخرساءِ
وأخلّفَ أثقالَ الطّينِ ورائي
لو أمْلِكُ أن أخرج من أرضِ العصيانْ
لو أمْلِكُ أن أجترحَ النسيانْ
وأفتّحَ شرفاتي للرَّوْحِ وللريحانْ
وأقول: هيا ربّي، عَبْدُكَ جاءَك هَرْوَلةً منْكسراً وفقيراً
يسترْفد من مائدةِ الغفرانْ
فافْتح باب الرّوضة لاثنينِ صغَتْ من أنداء الْحُبِّ قلوبهما
واجعلْ خيمةَ نوركَ مثْوى للفقراءِ
من غيرُ حبيبي يمنحُني معراجاً لأعز سماءِ؟
من يرْجع لي من بعد التّيهِ تراتيلَ دعائي...
ويعلّمني ما قد نسي القلْبُ من الأسماءِ؟
حين تتيه تحيّتُكَ البيضاءُ، حبيبي
عن إصْباحي
عن إمْسائي
يستوطن جيشُ الحزْنِ دروبي
وتحنّ قفارُ الوطَنِ المكْدودِ إلى قطرة ماءِ
هذا الحبّ كفيلٌ أن يستنهض أحرارَ بلادي
ويقاومَ جيشَ الأعداءِ
وكفيلٌ أن يسحقَ كلّ جحافلهمْ
ويعيدَ لبغدادَ أجلّ رواءِ
لكنْ.. من لي بسيوف النأي إذا انتضيتْ
والقلبُ يقاوم أمواجاً من خوفٍ ورجاء؟
(3)
آهٍ يا بحر الغيوانْ
من علّم طائركَ الميمونَ العَزْفَ على وتر الأشْجَانْ؟
من علّم هَجْهُوجَكَ أن يرشقني كالوردة في خاصرة الجرْحِ،
وينشرني كشراع اللَّيْلِ المنسيّ ويطويني؟
حَرْفي يا بحرَ الغيوان دمٌ يطْلُع من آخر قافية في الديوانْ
من آخر قافِلَةٍ تعْبرُ دار الأحْزانْ
حَرْفي يتوضّأ في نهْرِ جنوني
ويصلّي في المحْرابِ
عنْد مناراتِ أحبّ جبينِ
وعليٌّ يتْلو في ساحة (هوشي منه)
ما يتيسّرُ عند الفجر من القُرْآنْ.
ويردّد في السَّحَر الموشومِ بآلام المنبوذينَ، وأفْراحِ الشُّهداءِ
موّالا حَلَبيّاً ممزوجاً بتراتيل الخطّابي
فَغُبَارُ الرّيفِ جحيمٌ يمْطرُ جيشَ الأعْداءِ
ويُجَلْجِلُ عزماً من جبلِ الشّيخ إلى سيناءِ
وعليٌّ عادَ إلى الشامِ يسربلهُ شوقُ العشّاقِ إلى الجنّة
فقضى وطراً خبّأه في القلْبِ كأسرار كتابِ
بعبير الصّحب يفوحْ
يا صاحبيَ المجْروحْ
خلّ النايَ يغنّي وينوحْ
خلّ "العربي باطما" يرشف حُزْنه
يُفْرِغ دنّه
ويغنّي: هبّتْ ريحُ الجنّة
آهٍ، ما أطْيَبَها ريح الجنّة
خلّ "الأمرانيّ" على نغمات السيتارِ يوقّع عِشْقَ أبيه الدامي
لعروسٍ تنشُر فوق الصّهْد ظلالا
وتُسرّحُ فوق ظلال الريصاني
سالفها الممدود كسالف لونجا
تورث ظلمته نورا..وهْجا..
فيغني الخلخالا
خلّ "الربّاوي" المتسكّع في أدغالِ الذاتِ
يُدنْدِن حول الغيث المدرارْ
ويوحّد ما بين النّار وبين النّارْ
نارانِ اعتنقتْ أشواقهما كي تتدفّق من بين أصابعه الأشعارْ
خلِّهْ إنْ هُو طاعَنَ بَحْرا
يهتفْ: بشرى!
ويوزّعْ أقْداحَ البِشْرِ على فقراء الشيخ الكاملْ
من (باب المنصورْ)
حتّى أحراش (محطّة سيدي قدّورْ)
حتّى اختلطت في عينيه مدارات الحابل والنابل
و الحامل والهامل
خلّ دمائي تبحثْ عن موردها
فلقدْ ألْقَيْتُ بشاطئها المجهولِ عصا التَّسيارْ
سكن الأحباب الأغوارْ
رشفوا من كنْعانَ كؤوسَ العسل المرجانية
زرعوا عزمهمُ الجبّارَ بحاراتِ الفلّوجة وأتزروا بنسيمِ الزوراءِ
وعانقَ رفْدُهم الطورا
وجبالَ (طُرا بورا)
وأنا خُلّفتُ وحيداً بعْدَهُمُ طلَلًا مهجورا
تنعب فيه الغربانْ
فاعزِفْ، يا قلبي المأسورَ، اعْزِفْ آلامَك حتى تتكسّرَ أضلاعُ الهجهوجِ
وأرسلْ في الحضرة أنفاسَ العشْقِ هجيرا
مادام الدّربُ إلى الأحبابِ تسدّ منافذَهُ
ريحٌ قَدّتْ من دُبُرٍ في الليل قَميصي
فاستسلمتُ لها...سكْرانَ...حسيرا
آهٌ، في سعةِ الحلْمِ الطالع من جُرْحِ الأهوازِ،
ومن أنفاسِ أسامةَ في الفجْرِ، تُعَلّقني قرطاً في الأذن اليسرى
من وردة كنْعانَ... وتلبس أحبابي الفقراءَ دِمَقْساً وحريرا
وتعيدُ غزالتنا العربيّةَ (إيميلي) شَمْساً عذْراءَ إلى بحْرِ عُمَانَ،
تقول: تعلّمتُ العربيّةَ في بغْدَادَ، فهل يُنْكرني الكرْخُ؟
وهل يتنكّرُ دجْلةُ للمتنبّي؟
هلّ تتنكّر كندةُ للعاشقِ وهْو فتاها؟
هو من غنّى خولةَ إذ برقتْ في الليلِ على النأي ثناياها
وصَبَا حين صَبَا المعشوقِ على نؤي القلب رُخاءً مَرَّ وتاها؟
(4)
أدْخَلَني من بابِ الإحْرام إلى ملكوتِ اللهِ
وقال فديتُكَ، قدْ دخَلَتْ أيّامُ التشْريقِ
فتجَرّدْ من كلّ مخيطٍ للشهواتِ،
وكنْ يا محبوبي بالله رفيقي
واملأ بالطّيب وبالفرح الموعود عروقي
ضمّخْني، ضمخْني من طيبكَ.. واعرُجْ نحْو سمائي
واكتبْ أفْديكَ قصيدةَ عشْقِكَ في نور بريقي
أو تحت ضياء حريقي
فأنا مِنْ قَبْلِ الميلادِ يُسَرْبِلُنِي شوقٌ جبّارٌ للمعشوقِ
وأنا خارطةٌ لم يفتحْها ملكٌ من قبْلُ،
وبستانٌ ما ذاق فَواكهَهُ أحدٌ من قبْلُ،
سماءٌ لم يدْركْ أحَدٌ أسرارَ رعودي وبروقي
أنا كنزٌ مخبوءٌ لك من عهْدِ (أَلَسْتُ..)
يُكَوْكِبُني حبُّكَ نجْماً لا يخبو
ويموسقني إيقاعاً قدسيّاً في كلّ شروقِ
تاه قروناً زورقيَ المنسيُّ ببحْرِ الآلامِ
فلمّا كوْكَبُكَ الوضّاحُ تجلّى أبصْرتُ طريقي
هذا وقتُ الإحرامِ فلا تأخذْ شيئا من أشْعارِكَ..
أو من أظفارِكَ..
أو ممّا اخْتزَنَتْ روحُكَ من أوْطارِكَ..
لكنْ إن شئت فقُصَّ جذورَ البيْنِ، وقلّمْ أظفار الغُرْبَةِ،
جارحةٌ أظفار الغربةِ، يا موْلايَ، وموجعةٌ أسيافُ البيْنِ،
إذا جُعْتَ فكلْ مما اختزنتهُ بساتينُ الرّوحِ الميلاءِ، حبيبي...
دونكَ تفّاحي وكرومي وعراجيني
وإذا ظمئتْ روحُكَ، أو أفرغتَ كؤوسَ الصبر، فدونك يا مولايَ رحيقي
(5)
أوقفني عند مقامِ الوصْلِ وقالَ:
ألا إنّ الغفلةَ عن وجْهِ المحْبوبِ حجابْ
ألا إنّ اليأْسَ من المحْبوبِ عذابْ
ألا إن المفتاحَ إلى ملكوت المحبوبِ
دموعُ الخشية في المحرابْ
(6)
أوقفني عند مقام الحرف وقالَ:
تأمّل، كانت كينونتك الأولى كافاً
والكاف كتابٌ أو زهرة كاميليا أو كوكبْ
لكنّ السرّ المكنونْ
في النونْ
فالنون هي النورْ
والنون هي النار البورك من فيها في الطورْ
والنون صحائف نوحْ
(ولقد نادانا نوحْ)
والنون هي الفُلْك المشحونْ.
وهي نداء الظلمات ببطن النونْ.
فعلام عدلت عن المركبْ؟
(7)
أوقفني في باب البوح وقالَ:
إذا ما بحتَ جرت منك دماؤك قبل دمي.
أنسيت حديث العاشق إذ قالَ:
أرى قدمي
قدَ اَراق دمي
(8)
آهٍ لو يأخذني اليوم حبيبي
راعيَ ضأنٍ في قطعانهْ
لو يجعل منّي حارس ورد في بستانهْ
ويمسّدني كالقطّة حين تجوع، ويطعمني بيديه..
يداعبني، ويدللني من غير رقيبِ
(9)
آهٍ...آااه...
المعشوقُ المتبتّل يَسْبح في الملكوتْ
ويُسَبِّحُ مَوْلاهْ
والعاشقُ مشدوداً للطين يموتْ.
(10)
قالت وردةُ كنعانْ:
أخبرني يا حيرانْ
كيفَ أتيتَ تكَفْكِفُ عنْ سجّادتيَ الأحزانْ؟
هل أنبأك العرّافْ؟
قال لها: بل أنبأني مصباحُ القَلْبْ
أو ما أوصانا المحبوب ُ بأن نسْتَفْتِي القلْبْ؟
قالت: ممّ تخافْ؟
قال: أخافْ
أن أُنْبَذَ يومَ الحشْرِ، وأُحْرَمَ من بستان القُرْبْ
(11)
سرّحْ مسجونك يا قمري أنْعَمْ برضاكْ
وافتح أبواب سماكْ
قد راودت الدنيا مسجونكَ عن نفسه فاستعصمْ
وأرادته الشّهواتُ ففرّ فرارك من أجذمْ
مسجونك قد عصمته دهوراً دار الأرقمْ
ثم مضى يطّوَّفُ في أقطار الدنيا السبعة
كي تشرق شمس الله
مسجونك قد عقر اليوم جواده
لضيوف الله
وجدة: 21/12/2006
هوامش:
الهجهوج: آلة موسيقية شعبية.
العربي باطما، رحمه الله، من مؤسسي فرقة ناس الغيوان.
الشريف الأمرانيّ، رحمه الله، ابن عمّ الشاعر، وهو من مؤسسي فرقة المشاهب، وكان والده، مولاي مبارك، من أشهر منشدي الريصاني وبودنيب، وقرى تافيلالت بعامة.
رحم الله الجميع.
الصحيفة الثالثة
كيفَ لي أن أدرك الخيْلَ؟
" بدا لي بين حين وآخر أن حنيني إلى وطني لن يطفأ"
الأميرة سالمة بنت سعيد (إميلي رويته)
سألثُمُ التّمْثالَ إذ لَمْ أجِدْ
للثم نعل المصطفى من سبيلْ
لعلّني أحْظى بتقْبيلهِ
في جَنَّةِ الفرْدوْسِ أسنى مقيلْ
في ظِلِّ طُوبى ساكناً آمِناً
أُسْقى بأكواسٍ من السلسبيلْ
أمّ السعد بنت عصام الحميري
(1)
أروى تقولُ: أبي احْكِ لي
عن فتْيةٍ في الغارِ، أو عن يوسفٍ في الجبّ،
أو عن صبْرِ أيّوبٍ إذا رحل النهارْ
عنْ حزن مريمَ عند جذع النخلة الفرعاءِ،
عنْ آلام زينبَ وهْي تعتنق الحسينْ
والدمع كحّلَ منْ سناها المقلتينْ
أو فاحْكِ، يا أبتي، عن الفرسان إذ ركبوا البحارْ
بحثاً عن المجْهُولِ . . عن سفْر المحبَّة والسلامْ
وإذا تقطّع يا أبي حبلُ الكلامْ
فارسم إذنْ لي نخْلةً، أو قطةً، أو وردة من أرْض كنعانٍ،
تُحَدِّقُ في شعاع الشمس شامخةً، وتسْخَر من خفافيش الظلامْ
(2)
...ورأيتُ، يا أروى، الفوارسَ يركبون البحرَ، مسكونين بالأمل الرّحيبْ
خرجوا وبحر عُمَانَ في أحداقهمْ بستانُ عشقٍ لا يصوّحُ، والدروبْ
محفوفةٌ بالخوفِ، لكنّ القلوبْ
حملت قناديل الذين بنوا لهم مجداً، وشمساً لا تغيبْ
أبنيّتي، طوبى لمن عَرَف الطّريقْ
طوبى لمن هو قد رأى ثم استقام على الطريقْ
طوبى لمن قدْ قيلَ: "إن النّاسَ قد جمعوا لكمْ"
فصغتْ قلوبهمُ وقالوا حسبنا: " الله مولانا ولا مولى لهم"
(3)
الهودج الشرقيّ شاقته البحارْ
فمضى يناجي الموج: يا أرجوحة العشّاقِ أُمّي زنجبارْ
وترفّقي، فوراء سترك نجمةٌ سبَتِ الغروبْ
والسيف مشتعلاً يقولْ:
تَفْدِيكِ، يا عربيَّةَ النفحاتِ، حبّاتُ القلوبْ
(4)
طوفي أميرة زنجبارْ
طوفي على التاريخ في ليل الصَّغَارْ
هل تذكرين شذا ظُفارْ؟
وملاعبَ الغزلانِ فيها، والعجول لها خوارْ
من قبل أن يأتي إليها الدبُّ، يلْهثُ بالدّمارْ
وصحَارُ، كيف تركتها؟
أو لم تزل تتْلو إذا زال النهارْ:
"اقترب للنّاس حسابهمْ وهم في غفلة معرضون"
فكأنّ أبوابَ السّعيرْ دخانُها قد سدّ أوردة النهارْ
وكأنّما أهلُ الغواية سُرْبِلوا أثوابَ نارْ
لكنّ ريح الجنّة انتشرت عطاياها، وأينعت الثمارْ
إذ راح يتلو ساعةَ الإبْكارِ صوتٌ ناعمٌ:
"ادعوه خوفاً وطمعاً إنَّ رحمة الله قريبٌ من المحسنين"
(5)
لأميرةٍ عربيَّةٍ حملتْ عُمانَ الطّيبِ في أردانها
ليلاً، ومن وشْي الكلامْ
نسجتْ رداء الفجر أحلاماً،
وحطَّتْ رحْلها العربيَّ في دار السلامْ
لتقول: حُلْمي موطني، إنْ غابت الورقاءُ عن أوطانها
لكنْ صواحبُ يوسفٍ هيّجْنَ من حسدٍ مدامعَها
كأنّ الغربةَ الخرساءَ لم تلهبْ مواجعها
فقدْ سكبتْ على أحزانهاِ
حَطَبَ الوقيعةِ، فاستقام الصمتُ سلطاناً على سلطانهاِ
وبكتْ لسيفٍ حِمْيَريٍّ كم أقام العدلَ مصباحاً على بنيانِها.
(6)
إميليرويثه يا وشْماً من الصحراءْ
أمَرُّ النفيِ إن نحنُ ارتحلنا عن وجيبِ الذّات كرهًا،
أو تغرَّبْنا عن الأسْماءْ
تسمّيْ: سارةً .. هنداً .. سميّةَ ..
أو تسمَّيْ فاطمَ الزهراءْ
تسّمَيْ .. إنَّ سالمةً تحنُّ إلى اسمها الورديِّ،
سالمةٌ تحنُّ لوشْمها العربيِّ، للرَّسمِ الذي يغفو على صدر المغيبِ.
ومن سيردُّ وجدانًا تكسّر فوقَ موجِ عُمَانَ؟
يا إيميلُ، منْ سيُلملمُ الأشلاءْ
وينفُخُ في العظامِ الرّوح وهْيَ رميمْ؟
(7)
أفْدي يساركِ باليمينِ، هيَا سماءً أمطرتْ نيلوفراً عَبِقاً،
وفاض العشقُ من أردانها في غفلةٍ عنها،
فجابَ ضياؤها البيداءَ ليلاً، مثلَ سيفٍ حِمْيَريٍّ بالثريَّا قد تعلّقْ
لينال شيئاً من رحيقِ الحكمة الأولى .. فليلُ الرُّوحِ أبرقْ
لم يبقَ من أملٍ، كأنَّ الموتَ أحْكمَ قبضتيه على يديَّ..
كأنّ سورَ الصِّينِ سدّ منافذي .. وكأنّ أحلامَ الشبيبة قبضُ ريحٍ،
كيف لي أنْ أدركَ الخيلَ التي عبرتْ؟
لقدْ شقّتْ غبارَ الليلِ،
كيف لمن ينامُ عن التبتّل أن ينال الصافناتِ وقد عدونَ؟
وكيف أُوقِدُ في دمايَ، إذا سجى ليلي، قناديل الصلاة
لتؤوب عافية الحياة؟
كم جبْتُ مشرقَها ومغربَها، كمثل السّندباد، ولا أميرةَ في الفلاة
وخرجتُ من أرضٍ إلى أرضٍ، ومن منفى إلى منفى،
وأقسى المنْفَييْنِ الذاتُ .. تدعوني فأتبعُها
وتفتح لي مصاريعَ الصَّبابةِ والهوى الغافي لتَصْرَعَني،
فأطْعِمُها إذا جاعتْ وأسقيها إذا عطشتْ، ولا شيءٌ من الأشياءِ يُشْبعُها.
(8)
كيْفَ لي أنْ أُدْرِكَ الخيْلَ وقد نمتُ وقاموا؟
كيف لي أن أعْبُرَ الجسْرَ إلى حيْث المقامُ؟
كيْفَ لي أنْ أُدْرِكَ الخيْلَ وهذا القلبُ يمْشي في السَّلاسلْ؟
كَيْفَ لي أن أُتْبِعَ الخُطْوةَ بالخُطْوةِ في دربِ الأوائلْ؟
قد تغَشَّتْني همومٌ وسقامُ
وتولتني على البُعْد سهامُ
وعلى الحِبّ السلامُ
(9)
وحينَ سألتُ من أهْوى
عن التّقْوى
أجاب القلبُ: هل تقْوى؟
هي الخوفُ الجميلُ من الجليلِ
وهي القناعةُ بالقليلِ
وهي التهيّؤ للرحيلِ
هلاّ تزوّدَ راحلٌ للقائه قبْل الرَّحيلِ؟
(10)
نَشَّرْتُ أَشْرعتي فألقتْ بي الرياحُ
إلى مدار جزيرةٍ مسكونةٍ بالصَّمتِ، أهلوها دُمَى..
من حاول التَّعْبِيرَ لم يفتحْ فما
ويقول أمْثَلُهمْ: أعرْني يا خدينَ الحُزْنِ عَقْلَكَ،
أكْفِكَ الهمَّ الذي نفث الدّما
فيم التّفكّر؟ والتّدبّرُ؟ حَسْبُ مَنْ رحَلَ السَّلامةُ مغْنَما
(11)
عُدْ يا ابنَ أمّي، عُدْ إليّ فإنّني ثكلى بِدُونِكَ،
يا ابن أمّي، يا ابنَ أشواقِ الطُّفُولَةِ،
يا ابن أمّي، يا ابنَ أحلامي النَّبيلَةِ،
عُدْ فسالمةٌ تحنُّ إلى مرابعها، تحنُّ إلى اسْمها،
عًدْ يا ابن أمّي، عدْ لحضْني، عُدْ لحصْني،
ليس ماءً، بل دمُ الآباء ما يجري بأوردة الأحبّةِ،
عُدْ لدفْءِ المهْدِ، وافتحْ للتي قد مزّقتها الغربةُ السوداءُ قلبكَ، عدْ إليّْ
إنِّي حملتُ لك الفؤادَ على يديّْ.
(12)
يا برقَ سيفٍ حِمْيَريٍّ بالثريّا قد تعلّقْ
يا نبْعَ نُورٍ بالسواقي قدْ تدفَّقْ
ما بالُ بابِ مدينةِ الحُكَمَاءِ مُغْلَقْ؟
والعاشقُون أتَوا إليكَ: عيونُهُمْ بشْرٌ تألّقْ
وأكفّهمْ وردٌ وزنبَقْ
ومخالبُ المنفَى تهدّ الرُّوحَ، والمنفى مفَاوِزُ ليسَ تَرْحمُ،
فهْي تدفَعُ بالغَريبِ إلى الرَّدى
ويظلّ ملتمسًا نَدَى
نارٍ إلى أسْرارها يأوي المحلّقْ
وأغضُّ طرفي عن سناك تعفّفا
فيقول لي ما قد تسرّبَ من سنَاكِ: ألست تلْقَى مصرِفا؟
من هاهنا مرّوا على أرضِ الرِّجالْ
متأبطين كتابَهُمْ وسلاحَهُمْ..
متأهّبينَ كمثل نجْمِ القَذْف ليلا للقتالْ
فمن الذي أبْقَاكَ أنتَ مع الخَوالفِ؟
ما الذي ألقاكَ مكتوفاً على أرضِ الجَزيرةِ؟
ما أرى إلا ذوي عُذْرٍ من المستضعفينَ، ولسْتَ منهمْ،
ما الذي أغْرَاك بالدنيا وزُخْرُفِها، وقد رضيَ الأحبَّةُ بالهجيرِ،
ومِلْتَ أنتَ إلى الظلالْ؟
ولمنْ تركتَ أميرَةَ العشَّاقِ إيميلي تُعاني وحْشَةَ الأيَّامِ؟
ربّي، كيْفَ لي أنْ أُدْرِكَ الخيْلَ التي عبَرَتْ؟
أأُسْرِج حُرْقَةَ الدَّمْعِ المُعَلّقِ في الجُفونِ؟
أم أسْتعيرُ السَّيْفَ منْ كَفِّ المَنونِ؟
(13)
يا نجمةً لماحةً في القلبِ قُطْبِيَّةْ
أبصرتُ فيكِ أميرةً عربيَّةً، في ثوبِ راعيَةٍ، وهيبتُها بعينِ الله مرْعيّةْ
تركتْ جدائلها العُمَانيّة
سكْرى كأشرعةٍ بجوف الليل منسيّةْ
وجبالُ مسْقِطَ هيَّأتْ سيفاً كلوْن الموْتِ،
في وجْهِ القراصنةِ الذين رمَتْ بهمْ ريحٌ شماليّةْ
وجبالُ مسْقِطَ ردّدتْ: إنّي أحبُّكِ، ما الذي أهديكِ؟
تلك يدايَ فارغتانِ إلا من هواكِ..
ونسمةٌ ألقَتْ إليّ بها جداولُ روحكِ الجذلى كأغنيَّةْ
تنساب من شبّابةٍ كالضوءِ مِسْكيّةْ
(14)
كيف الوصولُ إليكِ يا نارَ القِرَى؟
بيني وبينكِ هذه الخيلُ التي عبَرَتْ، وقد نذرتْ دمي،
وأسنّةٌ بالنّار مسقيّةْ
وأنا غريبٌ ليس في زوّادتي ما قدْ يردّ جحافل الصحراءِ
من جوعٍ ومن عطشٍ ومن خوفٍ،
وفي قلبي بقايا خيمةٍ للحزن مبنيّة
والصّمتُ في حرم الجمالِ صحائفٌ منشورةٌ
ومواقفٌ مشهورةٌ
وحرائق في الروح مطويّةْ
وحدائقٌ خضراءُ مسكيّةْ
(15)
رأيت بمدخل البتراءِ، عند السِّيقِ، لوحاً بابليّاً
يستجير بعاشِقَيْنِ، تظلّل الآهاتُ حلْمهما:
لماذا أّيُّها البرقُ الحجازيّ اشتريتَ الموت مبتهلا؟
وبعتَ رُضابَ صاحبةٍ، ولثغةَ طفلةٍ سمراءَ،
تبعث في مناك الروح والإيمان والجذلا
وتهتفُ: إن أمُتْ يتبعْ صداي صداك بين خرائب الموتى،
ونُرْجعْ للصّغار العفْرِ طعم النور والأملا
لماذا يصعد الجبلا
فتى دانت له الدنيا، ولم تمنعهُ ما سألا
فباع الخزّ والياقوت والديباج والحُللا
ألا أيها البرقُ الحجازيُّ الذي ارتحلا
رضيّ النفس، مشتملا
بحلمِ دونه خرطُ القتاد، وزادُه المستضعفون،
وآية تتلى بجوفِ الليلِ، خبِّرْ:
كيف لي أن أدرك الخيل التي عبرتْ؟
أأدركها ترى أم مانعي الشَّيْبُ الذي اشتعلا؟
(16)
ألا هل لي إلى مرأى الأحبّة أو للثم نعالهم سُبُلا؟
عسى بسناهم النبويّ يغدو الطرف مكتحلا
أراني قاعدا والقلبُ حلّق يبتغي نُزُلا
وما يبغي بهم بَدَلا
وهل للْقاعد المأسور من عُذرٍ إذا ما انهلّ مِنْ شأْنيهما سَبلا؟
(17)
فتى الفتيان لا تقنَطْ
لقد بايعتَ في المنشطْ
كما بايعتَ في المكرَهْ
ودقّتْ ساعة العُسْرةْ
فلا تنظر إلى برديكَ، لا تنظر لسحْر الماء والخضرةْ
ولا تنظرْ إلى زوجٍ أعدّتْ في العريش ظلالها النضرةْ
وكنْ في هذه البيداءْ
أبا ذرٍّ وخيثمةً، فدربُ الفتح والنّصرةْ
لمن قد باع آجله، وأسلم للهدى أمرهْ
صِحابك حين ناداهمْ نداءٌ نوره فلقُ
خفافاً هم قد انطلقوا
ثقالا هم قد انطلقوا
إلى أن ضمّهمْ أفقُ
(18)
فتى الفتيانِ، يا ابن وليدةِ الصحراءْ
إميلي رويثُ قد نادتك ثانيةً، فلا تُشْمِت بها الأعداءْ
ولا تترك بنيها تحت قبضتهمْ لتُطْعِمَهُمْ خبيث الزادِ،
ترضعَهمْ لِبانَ الحقْدِ والبغضاءْ
إميلي أختُك العربيَّة الحسناءْ
ففيمَ الصمتْ؟
أصَخْرٌ أنتْ؟
..............
(19)
يا سيفَ حِمْيَرَ ما الذي أغراك بي؟
بدمي، بأزهار الحديقةِ؟
ما الذي أغراك بي ثم انسلَلْتَ؟
من الذي أغراك بالموتِ الجميلِ على مروجي؟
أنت قد حبّبتَ، يا برق المعرّة يا تنوخيّ الملامحِ،
أنت قد حبّبتَ لي العشْقَ الذي قد أورد القلبَ المهالكَ،
أنت قد حبّبت لي الموتَ الذي
قد راود القلب المتيّم من صباهْ
حبّبت للقلب المتيَّمِ كلَّ أشواق الحياةْ
أشْجَانَ ليْلِ السَّالكِينَ، وخمْرَةَ العُشّاقِ،
والدّمعَ المرابطَ في جفونِ العابرينَ إلى قناديلِ الصلاة.
لا والذي أبْكى وأضحكَ، والذي أغْنى وأقْنى،
ما يناديني ونبض قصيدتي الحبلى إلى أعتابِ بَرْقِكَ جارحاً
إلا فراشات تُحوّمُ من بعيدٍ حول عرشِكَ،
قد علمتَ بأنّ موتي من صباك إليّ أقربُ،
والجنونَ إليّ أقربُ،
واشتعالَ الموْجِ أقربُ من دمي وسكينتي
ويصادقُ الإعصارُ أشرعتي التي سيّرتها في الليلِ،
والمَنْفى يُطِوّقُني، وما أدري متى؟
وبأيِّ أرضٍ، يا مرايا صبوتي الأولى، أموتْ؟
والعُمْرُ غاضَ، وما تبقّى منه أوْهَى من بيوتِ العنكبوتْ
وسفينةُ الأحلامِ تطْوي الأرضَ طيّاً،
يا رفيقَ الدَّرْبِ، تجمعُنا ظلالا فوقَ بحر عُمانَ ليلا،
أو حدائقِ سيّد الشهداء في عَمّانَ،
أو قد نلتقي طيفينِ عند مشارف الناظورِ،
والناظورُ صبٌّ يندبُ مْليليَّةَ العَذْراءَ
يأسِرُ طيبَها القوطيُّ من زمنٍ،
وصوتُ الشَّاعرِ المأسورِ يُنْشِدُ:
(إنني ضيّعتُ أحلامَ الصِّبَا:
القتلُ يا وتري ولادةْ
القتلُ هندسةٌ إلى مستقبلٍ حنَتْ إليه الروحُ.
معراجُ الشهادةِ.
هو جسرُ الخالدين، وعُدّةٌ للصابرين الصاعدين ذرى السعادة).
حتّى إذا سكتَ المغنّي جاءَ صوتُكَ من بعيدٍ: يا بديعْ
إنّي أحسُّ نداوةَ الفردوس تدنو، والرَّبيعْ
يدعو الفراشةَ بعد أيّام الصقيعْ
اللهَ ما أشهى التوسّد في البقيعْ.
طوبى لمن أفضى إليكَ بما لديه غداً
وما حجبته نجْوى النّفسِ عن بستانك الخضل المريعْ
طوبى لزائرك المتيّم يا بقيعْ
(20)
بحارُ الموتِ تبتلعُ الغربيةَ دونما مرآةْ
ومَوْجُ البحْرِ يرسلُ أنَّةً في الليلِ،
ما يبقى سوى ذكْرى، وزفرةِ عاشقٍ من فوق صخرتهِ
تُودّعُ مُلْكَ آباءٍ كمثْلِ سَفينَةِ تاهتْ بلا مرساةْ
وغير الآهِ...
غير الآهِ..
غير الآهْ..
آهْ...
آهْ...
آهْ..
دبي: أكتوبر 2007 يونيو 2008
وسوم: العدد 742