الإسلام والحضارة
حينما نقول: "الإسلام والحضارة" يتبادر إلى الأذهان أن الحضارة: شيء غير الإسلام، لأن كلمة “الحضارة” جاءت معطوفة على “الإسلام”. والعطف يقتضي التغاير –كما هو مقرر في أصول العربية-.
يضاف إلى ذلك أن كلمة “الإسلام” قد وردت في القرآن بدلالاتها المتعددة، سواء قصد بها أصل الدين الإلهي الشامل لكل ما نزل من عند الله: “إن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب”. آل عمران 19.
أو أريد بها: الإسلام -المتمثل في فعل التكاليف الشرعية الظاهرة- المقابلة للإيمان المستتر، في القلب. كما في قوله تعالى: “قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا، إن الله غفور رحيم”. الحجرات 14.
أو أريد بها: ما خُص به محمد صلى الله عليه وسلم، من الدين الخاتم، الذي أتم الله به الرسالات الإلهية، كما في قوله تعالى: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا، فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم”. المائدة 3.
أما كلمة الحضارة: فهي كلمة عربية، يراد بها: ما يقابل البادية، أو يراد بها: سكان الحواضر -من القرى والمدن- بخلاف البدو: الذين ينتقلون في سكنهم، من مكان، إلى مكان، طلبًا للماء، والكلأ. ومن هنا: ارتبطت حياة الحضر، بالاستقرار-الذي يكون نتيجته: الزراعة، والصناعة، والبناء- وكل مظاهر التقدم المادي.
ولما كانت حياة الحضر المادية: متقدمة على حياة البدو، نتيجة الاستقرار، وما يؤدي إليه من ممارسات متميزة، أصبحت كلمة “الحضارة” مشوبة بمعنى الرقي، والتقدم. فإذا أضفنا إلى ذلك -ما انتهت إليه الحضارة المعاصرة- من ضروب التقدم المادي، عرفنا كيف أصبحت كلمة “الحضارة” -في عرف الناس اليوم– تعني: التقدم، والرقي. وكيف انسحب هذا التقدم، والرقي بعد ذلك، من الجانب المادي، من الحياة: إلى بقية الجوانب الأخرى، التى لم يحرز فيها الإنسان -مثل هذا التقدم- بل ربما تراجع عما عرفته الحضارات السابقة، من حيث القيم، والأخلاق، التي تميز إنسانية الإنسان، والتي هي المقياس الحقيقي للتقدم البشري، والرقي الاجتماعي.
إن كلمة “الحضارة” –بهذا المفهوم الذي انتهت إليه– تطرح أمامنا مشكلة المصطلحات، ودلالاتها، ذلك أن الكلمة: تبدأ رحلتها، بالمعنى اللغوي، ثم تستعمل مجازا في معنى من المعاني، وقد يتجاوز بهذا المعنى، إلى معنى آخر. وهكذا تبدأ الكلمة بمعنى، وتنتهي في نهاية الرحلة: إلى معنى مختلف، وكأنها أصبحت كلمة أخرى.
إن كلمة “الحضارة” –بما انتهت إليه من مفهوم التقدم، والرقي- لم تكن معروفة في السابق، ويمكن لنا أن نتساءل عن السر، الذي غابت فيه هذه الكلمة، بهذا المفهوم، عن مسرح الحياة. ثم ظهرت في العصور الحديثة، وأصبحت واسعة الانتشار، يتحدث عنها القاصي، والداني. ولو كان من سكان البوادي.
إن كلمة “الدين” أو الإسلام –بمعناه العام– هي الكلمة التي كانت شائعة في الماضي، والتي كانت تظلّل حياة البشر، بما تحمله من قيم خلقية، وتصورات عقدية، يلتقي الناس حولها، ويشكلون مجموعات بشرية، تتمايز في منجزاتها، ومكتسباتها -حسب تمايزها في تصوراتها العقدية، ومواقفها من الكون، والحياة- كما تتمايز في قيمها الخلقية، وممارساتها السلوكية، بما تمليه عليها تلك الاعتقادات، والتصورات.
وينشأ عن كل ذلك: إنجازات مادية، تعكس تلك التصورات، والقيم -يحكم عليها بالتقدم، أو التخلف- طبقاً لمستوى التصورات، والقيم –وما فيها من خطأ، أو صواب-. وحسب ما ترتفع بإنسانية الإنسان -التي تميزه عن بقية المخلوقات-، أو تنتكس بهذه الإنسانية، فيقترب الإنسان: من مستوى المخلوقات الأخرى.
إن الذي حصل في الغرب -من صراع بين الكنيسة، والعلم- وأدى في النتيجة: إلى انسحاب الدين، من الحياة. وحصر مفهوم الدين في العلاقة، ما بين الإنسان وربه، تاركًا الحياة كلها بعد ذلك لقيصر، -وما تتفتّق عنه عبقرية قيصر-: جعل كلمة “الدين” غير وافية، بكل شؤون الحياة، كما كانت من قبل. ومن ثم فلا بد من كلمة جديدة: تملأ هذا الفراغ، الذي تخلى عنه الدين في الغرب، فكانت كلمة “الحضارة”: هي المرشحة لملء هذا الفراغ، باعتبارها أوسع كلمة، تجمع شتات مفردات الحياة الكثيرة.
ولم يكن الأمر كافيًا، لاستبدال كلمة “الحضارة” بالدين فقط، وإنما لا بد من إعادة النظر في المصطلحات كلها، واستبدالها، بما يتفق مع التطور الجديد، وهكذا نشأت مصطلحات كثيرة، ومفردات عديدة، تحمل طابع الموضوعية، التي رفع شعارها العلم -بعيداً عن المصطلحات الدينية- مثل كلمة: “الثقافة”، وغيرها.
وهكذا أصبحت الحضارة الغربية: تحمل جملة من المفهومات، والقيم الخاصة بها، وقد أفرغت هذه المفهومات، والقيم: في قوالب، ومصطلحات خاصة.
والذي يؤكد هذا الاستنتاج، الذي انتهينا إليه: أن الذين درسوا الحضارات دراسة معمقة، انتهوا إلى أن الحضارة –أية حضارة– لا تنبعث إلا بالفكرة الدينية -وليس من الغُلُو في شيء- أن يجد الباحث التاريخي في البوذية: بذور الحضارة البوذية. وفي البرهمية: نواة الحضارة البرهمية.
والحضارة لا تظهر في أية أمة من الأمم: إلا في صورة وحي، يهبط من السماء، يكون للناس شرعة، ومنهاجًا. أو هي على الأقل: تقوم أسسها -في توجيه الناس نحو معبود غيبي- بالمعنى العام للغيب، فكأنما قدر للإنسان: ألا تشرق عليه شمس الحضارة، إلا حيث يمتد نظره: إلى ما وراء حياته، الأرضية.
ومن المعلوم: أن جزيرة العرب –مثلاً– لم يكن بها قبل نزول القرآن: إلا شعب بدوي، يعيش في صحراء مجدبة، يذهب وقته هباءً لا ينتفع به. لذلك كانت عوامل الحضارة الثلاثة: “الإنسان والتراب والوقت”: راكدة مكدسة، لا تؤدي دورًا، حتى تجلت الروح في غار حراء -كما تجلت من قبل، بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن-. فنشأ عن العناصر الثلاثة: حضارة جديدة، كأنما ولدتها كلمة: “اقرأ”(1).
وهذا الكلام الذي نقلناه عن الأستاذ مالك بن نبي –رحمه الله– يؤكد أن:
“الحضارة” لا تظهر: إلا في صورة وحي، يهبط من السماء، يكون للناس شرعة، ومنهاجًا، يدل على أن “الحضارة”: هي الصورة العملية، التي يؤدي إليها الوحي السماوي، “المتمثل في شرعة ومنهاج” –كما هو الشأن في جميع الرسالات الإلاهية-: “لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا”.
_________________
"1" شروط النهضة 51.
غير أن قوله بعد ذلك: “أو هي –على الأقل– تقوم أسسها، لتوجيه الناس نحو معبود غيبي -بالمعنى العام للغيب– يريد بذلك: التوسع في معنى الدين -حتى لو لم تكن له شرعة ومنهاج– ليفسر الشرارة الدينية، التي لا بد منها لإجراء التفاعل، بين العناصر الثلاثة، كما شرح ذلك في أماكن عدة، من كتبه، ولتشمل أيضًا كل عقيدة دينية، أو ما يمكن أن يحل محلها.
ومع أن مالكاً -فيما نقلناه عنه- من كون الحضارة: إنما هي الصورة العملية للوحي –مطبقًا في سلوك الناس، وواقع الحياة-. إلا أنه قد جرى في كثير من مصطلحاته -على ما عرفه من حضارة الغرب- وحاول في كثير من الأحيان: إفراغ المفهومات الإسلامية، في قوالب حضارية غربية، بحكم نشأته، ودراسته، في الغرب. فأدى الأمر إلى الالتباس، في كثير من الأحيان. وأفقد هذا المسلك: أفكاره: كثيراً من وهجها، وتأثيرها الفعال، في عقلية المسلم المعاصر، الذي يشعر بغربة هذه القوالب، والمصطلحات.
مفهوم الحضارة:
كلمة "الحضارة": لقد شاع استعمال هذه الكلمة في العصر الحديث شيوعا كبيرا، وغدت تتردد في كل وسائل الإعلام من مقروءة، ومسموعة، ومرئية، وأصبحت مناط التفاخر بين الأمم، ومعقد الرجاء عند الشعوب، بعد إن سارت بها أقلام الأدباء، والكتاب. وركز عليها العلماء، والمؤلفون -علما بأن دلالة هذه الكلمة ليست موضع اتفاق- ومن ثم: قد يفهمها البعض بمعنى، ويفهمها الآخرون بمعنى آخر، الأمر الذي يستدعي تحديدا للدلالة، حتى يتم التفاهم، ويزول الالتباس. ومن ثم: نرى ضرورة بيان معناها في اللغة، والاصطلاح، أولا، وقبل كل شيء.
“الحضارة” في العربية:
يرى أحمد بن فارس -في معجم مقاييس اللغة-: أن حضر-الحاء، والضاد، والراء-: إيراد الشيء، ووردوه، ومشاهدته. وقد يجيء ما يبعد عن هذا، وإن كان الأصل واحدا. فالحضر: خلاف البدو. وسكون الحضر: الحضارة.
قال الشاعر:
فمن تكن الحضارة أعجبته *** فأي رجال بادية ترانا
قالها أبو زيد -بالكسر- يريد “الحِضارة”.
وقال الأصمعي: هي “الحَضارة” -بالفتح-(1).
وإذا كانت الحضارة: خلاف البداوة. فإن معرفة البداوة: ربما يسهم في بيان معنى “الحضارة “، ومن ثم يقول ابن فارس في مقاييسه:
“بدو: الباء، والدال، والواو: أصل واحد. وهو ظهور الشيء: يقال: بدا الشيء، يبدو، إذا ظهر. فهو باد. وسمي خلاف الحضر: بدوا، من هذا، لأنهم في براز من الأرض، وليسوا في قرى تسترهم أبنيتها. والبادية: خلاف “الحاضرة “(2).
ومن خلال هذا النص اللغوي: نرى أنّ ابن فارس يرى أن: ”الإيراد” و”الورود” و”المشاهدة”: هي أصل المعنى، وجذره. وهو يريد بــ “الإيراد”: الإحضار، وبــ”الورود”: الحضور. أما المشاهدة: فهي نتيجة للحضور، متأتية عنه.
ولما كانت “الحضارة” تعني: الإقامة في الحضر -أي القرى الساترة: لساكنيها- بخلاف البادية، التي لا ساتر فيها: أصبح المعنى اللغوي لكمة “الحضارة “: متضمنا لمعنى الاستقرار، الذي ينشأ عن سكنى المدن، و القرى، حيث يكون الإنسان حاضرا فيها غالبا، وذلك بخلاف البادية، التي يغيب فيها ساكنها، ويترحل من مكان، إلى مكان طلبا للماء، والكلأ. وهكذا نرى أن الحضور: يفضي إلى المشاهدة، والشهادة. على حين: لا شهود. ولا شهادة: للغائب.
_________________
"1" معجم مقاييس اللغة لابن فارس 270.
"2" معجم مقاييس اللغة لابن فارس 120.
وبهذا أصبحت كلمة “الحضارة” تعني الحضور، والاستقرار في الأرض، والشهود، والإشهاد. وما يترتب على ذلك، من مجتمعات مستقرة، تقوم على قيم، وروابط أخلاقية، تنظم علاقاتها، وتعمل على تشجيع الزراعة، والصناعة، والتجارة. وغير ذلك من مستلزمات الاستقرار.
“الحضارة” في الاصطلاح:
إن معنى “الحضارة” -في اللغة- كما انتهينا إليه -يفضي بطبيعة الحال- إلى المعنى الاصطلاحي -الذي نجد خير من عبر عنه-: ابن خلدون في مقدمته، التي خصصها لدراسة الاجتماع، والعمران. حيث يدور معنى “الحضارة” عنده على: “نمط الحياة، المناقض للبداوة، المنشئ للمدن، والأمصار، المستقر فيها. المتصف بفنون منتظمة، من الملك، والإدارة، ومن مكاسب العيش، ومن الصنائع، والعلوم، ومن وسائل الدعة، والرفاه”(1).
كلمة “التمدن”: وكما استعمل ابن خلدون كلمة “الحضارة” فقد استعمل أيضا كلمة “التمدن” بنفس المعنى، حينما قال: “ولهذا نجد التمدن: غاية للبدوي، يجري إليها، وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها"(2). ويبدو أن الكلمة: مولدة -كما جاء في القاموس المحيط-: “مدن فلان مدونا: أتى المدينة”. و”تمدن: عاش عيشة أهل المدن، وأخذ بأسباب الحضارة”. ثم قال: “والمدنية: الحضارة، واتساع العمران”.
_________________
"1" انظر -على سبيل المثال- تاريخ ابن خلدون: 1/129، 1/693.
"2" انظر -على سبيل المثال- تاريخ ابن خلدون: 1/131.
الحضارة "في المصطلح الغربي":
في اللغات الغربية: كلمتان -جرى التعبير بهما، عن معنى الحضارة- هما: “Culture” و “Civilization”، ولكل منهما تاريخ طويل متشعب، وألوان مختلفة من الدلالة، ويمكن القول بأنه لا توجد لهاتين الكلمتين -في اللغات الغربية- تحديدات مستقرة، ولا نلقى تميزا واضحا، بينهما مقبولا. وقد بدت اتجاهات للتمييز، فجرى بعض الكتاب -وبخاصة في الألمانية- على إطلاق “Culture” على المظاهر المادية، للحضارة، كالتكنولوجيا، والصناعة، وأمثالها. و “Civilization” على المظاهر العقلية والأدبية.
ولكن: هناك من ذهب إلى عكس هذا تماما. وللدلالة -على هذا التناقض- يقول باحث أمريكي: "إن النقدة الأوربيين الذين يقرون بتقدم أمريكا المادي، ولكنهم يعتبرونها متأخرة في الميدان الثقافي-يكادون ينقسمون: قسمين متعادلين- بين الذين يصفون أمريكا بالتقدم فيما يدعونه: ”Civilization” والتخلف فيما يدعونه “Culture” وبين الذين يقولون العكس.
وأما “أوزوالد شبنجلر” في كتابه الشهير “انحطاط الغرب”: فقد أطلق لفظة: “Culture” على –الحضارة بمعنى: الوحدة الأساسية، أو الحدث الأولي، في الاجتماع، والتاريخ -على الحضارات الكبرى كالحضارة اليونانية، والعربية، والأوربية والحديثة- ولكنه استعملها أيضا، كما استعمل قرينتها “Civilization” للدلالة على دورين مختلفين، تمر بهمـــا كل حضارة: دور الفــتوة، والازدهار الروحي “Culture” ودور الركود، والإنتاج المادي: Civilization”” وهذا الدور الأخير: هو الذي يسبق انحلال الحضارة، وزوالها، في تقديره(1).
_________________
"1" في معركة الحضارة: لقسطنطين زريق، باختصار، وتصرف.
الحضارة بين الوصفية، والقيمية:
كثيرا ما يقع الالتباس بين العلماء، و المفكرين -إذا ما تحدثوا عن الحضارة- فبعضهم: يفهم من كلمة “الحضارة”: معنى قيميا، يقصد به التقدم، والرقي، والإنجازات، والإبداعات، في ميادين الحياة المختلفة. وربما خصها بعضهم: بالتقدم المادي، الذي يوفر للناس حياة اليسر، والرفاهية. والبعض الآخر: يفهم منها: معنى وصفيا، يراد به: الوحدة التاريخية، التي تشكل حضارة ذات نمط خاص، بغض النظر عن معنى التقدم والرقي، في المستوى القيمي لهذه الحضارة. وهذا المعنى يشكل كل الحضارات التي تتابعت على مسرح التاريخ: كالحضارة المصرية، واليونانية. وهذا المعنى: هو الذي يريده -بعض علماء الاجتماع- من لفظة: “Culture”: أي جِماع حياة مجتمع، من المجتمعات -بدائيا كان، أو متقدما راقيا-. وبهذا المعنى: يعتبر ”توينبي”: الحضارة: "الوحدة المعقولة، في الدراسة التاريخية”(1). وهكذا، فمثل هذا التمييز: ضروري -في هذا النوع من الدراسات- لفك الاشتباك، ودفع الالتباس.
_________________
"1" انظر: “في معركة الحضارة “ لقسطنطين زريق 37-38.
الحضارة في تعريفات المعاصرين:
- تعريف قسطنطين زريق: يعرف قسطنطين زريق في كتابه “في معركة الحضارة”: الحضارة، فيقول: “الحضارة هي حياة المجتمع المتمثلة، في نظمه ومؤسساته، وفي مكاسبه إنجازاته، وفي القيم، والمعاني التي تنطوي عليها هذه الحياة، ولولا خوفنا من خطر التشابيه، التي قد تجر إلى أخطار في الاستنتاج، والكم، لقلنا: إن المجتمع هو كالجسد، أو كالوعاء. وإن الحضارة: هي كالروح. أو كالمحتوى، والمضمون(1).
- تعريف مالك بن نبي: يعرف مالك بن نبي”الحضارة” -في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”- فيقول: “هي جملة العوامل المعنوية والمادية، التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد من أعضائه: جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتقدمه”(2).
- تعريف ألبرث اشفينتتر: يرى هذا الطبيب الجراح الفيلسوف أن الحضارة -بكل بساطة-: “معناها: بذل المجهود -بوصفنا كائنات إنسانية- من أجل تكميل النوع الإنساني، وتحقيق التقدم من أي نوع كان، في أحوال الإنسانية، وأحوال العالم الواقعي(3). ويذكر في مكان آخر من كتابه: أن التقدم الأخلاقي هو جوهر الحضارة، أما التقدم المادي فهو أقل جوهرية، ويمكن أن يكون له: أثر طيب، أو سيء، في تطور الحضارة.
_________________
"1" ”في معركة الحضارة" لقسطنطين زريق: 38.
"2" مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي لمالك بن نبي: 50.
"3" فلسفة الحضارة 34 وما بعدها.
ملاحظات على التعريفات السابقة:
- يلاحظ على تعريف قسطنطين زريق: أنه جاء وصفيا، لم يشر إلى المعنى القيمي للحضارة، غير أنه في مكان آخر من كتابه: يرى أن سمة الحضارة: تتطلب حدا أدنى من التقدم، وقد شرح ذلك تحت عنوان “شروط الحضارة”.
- أما تعريف مالك بن نبي، فهو ينطبق على الحضارة، بعد قيامها، وفي أوج ارتقائها، فكأنه يعرف الحضارة، بنتائجها، وآثارها. وإن كان -في مواطن أخر، من كتابه- يرى أن الحضارة: نتيجة التفاعل الذي يتم بين الإنسان، والتراب، والوقت. وأن الفكرة الدينية: هي التي تقوم بدور الوسيط، الذي يعطي الشرارة، لإتمام هذا التفاعل(1).
- كذلك يضيف في مكان آخر -إلى تعريفه السابق: ما يعد تطويرا له- حين يقول: “إن جملة العوامل المعنوية والمادية، واللازمة لتحقيق تقدم الفرد: تصبح موضوعية، وذلك بأن تتحول إلى سياسة، وتشريع: يمثلان عالم الأفكار في هذا المجتمع -على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي- تمثيلا مباشرا”. كما يبين في مكان آخر: أن الحضارة: "لا تشترى من الخارج بعملة أجنبية، غير موجودة في خزينتنا. فهناك قيم أخلاقية، اجتماعية، ثقافية. لا تستورد. وعلى المجتمع الذي يحتاجها: أن يلدها”.
- أما تعريف ألبرت اشفيتشر: فواضح تركيزه على المعنى القيمي للحضارة، الذي يسعى إلى تحقيق التقدم -في الجانبين: الإنساني، والواقعي- والذي يؤكد فيه على الجانب الأخلاقي، أكثر من المادي. وهو بذللك يوجه نقدا لاذعا للحضارة الغربية، التى طغت فيها الماديات على القيم.
_________________
"1" شروط النهضة 45.
- على الرغم من أن مصطلح “الحضارة” عربي في لغته، وسابق في مدلوله -كما ورد عند ابن خلدون- إلا أن معظم التعريفات السابقة، متأثرة بمفهومه الغربي، نوعا من التأثر، وربما ترك هذا المفهوم بعض الرواسب، أو الظلال، على القاريء المسلم. ومن ثم نرى الحاجة ماسة، إلى بعض التعريفات، التي تحاول تجريده، من مثل هذه الشوائب.
الحضارة في المفهوم الإسلامي:
يستعمل بعض المفكرين مصطلح الحضارة بالمعنى القيمي فقط، ولا يستعمله بالمعنى الوصفي، وهو يرى أن المعنى القيمي: لا يمكن أن يوجد إلا في الحضارة الاسلامية، التي تتميز عن كل الحضارات، في مفهومها، ومصدرها، ومقوماتها، وخط سيرها. ومن ثم فالحضارة الإسلامية في مفهومها تعني: الحضارة التي تقوم على القيم الإسلامية، وليست هي كل تقدم صناعي، أو اقتصادي، أو علمي، مع تخلف القيم عنها. أما هذه القيم الاسلامية فهي:
العبودية لله وحده، والتجمع على آصرة العقيدة، واستعلاء إنسانية الإنسان على المادة، وسيادة القيم الإنسانية التي تنمي إنسانية الإنسان، لا حيوانيته، وحرمة الأسرة، والخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه، وتحكيم منهج الله وشريعته وحدها، في شؤون هذه الخلافة.
وهذه القيم هي قيم إنسانية لم تبلغها الإنسانية، إلا في فترة الحضارة الاسلامية(1).
ويستند أصحاب هذا الرأي: إلى عدد من الآيات القرآنية، تصف بعض الإنجازات المادية، للأمم السابقة بالجاهلية، لتخلف القيم عنها، كقوله تعالى:
“أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين”. الشعراء 128-130.
“أتتركون فيما ها هنا آمنين، في جنات وعيون، وزروع ونخلٍ طلعها هضيم، وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين، فاتقوا الله وأطيعون”. الشعراء 146-150.
_________________
"1" مفاهيم ينبغي أن تصحّح.
وهكذا حينما تخلفت القيم عن الإنجازات، فقدت مثل هذه الإنجازات: قيمتها الحضارية، الحقيقية، المرتبطة بإنسانية الإنسان، أولاً وقبل كل شيء.
مكونات الحضارة:
عرفنا فيما سبق أن للحضارة مفهومين: وصفي وقيمي. والحديث عن مكونات الحضارة، لا بد أن يأخذ -هذين المفهومين- بالاعتبار:
رأي قسطنطين زريق:
مكونات الحضارة -بمعناها الوصفي، كما يحكيها قسطنطين زريق-: تباينت فيها آراء فلاسفة التاريخ، وعلماء الاجتماع، والمعنيين بشؤون الحضارة، ويعود هذا التباين إلى اختلافهم، في تقدير كل قطاع من القطاعات، التي تشملها الحضارة، وإلى اختيار العامل الداخلي، أو الخارجي، الذي يضفي على الحضارة سماتها البارزة، وطابعها الخاص:
فمنهم من يؤمن بأصالة الدين، ومنهم من يختار القدرة التقنية، ومنهم من يتمسك بالنظام الاقتصادي والتقسيم الطبقي، ومنهم من يقول بسيادة الأفكار والاتجاهات العقلية، ومنهم من يؤكد خصائص الجنس والعرق، ومنهم من يتوجه إلى صفات البيئة الطبيعية. وهكذا.
وهم يذهبون في هذا التوكيد مدى بعيدا، فيتشددون في إفراد عاملهم المختار، وفي إبراز حتميته، في حين أن آخرين: يوسعون المجال لعوامل متعددة، تنأى عندهم عن الحصر، والتحديد. وغيرهم يتوزعون في مواقف مختلفة، بين هؤلاء، وأولئك(1).
هذا ما يقوله قسطنطين زريق في عرضه لمكونات الحضارة بمعناها الوصفي، غير أن وجهة نظره تقوم على تعقد الحضارة، وتشابكها، وتداخل عناصرها وتفاعل عواملها، وهي نتاج مركب لفعل جميع العوامل، التى تكيفها من الداخل، أو تؤثر بها من الخارج. وأن العوامل المختلفة: تتباين شدة، وأثرا بتباين الأزمنة، والأوضاع.
_________________
"1" في معركة الحضارة 240-241.
رأي مالك بن نبي:
أما مالك: فهو يسلك مسلكا تحليليا، في بيان مكونات الحضارة. فهو يرى أن الحضارة: تنحل إلى ثلاثة عوامل: “الإنسان، والتراب، والوقت”. وهذه العوامل الثلاثة: لا تقوم بوظيفتها، إلا إذا توافر لها مركب الحضارة -ويريد به: “الفكرة الدينية”- التي تقوم بدور الوسيط، في التفاعل الكيميائي. ويمثل لذلك بالماء، الذي يتكون من عنصرين: “الهيدروجين، والأوكسجين”. ومع ذلك فلا يكوّنان الماء تلقائيا، فيحتاجان إلى تدخل “مركب” ما ليتم تكوين الماء. وكذلك “مركب الحضارة” فهو العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة -بعضها، ببعض- كما يدل على ذلك التحليل التاريخي، حيث نجد أن هذا المركب: موجود فعلا، وأنه “الفكرة الدينية”، التي رافقت دائما تركيب الحضارة، خلال التاريخ(1). وهكذا نرى أن العوامل المكونة للحضارة عند مالك هي الإنسان الفعال، الذي نتجت فعاليته عن الفكرة الدينية، فتفاعل مع التراب، المتمثل في خيرات البيئة، والمكان، وأحسن الاستثمار الفاعل: للوقت، والزمن.
رأي “ول ديو رانت”:
يحصر المؤرخ الحضاري “ول ديو رانت” مكونات الحضارة في أربعة: اثنان منها: يعودان إلى الطبيعة، وهما: العامل الجيولوجي. والعامل الجغرافي.
واثنان: يعودان إلى الإنسان: وهما: العامل الاقتصادي، والعامل النفسي المتمثل، في الأمن، والأخلاق، ووحدة اللغة(2). وعلى الرغم من أنه أشار إلى العامل الجغرافي، فقد استدرك بأنه هذا العامل: يستحيل أن يخلق المدينة خلقا، إلا أنه يستطيع أن يبتسم، في وجهها، ويهيئ سبيل ازدهارها(3).
_________________
"1" شروط النهضة: 45 بتصرف.
"2" قصة الحضارة: ول ديو رانت 1/7.
"3" قصة الحضارة: ول ديو رانت1/4.
رأي توينبي:
على الرغم من أن توينبي يثبت للفكرة الدينية -على الخصوص- دورا في تأسيس الحضارة، إلا أن نظريته العامة، في قيام الحضارات: تكاد تختزل مقومات الحضارة في “التحدي” الذي تتعرض له المجموعة البشرية، من قبل الطبيعة، أو من قبل الإنسان نفسه، فتحصل إزاءه استجابة، منها تكون بداية لحياة التحضر، كما تكون عامل نمو واستمرار فيها(1). ويؤكد توينبي أن الاستجابة الفاعلة، من الإنسان للتحدي، لا تكون إلا إذا كانت الطبيعة -في حد وسط- بين اليسر الكامل، وبين القسوة الكاملة(2).
عامل “الفكرة الدينية”:
يعتبر الإنسان هو العامل الأهم في تكوين الحضارة، وتشييد بنائها. وتعتبر “الفكرة الدينية” هي العامل الأقوى في صياغة الإنسان، وتأهيله للقيام بمهمته الحضارية، ولا يقتصر دور الفكرة على التأسيس، وإطلاق الشرارة التي يتم عن طريقها التفاعل بين عناصر الحضارة، وإنما يستمر معها في التكوين والتطور، ويعطيها سمتها الخاص، وطابعها المميز. وقد أكد هذه الحقيقة الأستاذ مالك بن نبي حينما قال:
إن حضارة ما: هي نتاج فكرة جوهرية، تطبع على مجتمع -في مرحلة ما قبل التحضر- الدفعة التي تدخل به التاريخ، ويبني هذا المجتمع نظامه الفكري، طبقا للنموذج الأصلي لحضارته، إنه يتجذر في محيط ثقافي أصلي، يحدد سائر خصائصه، التي تميزه عن الثقافات، والحضارات الأخرى(3).
_________________
"1" التفسير الإسلامي للتاريخ، عماد الدين خليل: 70.
"2" التفسير الإسلامي للتاريخ، عماد الدين خليل: 76.
"3" مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي:41.
مقومات الحضارة الإسلامية:
يرى بعض المفكرين المعاصرين: أن الإسلام هو الحضارة، وهو يريد بذلك أن الحضارة الحقة الجديرة بهذه التسمية: هي التي تقوم على القيم الإسلامية، وأن الحضارات الأخرى: غير جديرة بهذه التسمية، وذلك للبون الشاسع، بين قيم الإسلام الموحى بها، من خالق الوجود، وبين القيم التي تحكم تلك الحضارات، والتي لا تعدو في أحسن التقديرات: أن تكون قيماً بشرية قاصرة، أو قيماً دينية سماوية محرفة. وفي كل الأحوال: إنما ينطبق هذا الكلام على “الحضارة” بمعناها القيمي، وليس بمعناها التاريخي، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
القيم التي تحكم الحضارة الإسلامية:
يمكن أن نجمل القيم التي تحكم الحضارة الإسلامية، بالنقاط التالية:
1- تحرير الإنسان من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ذلك أن المسافة هائلة بين حياة بشرية، تقوم على أساس العبودية لله وحده، وحياة أخرى تقوم على أساس العبودية للعباد.
2- المسافة هائلة في التصور الاعتقادي: الذي يفسر حقيقة العلاقات، بين الإنسان وخالق هذا الكون. وبين الإنسان، وكل ما في هذا الكون.
3- المسافة هائلة في المشاعر، والأخلاق، التي تنبثق من تصور-الألوهية: فيه الله وحده- وتصورات شتى، تؤلّه شتى القيم، وشتى الأشخاص، وشتى الأصنام المختلفة.
4- المسافة هائلة -في أوضاع الحياة الإنسانية- التي تنبثق من تصور: الألوهية فيه الله وحده، وتصورات شتى، تقيم آلهة من البشر، لهم الحاكمية، بإرادتهم، وأهوائهم. في شتى الصور(1).
_________________
"1" في ظلال القرآن، لسيد قطب.
5- إن الإنسان -الذي تقاس حضارته ورقيه، بمقياس “الإنسان”-: لا يوجد في هذه الأرض، إلا في وضع خاص ذلك يوم أن يخرج الناس -من عبادة العباد جملة- إلى عبادة الله وحده، وحين يتحقق هذا الوضع، وحينئذ فقط: يمكن أن تحتسب فتوحات العلم وتيسيرات الصناعة، وجمال الفن، والإبداع -في عالم المادة- كسبا لـ”الإنسان”. يومئذ: يكون في مقامه الكريم، مقام المستخلف عن الله في الأرض(1).
6- ومقام الاستخلاف عن الله: لا يتحقق في الأرض، على وجهه الصحيح إلا: بأن يخلص الإنسان عبودية الله، ويتخلص من العبودية لغيره. وأن يحقق منهج الله، وشرعه في حياته كلها، وأن يعيش بالقيم، والأخلاق. وأن يتعرف بعد ذلك كله -إلى النواميس الكونية- ويستخدمها في ترقية الحياة، وفي استنباط خامات الأرض، وأرزاقها وأقواتها. وحين ينهض الإنسان بهذه الخلافة -على عهد الله وشرطه- يكون ربانيا، ويكون كامل الحضارة. فأما الإبداع المادي وحده: فلا يسمى في الإسلام: حضارة؛ ذلك أن الحضارة: لا تكون إلا بتوافر تلك القيم. وليست هي كل تقدم صناعي، أو اقتصادي، أو علمي -مع تخلف القيم عنها-.
_________________
"1" مقومات التصور الإسلامي: 184-185.
7- إن العمل في ميدان الإنجازات الحضارية: ليس أمرا تطوعيا في الإسلام. بل هو فرض من فروض الكفاية، تأثم الأمة إذا لم يقم به بعض أبنائها. وقد أشار القرآن إلى ذلك بمثل قوله تعالى:
“وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك! قال إني أعلم ما لا تعلمون”. البقرة 30.
“وإلى ثمود أخاهم صالحا، قال يا قومِ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربي قريب مجيب”. هود 61.
“هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور”. الملك 15.
وهذه كلها تكاليف موجهة إلى الإنسان عموما. وكلها من مهام الخلافة، وأبرزها: عمارة الأرض. وأولى الناس بالقيام بهذه التكاليف، إنما هو الخليفة الراشد، لأنه المؤمن بالله، الملتزم بما جاء من عند الله، ذلك أن عمارته للأرض، لا تكون كعمارة غيره، لأنه يعمرها بمنهج الله. ومن ثم رأينا ذكر النشور ”في معرض المشي، في مناكب الأرض، والأكل من رزق الله، وما يتصل به، من حساب وجزاء، وذلك من أجل التذكير، بالمنهج الرباني، والالتزام به”(1).
وهذه القيم: هي قيم إنسانية، لم تبلغها الإنسانية، إلا في فترة الحضارة الإسلامية(2).
_________________
"1" مفاهيم ينبغي أن تصحح.
"2" باختصار عن “معالم في الطريق”:131-132.
ويستند أصحاب هذا الرأي: إلى عدد من الآيات القرآنية، تصف بعض الإنجازات المادية، للأمم السابقة بالجاهلية، لتخلف القيم عنها، كقوله تعالى: “أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين”. الشعراء 128-130.
“أتتركون فيما ها هنا آمنين، في جنات وعيون، وزروع ونخلٍ طلعها هضيم، وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين، فاتقوا الله وأطيعون”. الشعراء 146-150.
وهكذا حينما تخلفت القيم عن الإنجازات، فقدت مثل هذه الإنجازات: قيمتها الحضارية، الحقيقية، المرتبطة بإنسانية الإنسان، أولاً وقبل كل شيء.
أصول الحضارة الإسلامية:
من المعلوم أن أصول الحضارة الإسلامية ترجع إلى الوحي الإلهي، المتمثل في القرآن الكريم، وإلى السنة النبوية المبينة له، والمفصلة لما أجمل منه. كما يمكن أن ترجع مصادر الشريعة الاجتهادية -من قياس، وإجماع، واستحسان، واستصلاح، وعرف، وسد للذرائع- باعتبار مشروعيتها: إلى الوحي الإلهي، وإلى مقاصده العامة، الممثلة لروح التشريع.
ومن ثم فسوف نتحدث عن أصول الحضارة الإسلامية في القرآن الكريم، وربما نستشهد بالحديث النبوي، عند الحاجة إلى ذلك. أما الاجتهاد في ميدان الحضارة، فإنما يكون: بالاقتباس، من الحضارات الأخرى. وهو ما سنتحدث عنه ضمن خصائص الحضارة الإسلامية.
القرآن الكريم:
هو آخر الكتب الإلهية نزولا، وقد ضمنه الله تعالى كل أنواع الهداية، التي يحتاجها الإنسان في حياته على هذه الأرض، كما ضمنه الثوابت التي نزلت بها الكتب السابقة، والتي لا تتغير بتغير الزمان. كما أشار القرآن إلى ذلك: بقوله تعالى ـ في سورة الشورى: “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه، الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب”. الشورى 13.
وكما قال في سورة المائدة “: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحقِ مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم في ما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعا، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون”. المائدة 48.
وقال أيضا: “أم لم ينبأ بما في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفّى، ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأنّ سعيه سوف يُرى، ثم يُجزاه الجزاءَ الأوفى”. النجم 36-41.
وقال في سورة الأعلى: “بل تؤثرون الحياة الدنيا”. الأعلى 16.
أما الشرائع الإلهية فأصولها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان، ولكن فروعها هي التي تتغير مراعاة لمصالح العباد، بحسب الزمان والمكان. ومن ثم جاء قوله تعالى: “.......”
أي: على شريعة واحدة.
حاجة الإنسان إلى هداية القرآن:
خلق الله الإنسان متميزا عن غيره من المخلوقات، وذلك بما أودعه من الطاقات، والقدرات، وبما منحه من الملكات، والخصائص. فكان بحق مخلوقا متفردا، عن الملائكة. مختلفا عن الحيوانات والجمادات. فقد وهبه الله عقلا مفكرا، وإرادة حرة، واختيارا بين سبيل الخير، وسبيل الشر. كما أعطاه وسائل تحصيل العلم، والمعرفة -من سمع، وبصر، وغيرها من الحواس- والتي تعتبر النوافذ التي يطل منها العقل على الوجود، وعن طريقها: يدرك، ويحكم. وقد أشار القرآن إلى هذه الحقائق بقوله تعالى: “والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، لعلكم تشكرون”. النحل 78.
وقال أيضا: “ولا تقفُ ما ليس لك به علم، إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا”. الإسراء 36.
ويلاحظ أن مجال الحواس: محصور في عالم الشهادة. ذلك أن هذه الحواس: ليس باستطاعتها الوصول إلى عالم الغيب -الذي ينفرد الخالق بعلمه- ومن ثم فحدود العقل البشري: لا تمكنه من أن يحكم في عالم الغيب.
وحتى في حدود عالم الشهادة: لا يستطيع العقل، والحواس: أن يصلا دائما، إلى الرؤية الصحيحة، والأحكام الصائبة، دون استعانة بهداية خارجية. ذلك أن حاسة البصر-مثلا-: لا يمكنها الرؤية في الظلام الدامس، والليل البهيم، إلا إذا استعانت بمصباح، ينير لها الظلمة، ويكشف لها الطريق.
ومن ثم فقد جعل الله كتبه الإلهية: هي النور -الذي يضيء للعقل-: سبيل الهداية، ويرفع عن الأعين غاشية الأبصار، فتبدو الحقيقة: جلية واضحة، كالشمس في رابعة النهار.
وهكذا وصف الله القرآن بأنه: “هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان". البقرة 185.
كما وصفه بأنه نور في قوله تعالى: "فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا، والله بما تعملون خبير". التغابن 8.
وقوله: "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم، وأنزلنا إليكم نورا مبينا". النساء 174.
وقوله: "ألر، كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد" إبراهيم 1.
فإذا حاجة البشرية إلى هداية القرآن: حاجة حقيقية ملحة. وقد تفضل الله على خلقه، بهذه النعمة العظيمة، وبين أثرها عليهم بقوله تعالى: "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين". يونس 57.
هداية للتي هي أقوم: إن هداية القرآن تمتاز -عن كل أنواع الهدايات الأخرى- بأنها: الأقوم، والأفضل. كما وصفها الله تعالى بقوله: "إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجرًا كبيرًا". الإسراء 9.
وكما قال: "الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، قيّمًا لينذر به بأسًا شديدًا من لدنه ويُبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجرًا حسنا". الكهف 1-2.
والتي هي أقوم: صفة لموصوف محذوف، وإنما حذف ليفيد العموم، وليشمل كل شيء، يحتاج إلى هداية. فيمكن أن نقول مثلا: إن القرآن يهدي للأهداف التي هي أقوم، وللوسائل التي هي أقوم، وللعقائد التي هي أقوم، وللحضارة التي هي أقوم، وهكذا.
وهذا الكلام العام إذا ما وضع موضع التحقيق والتدقيق، في كل جزئية من الجزئيات، التي عرض لها القرآن: تبين صدق ذلك. واطمأن به القلب، وانشرح له الصدر، وأذعن له العقل.
ذلك أن هداية القرآن هداية إلهية، هداية الخالق لمن خلق، هداية العالم بأسرار الخلق، هداية العالم بما جبل عليه النفوس، هداية العالم بحاجات عباده، هداية العالم بما يحقق لهم السعادة، في الدنيا، والآخرة.
ومن ثم فقد كان الإعراض عن هذه الهداية -واستبدال الذي هو أدنى، بالذي هو خير- مدعاة لبؤس الإنسان وشقائه، في الدنيا والآخرة. وقد قال الله تعالى في ذلك: "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى". طه 124-126.
إن حياة العباد لا يمكن أن تستقيم: إلا بمنهج خالق العباد -والذين يحاولون البحث، عن منهج آخر، غير منهج الله- لا بد أن يصلوا إلى حياة التعب، والضنك، في دنياهم. ولا بد أن يحشروا عميا يوم القيامة، جزاء على إعراضهم عن بصائر ربهم، في الحياة الدنيا. ليكون الجزاء من جنس العمل، وبذلك ينسون، كما نسوا آيات ربهم.
إن الاستقامة على منهج الله: هي التي ترفع الإنسان وتباركه وتزكيه، وتقربه من خالقه. ومن ثم جاء التأكيد عليها، في قوله تعالى: "وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه ولا تتّبعوا السُبل فتفرّق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتّقون". الأنعام 153.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، حينما خط بيده خطا مستقيما، وقال: هذه سبيل الله. ثم خط عن يمينه خطوطا، وعن يساره خطوطا، ثم قال: “هذه سبل على رأس كل منها شيطان يدعو الناس إليه“. وهكذا: فالذي يدعو إليه القرآن: “يهدي للتي هي أقوم“. والذين يدعون لغير ما جاء به القرآن: إنما “يبغونها عوجا“. وشتان، شتان: بين الاستقامة، والاعوجاج.
الأمة والقرآن:
لقد بدأت هذه الأمة مسيرتها الحضارية، نحو مشرق الشمس، يوم أن هبط جبريل الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يتحنث في غار حراء، وكانت كلمة: "اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم". العلق 1-5.
هي الإكسير الذي بدأ يفعل فعله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في حياة من استجاب لدعوته من أمته، وانتقلت هذه الأمة بتأثير القرآن وقوته الفاعلة، من الجاهلية إلى الإسلام. فكانت أول أمة تولد من خلال نصوص كتاب، وتنبثق من بين حروفه وكلماته، وتقوم على إيحاءاته وتوجيهاته. ثم تخرج به إلى الناس وحيا إلهيا: يحرك القلوب، ويهز النفوس، ويعيد صياغة الحياة، وصناعة التاريخ. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هذه الطاقة الهائلة أن تتبدد، أو يقل تأثيرها في نفوس أصحابه، فقصرهم على الاستمداد منها، والاستقاء من معينها، ونهاهم عن التوجه إلى غيرها، والتطلع إلى سواها.
ومن ثم فقد اشتد غضبه -حينما رأى صحيفة من التوراة في يد عمر- رضي الله عنه. وقال: “لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني“. بل أنه نهى أصحابه -صلى الله عليه وسلم- أن يكتبوا شيئا غير القرآن، وقال: “من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه“. كل ذلك إدراكا منه -صلى الله عليه وسلم-: لقوة كلمة الوحي، التي يمحو الله بها ما يشاء ويثبت. وحفظا لها من أن يشاركها: ما يقلل من تأثيرها، أو يضعفها، في مرحلة الانطلاق الأولى.
ولقد كان العرب في عصر نزول القرآن -في مستوى- يمكنهم من التفاعل مع النص القرآني، والاستجابة لإيحاءاته، والتأثر ببلاغته، وسحر بيانه. ولم يكن هناك ما يحول بينهم وبين ذلك، فقد كانوا يفهمون معانيه، ويتذوقون حلاوته، ويعرفون أساليبه، فعكفوا على قراءته، ودراسته. وأمعنوا في تدبر آياته، واستكشاف أسراره، فغاصوا في أعماقه -باحثين عن درره- مستنبطين لأحكامه، مستلهمين لتوجيهاته، فوجدوا فيه حلا لمشكلاتهم، وشفاء لما في صدورهم، ونورا لأبصارهم، وبصائرهم، وهداية: في كل شأن من شؤون حياتهم.
هيمنة القرآن:
لقد وصف الله القرآن بأنه المهيمن على الكتب الإلهية السابقة، وذلك في قوله تعالى: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مُصدّقًا لما بين يديهِ من الكتابِ ومهيمنًا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق، لكلٍ جعلنا منكم شِرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمّةً واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعًا فينبؤكم بما كنتم فيهِ تختلفون". المائدة 48.
بمعنى أن ما جاء في القرآن أولى بالاتباع، لأنه الصورة الأخيرة، للوحي الإلهي، والناسخ لما خالفه، من الشرائع السابقة، التي جاءت لفترات زمنية محدودة، ولأقوام معينين. أما الصورة الأخيرة: فهي الصورة المتوافقة، مع الفطرة البشرية، والمتناسبة مع عموم الرسالة، وامتداد الزمان، والمكان.
خصائص المنهج القرآني في العرض:
يرى سيد قطب أن للمنهج القرآني -في عرض مقومات التصور الإسلامي-: خصائص، تميزه عن أي منهج آخر، وقد ذكر منها الخصائص التالية:
أولا: إنه يعرض “الحقيقة“ كما هي في عالم الواقع، في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها، وكل جوانبها، وكل ارتباطاتها، وكل مقتضياتها. وهو مع هذا الشمول لا يعقد هذه الحقيقة ولا يلفها بالضباب، بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها.
ثانيا: إنه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات العلمية، والتأملات الفلسفية، والومضات الفنية، جميعا. فهو لا يفرد كل جانب من جوانب “الكل“ الجميل، المتناسق، بحديث مستقل -كما تصنع أساليب الأداء البشرية-.
وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول، يرتبط فيه عالم الشهادة، بعالم الغيب، وتتصل فيه حقائق الكون، والحياة، والإنسان، بحقيقة الألوهية. وتتصل فيه الدنيا، بالآخرة، وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى، في أسلوب تتعذر مجاراته، أو تقليده.
ثالثا: إنه مع -تماسك جوانب الحقيقة، وتناسقها- يحافظ تماما على إعطاء كل جانب من جوانبها في الكل المتناسق مساحته، التي تساوي وزنه، في ميزان الله -وهو الميزان-.
ومن ثم تبدو “حقيقة الألوهية “ وخصائصها، وقضية “الألوهية، والعبودية“ بارزة مسيطرة، محيطة شاملة، حتى ليبدوا أن التعريف بتلك الحقيقة، وتجلية هذه القضية، هو موضوع القرآن الأساسي. وتشغل حقيقة عالم الغيب -بما فيه القدر، والدار الآخرة- مساحة بارزة. ثم تنال حقيقة الإنسان، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة: أنصبة متناسقة، تناسق هذه الحقائق، في عالم الواقع. وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق، ولا تهمل، لا تضيع معالمها، في المشهد الكلي، الذي تعرض فيه هذه الحقائق.
رابعا: إنه يتميز بتلك الحيوية الدافقة، المؤثرة الموحية. مع الدقة، والتقرير، والتحديد الحاسم. وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعا، وروعة وجمالا، لا يتسامى إليها المنهج البشري، في العرض، ولا الأسلوب البشري، في التعبير. ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة، وتحديد حاسم. ومع ذلك لا تجور: الدقة على الحيوية، والجمال، ولا يجور التحديد: على الإيقاع، والروعة. ولا يمكن أن نصف نحن، في الأسلوب البشري، ملامح المنهج القرآني، فنبلغ من ذلك: ما يبلغه تذوق هذا المنهج كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله، عن “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته“ شيئا مما يبلغه القرآن في هذا الشأن.
الإنسان مستخلف مسؤول:
لقد خلق الله آدم بيده، فسواه وعدله وصوره، وجعل خلقه في أحسن تقويم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ومنحه العقل والحواس، وجعله قادرا على تحصيل العلم والمعرفة، وميزه على سائر مخلوقاته بما أعطاه من حرية الإرادة والقدرة على الاختيار، وبما رتب على ذلك من المسؤولية والحساب، ما أسكنه في الأرض وجعله خليفة فيها، وكرم أبناءه بحملهم في البر والبحر، وفضلهم على كثير من خلقه تفضيلا، فسخر له ما في السموات والأرض، وهيأ لهم أسباب الحياة بما خلق لهم من المعايش وبما رزقهم من الطيبات، فأغدق عليهم من عطاياه، وحفهم بنعم لا تعد ولا تحصى، وأحاطهم بعنايته ورعايته، وطلب إليهم أن يعبدوه وحده، وألا يشركوا به شيئا وأن يتبعوا هداه، وألا يركنوا لسواه، ووعدهم على ذلك سعادة في الحياة الدنيا، وفوزا في الحياة الآخرة.
وبناء على ذلك، فلم يخلق الإنسان عبثا، ولن يترك سدى. فلقد ألهمه الله الفجور، والتقوى، وأقدره على تزكية نفسه، كذلك فطره على توحيده، وجعل آياته في الآفاق، والأنفس: شاهدة على ذلك. كما تعهدته العناية الإلهية، بالرسالات والتعاليم، يحملها الأنبياء، والرسل: آيات تتلى، وصحفا مكتوبة، يعرف الإنسان من خلالها: كيف جاء إلى هذه الدنيا، وما هو مركزه فيها؟ وما هي الوظيفة التي يؤديها؟ وما هي النهاية التي سينتهي إليها؟ كما يعرف ربه، وخالقه، من خلال صفاته، وأفعاله -التي تميزه عن غيره- فلا يشرك في عبادته أحدا. كذلك يعرف من خلالها: التوجيهات الإلهية، والتشريعات، التي ينبغي إتباعها، لئلا يضل في حياته، أو يشقى.
وهكذا نرى من خلال القرآن الكريم -الرسالة الخاتمة-:
أن الإنسان مستخلف في الأرض، من قبل الله تعالى، ومطلوب منه: أن يعمر الأرض بمنهج الله، وأن يحقق عبوديته لله، من خلال تطبيق هذا المنهج، وأن يستعمل في ذلك: كل ما أعطاه الله من طاقات، وما أمده به، من قوة، وما آتاه من القدرة، على الاختراع، والاكتشاف.
ولقد قامت الأمة الإسلامية -منذ نشأتها- على هذا -التصور الصحيح- للوجود، ولوظيفة الإنسان فيه، فأنشأت حضارة إنسانية، فريدة من نوعها. تميزت بجمعها بين مطالب الروح، ومطالب المادة. كما وازنت بين حقوق الفرد، وحقوق الجماعة. وبين العمل في الدنيا، والعمل للآخرة. فلم تهمل جانبا من جوانب الحياة، لحساب جانب آخر. كما لم يطغ فيها جانب، على غيره من الجوانب -وكما حدث في الحضارات الأخرى-.
ثم حدث أن دخل الانحراف على تصورات الناس -مع الأيام- وابتعدوا عن التصور الصحيح، الذي جاء به الإسلام، في القرآن، والسنة.
وبدأ الواقع السلوكي يتأثر بذلك الانحراف، وزادت رقعة الانحراف مع الزمن، وكان ذلك نتيجة عوامل داخلية، وخارجية -لا مجال هنا لتفصيلها-، وغدت الصورة مشوشة، والواقع كئيبا. وطويت صفحة من صفحات المجد، والقوة، لهذه الأمة، وفتحت صفحة من صفحات الضعف، والانحطاط.
القيم الإيمانية “والقوانين الكونية“:
القيم الإيمانية هي بعض سنن الله في الكون، كالقوانين الطبيعية، سواء بسواء. ونتائجها مرتبطة، ومتداخلة، ولا مجال للفصل بينهما، في حس المؤمن، وفي تصوره. وهذا هو التصور الصحيح، الذي ينشئه القرآن في النفس، ينشئه وهو يتحدث عن أهل الكتاب، وأثر انحرافهم في نهاية المطاف: "ولو أنّ أهل الكتابِ آمنوا واتّقوا لكفّرنا عنهم سيّئاتهم ولأدخلناهم جنّات النعيم، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم ومن تحتِ أرجلهم، منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون". المائدة 65-66.
وينشئه وهو يتحدث عن وعد نوح لقومه: "فقلتُ استغفروا ربكم إنّه كان غفّارا، يرسلِ السّماء عليكم مدرارا، ويُمددكم بأموالٍ وبنينَ ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهارا". نوح 10-12.
وينشئه وهو يربط بين الواقع النفسي للناس، والواقع الخارجي الذي يفعله الله بهم: "له معقّبات من بين يديهِ ومن خلفه يحفظونه من أمرِ الله، إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، وإذا أرادَ الله بقومٍ سوءًا فلا مردّ له، وما لهم من دونهِ من وال". الرعد 11.
إن الإيمان بالله وعبادته على استقامة، وإقرار شريعته في الأرض. كلها إنفاذ لسنن الله، وهي سنن ذات فاعلية إيجابية. نابعة، من ذات النبع، الذي تنبثق عنه سائر السنن الكونية، التي نرى آثارها الواقعية، بالحس والاختبار.
وقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الكونية، حين نرى أن إتباع القوانين الطبيعية: يؤدي إلى النجاح، مع مخالفة القيم الإيمانية. هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق، ولكنها تظهر حتما في نهايته. وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه، لقد بدأ خط صعوده: من نقطة التقاء القوانين الطبيعية، في حياته، مع القيم الإيمانية. وبدأ خط هبوطه: من نقطة افتراقهما، وظل يهبط، ويهبط: كلما انفرجت زاوية الافتراق، حتى وصل إلى الحضيض، عندما أهمل السنن الطبيعية، والقيم الإيمانية جميعا.
إن شريعة الله للناس هي طرف من قانونه الكلي في الكون، فإنفاذ هذه الشريعة: لا بد أن يكون له أثر إيجابي، في التنسيق بين سيرة الناس، وسيرة الكون. والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان، لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير. فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم، كما أنها موضوعة لتسهم في بناء المجتمع المسلم. وهي متكاملة، مع التصور الإسلامي كله، للوجود الكبير، وللوجود الإنساني، ومع ما ينشئه هذا التصور، من تقوى في الضمير، ونظافة في الشعور، وضخامة في الاهتمامات، ورفعة في الخلق، واستقامة في السلوك.
وهكذا يبدو التكامل، والتناسق، بين سنن الله كلها -سواء ما نسميه: القوانين الطبيعية، وما نسميه: القيم الإيمانية- فكلها أطراف من سنة الله الشاملة لهذا الوجود.
والإنسان -كذلك قوة من قوى الوجود- وعمله، وإرادته، وإيمانه، وصلاحه، وعبادته، ونشاطه هي كذلك: قوى ذات آثار إيجابية، في هذا الوجود، وهي مرتبطة بسنة الله الشاملة للوجود، وكلها تعمل متناسقة، وتعطي ثمارها كاملة، حينما تتجمع وتتناسق. بينما تفسد آثارها، وتضطرب، وتفسد الحياة معها، وتنتشر الشقوة بين الناس والتعاسة: حين تفترق، وتتصادم: "ذلكَ أنّ الله لم يكُ مغيّرًا نعمةً أنعمها على قومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسِهم، وأنّ الله سميع عليم". الأنفال 53.
فالارتباط: قائم وثيق، بين عمل الإنسان، وشعوره. وبين مجريات الأحداث، في نطاق السنة الإلهية، الشاملة للجميع، ولا يوحي بتمزيق هذا الارتباط، ولا يدعو إلى الإخلال بهذا التناسق، ولا يحول بين الناس، وسنة الله الجارية: إلا عدو للبشرية، يطاردها دون الهدى.
القدر وسنة التغيير:
من المعلوم أن مجتمعنا العربي، والإسلامي: ما زال يعاني من حالة التخلف، التي نزلت به، وأنه يسعى جاهدا للتخلص منها، والانعتاق من أسرها. ومع ذلك فكثيرا ما نجده يتعثر في انطلاقه، وخطوه، مما يجعل سيره بطيئا، وتقدمه قليلا، فإذا أضفنا إلى ذلك أننا في عصر-سمته السرعة في كل شيء- بدا لنا أن مثل هذا التقدم، يكاد يفقد أهميته، واعتباره. إن حالة الفوضى الفكرية، والثقافية، التي تلقي بظلالها على المجتمع العربي، والإسلامي تكاد تكون أحد الأسباب الرئيسة، في هذه الحالة المرضية، ولقد نشأت هذه الحالة، نتيجة تفاعل بين موروثات تاريخية، ومقتبسات غربية -الأولى: تعود إلى الماضي. والأخرى: تعود إلى الحاضر- وكما أن الموروثات لم تكن لأحسن ما يورث، فكذلك المقتبسات لم تكن لأحسن ما يقتبس، ذلك أن المريض: لم يكن قادرا على التمييز، وأن الأطباء الذين تولوا معالجته، لم يحسنوا تشخيص حالته، بعضهم عن قصد وبسوء نية، وبعضهم عن غفلة، وعدم تقدير للمسؤولية. وسنقتصر في هذه العجالة على الحديث في بعض الموروثات الخاطئة.
لقد ورث مجتمعنا العربي الإسلامي المعاصر -عن الماضي- مفهومات خاطئة عن الإسلام، وما زالت هذه المفهومات الخاطئة، تعمل عملها في قتل فاعلية المسلم المعاصر، وتصده عن الإسهام الإيجابي في حركة الحياة، والبناء.
ولو أخذنا على سبيل المثال ما يتردد كثيرا على ألسنة الناس من أن ما هم فيه من تخلف، وانحطاط، إنما هو بإرادة الله، وبقضائه وقدره، وأن الأمر متروك إليه، فإذا أراد هو أن يغير حالهم إلى الأحسن غيرها، وأنهم تجاه ذلك، ليسوا مطالبين بشيء، إلا الدعاء إلى الله أن يغير حالهم إلى الأحسن، ثم تنتهي مهمتهم عند ذلك!
إن هذا المفهوم لـ ”إرادة الله” ولـ ”القضاء والقدر” مفهوم خاطئ لا يمت إلى الإسلام بصلة، وهو دخيل على العقيدة الإسلامية، إذ من المعلوم أن النبي −صلى الله عليه وسلم− حينما بعث كانت البشرية تموج بالانحراف عن سواء السبيل: “إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب”. ولم يقبل النبي −صلى الله عليه وسلم− وأصحابه بهذا الانحراف السائد، ولم يستسلموا له، بحجة أنه كان بإرادة الله، وبقضائه وقدره، إنما وقفوا في وجهه يعملون فيه معاولهم، حتى أتوا عليه، وحتى رفعوا راية التوحيد -في معاقل الأكاسرة والقياصرة- بل إن خالد بن الوليد قال للروم الذين حاصرهم: "والله لو كنتم في السماء لأطلعنا الله إليكم، أو لأنزلكم إلينا”.
وها هو ربعي بن عامر -الصحابي الجليل- يعبر عن مهمة المسلم الإيجابية، في التغيير، ويعتبرها تكليفًا إلهيا، حين يجيب رستم عن سؤاله: "ما الذي جاء بكم إلينا؟ فيقول ربعي: إن الله ابتعثنا، لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام".
فمشيئة الله إذن تتم هنا بحركة المؤمنين، وجهادهم، لا بقعودهم، وانتظارهم. هكذا كان المسلمون الأوائل يفهمون معنى الإرادة الإلهية، ومشيئتها. لا كما يفهمها المسلمون المعاصرون المتكاسلون، المتواكلون.
إن مثل هذه المفهومات الخاطئة تسربت إلى المجتمع الإسلامي -من مصادر غير إسلامية- وحاول أصحابها أن يجدوا لها مرتكزات، في بعض الآيات القرآنية، ليعطوها صفة الشرعية، ولتكون مقبولة عند المسلمين، وقد استطاع هؤلاء أن يحققوا نجاحا في مسعاهم، وما تزال آثار ذلك قائمة، في عقول كثير من المسلمين، وسلوكهم. وقد أمرنا الله بالاستجابة لنبيه بقوله: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للهِ وللرّسولِ إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أنّ الله يحولُ بين المرءِ وقلبه، وأنهُ إليهِ تحشرون". الأنفال 24.
ونهانا عن مخالفة أمره بقوله: "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعائ بعضكم بعضًا، قد يعلم الله الذين يتسللون بينكم لواذًا، فليحذرِ الذينَ يُخالفونَ عن أمرهِ أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم". النور 63.
وبين مهمة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم". وقال أيضا: "هو الذي أرسلَ رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّينِ كله ولو كره المُشركون". الصف 9.
وقال أيضا: "يريدون ليطفئوا نورَ اللهِ بأفواهِهم، والله متمُّ نوره ولو كرهَ الكافرون". الصف 8.
وهكذا نجد في مثل هذه الآيات: أن الرسل وأتباعهم، مطالبون بتغيير الواقع الكوني، إلى واقع كوني آخر، مطابق لما جاء به الأمر الشرعي، والإرادة الشرعية، وأن عليهم أن يضحوا في سبيل ذلك ويجاهدوا: "وجاهدوا بالله حقّ جهادهِ، هو اجتباكم وما جعلَ عليكم في الدّينِ من حرجٍ، ملّة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبلُ، وفي هذا ليكونَ الرّسولُ شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على النّاس، فأقيموا الصّلاةَ وآتوا الزّكاةَ واعتصموا باللهِ هو مولاكم، فنعم المولى ونعم النّصير". الحج 78.
"ولتكن منكم أمّةٌ يدعونَ إلى الخيرِ ويأمرون بالمعروفِ وينهونَ عنِ المنكر، وأولئك هم المفلحون". آل عمران 104.
"كنتم خيرَ أمّةٍ أخرجت للنّاسِ تأمرونَ بالمعروفِ وتنهونَ عنِ المنكرِ وتؤمنون بالله، ولو آمن أهلُ الكتاب لكان خيرًا لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون". آل عمران 110.
فتغيير الواقع المنحرف واجب شرعي فرضه الله، وهو وإن كان يتم بفعل الله الكوني، إلا أنه مترتب على عمل المؤمنين، وجهادهم -طبقا لسنة التغيير الإلهية-: "له معقّبات من بين يديهِ ومن خلفه يحفظونه من أمرِ الله، إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، وإذا أرادَ الله بقومٍ سوءًا فلا مردّ له، وما لهم من دونهِ من وال". الرعد 11.
ومن هنا كانت الإجابة الإلهية عن تساؤل المؤمنين، عما أصابهم يوم أحد: "أو لمّا أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها قلتم أنّا هذا، قل هو من عندِ أنفسكم، إنّ الله على كلِّ شيءٍ قدير". آل عمران 165.
ومثل هذا سنة إلهية ثابتة: "وما أصابتكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم، ويعفوا عن كثير". الشورى 30.
فإذا كان كل ما يقع في هذا الكون: إنما يقع بقضاء الله، وقدره، فإنه في نفس الوقت، يقع طبقا لقانون العدل الإلهي، الذي جعل الإنسان مستخلفاً، في الأرض، بما أعطاه الله من أهلية التكليف، وبما سخر له مما في السماوات والأرض.
ومن خلال ما تقدم: تبدو لنا أهمية المسلم، في ميزان الله، وفي التاريخ الإنساني. فالمسلم هو المطالب بأن يرتفع في نفسه، وسلوكه إلى مستوى “الشاهد”، وهو المطالب بأن يحمل رسالة الإسلام إلى العالم، وأن يغير مقتضيات الواقع الكوني، المخالف لشرع الله، إلى مقتضيات متوافقة، مع هذا الشرع. ومن ثم يكون قضاء الله وقدره الكوني: موافقا لما جاء به أمره، وقضاؤه الشرعي.
ورحم الله أمير المؤمنين عمر حين قيل له: يا عمر، أتفر من قدر الله؟ قال: نعم، أفر من قدر الله، إلى قدر الله.
القرآن والسنن الإلهية:
يراد بالسنة الإلهية “الطريق المرعية في أفعال الله تعالى، وهي طريق العدل، والرحمة، علمًا أن العدل، والرحمة -مرعيان في التشريع الإلهي- كما هما مرعيان، في كل أفعال الله تعالى، التي يجري بها أمره، في عباده.
وقد أكد القرآن الكريم في كثير من آياته على أن هناك سننا إلهية: تحكم الحياة البشرية، كما أن هناك قوانين كونية تحكم عالم المادة. والقرآن بتأكيده على فكرة السنن، والقوانين، يكون قد نقل الإنسان نقلة معرفية هائلة، يستطيع من خلالها أن يعرف أن الحياة: تحكمها سنن. وأن الكون يحكمه قانون. وبذلك يكون الإنسان أقدر على فهم ما يجري من حوله. كلما اكتشف سنة، أو قانوناً. كما أنه يكون أقدر على صنع مستقبله، طبقاً لما استفاده من هذه السنن، والقوانين.
سنن تاريخية:
وأول ما يلاحظه الباحث في صيغة "سنة الله القرآنية" أنها تذكر وكأنها خاصة بسنن التاريخ، والمقصود بذلك، أنها لم تستعمل في القرآن إلا في هذا المجال، وهذا لا يعني عدم وجود سنن غيرها، ومن ثم تقترن غالباً بالإشارة إلى الأمم السابقة كما في الآيات التالية: "يريدُ الله ليبين لكم ويهديكم سننَ الذين من قبلكم ويتوب عليكم، والله عليم حكيم". النساء 26.
"سنّة الله في الذين خلوا من قبلُ، ولن تجد لسنّة اللهِ تبديلا". الأحزاب 62.
"سنّة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنّتنا تحويلا". الإسراء 77.
"سنّة الله التي قد خلت من قبلُ ولن تجدَ لسنة الله تبديلا". الفتح 23.
"قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرضِ فانظروا كيفَ كان عاقبةُ المُكذبين". آل عمران 137.
"وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنّة الأولين أو يأتيهم العذابُ قُبلا". الكهف 55.
"لا يؤمنون بهِ وقد خلت سنّة الأوّلين". الحجر 13.
"قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلفَ وإن يعودوا فقد مضت سنّة الأوّلين". الأنفال 38.
"استكبارًا في الأرضِ ومكر السيّئ، ولا يحيق المكرُ السيّئ إلّا بأهله، فهل ينظرونَ إلّا سنة الأوّلين، فلن تجد لسنة الله تبديلًا، ولن تجد لسنة الله تحويلًا". فاطر 43.
"فلم يكُ ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا، سنّة الله التي قد خلت في عبادهِ، وخسرَ هنالك المبطلون". غافر 85.
وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة، وأجمل قصص الأنبياء، ثم قال: "لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب، ما كان حديثًا يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديهِ وتفصيلَ كلّ شيء وهدى ورحمةً لقومٍ يؤمنون". يوسف 111.
أي: هذه القصص المذكورة في الكتاب، ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة، كنحو ما يذكر في الحروب، من السير المكذوبة. وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون: "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرةً لمن يخشى". النازعات 25-26.
وقال في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه ببدر، وغيرها: "قد كان لكم آية في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأي العينِ، والله يؤيد بنصرهِ من يشاء، إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار". آل عمران 13.
وقال في شأن بني النضير: "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتابِ من ديارهم لأول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدين المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار". الحشر 2.
فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة، وممن قبلها من الأمم. وذكر في غير موضع: أن سنته في ذلك سنة مطردة، وعادة مستمرة. وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المتأخرين كدأب الكافرين من المتقدمين. فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم.
سنن التاريخ شاملة لسنن الاجتماع:
لقد قلنا إن "سنة الله" في القرآن تكاد تكون موقوفة الاستعمال على سنن التاريخ، بناء على ما قدمناه من الآيات الشاهدة على ذلك، ومن ثم: فلا بد لنا من بيان مقصودنا، بسنن التاريخ، وأنها شاملة لسنن الاجتماع، ذلك أن سنن التاريخ: مبينة على سنن الاجتماع، ومن ثم فلا يمكن الفصل بينهما، وإذا كانت نتائج الأحداث، تجري طبقاً لسنن معينة، فلأن الأحداث أيضاً تجري طبقاً لسنن معينة، ومن ثم فنحن نستفيد من سنن التاريخ: لنصنع الأحداث، وفقاً للنتائج التي شهدناها، من النتائج المترتبة على أحداث سابقة. وعلى هذا فالتاريخ: ليس خاصاً بالماضي، وإنما هو يشمل الحاضر، والمستقبل. بمعنى أن سننه: تنطبق على الحاضر، و المستقبل كما تنطبق على الماضي، لكن لما كان الإنسان الذي يعيش في الحاضر، لم يشهد الحاضر إلا شهوداً جزئياً -وفي مرحلة زمنية قصيرة- لا تكفي لترتب النتائج على الأسباب، وكذلك المستقبل -بالنسبة لمن يعيش في الحاضر- فإنه غيب. لذلك كله: كان توجيه القرآن النظر إلى تاريخ الأمم السابقة، وإلى الأحداث، التي عاصرها المسلمون الأولون، والتي ترتبت فيها النتائج على الأسباب. وهذا يعني أن القرآن الكريم يقيم للتاريخ -بمعناه الواسع- اعتباراً كبيراً، فهو حصيلة التجارب الإنسانية، الطويلة، ومختبر الباحثين، والمحللين، الذي ينبغي أن تتوجه إليه العناية، لاستفادة الدروس، والعبر، واكتشاف السنن، التي تحكم سير الأمم، في تطورها، وبيان دروب نموها، وازدهارها، ومنحنيات انحطاطها، واندثارها.
سنن الإنسان، وسنن الإيمان:
خلق الله الإنسان كما خلق الكون والمادة، ومنحه من الطبائع والغرائز والقوى ما يقيم حياته على هذه الأرض، وجعل حياته على هذه والأرض لغاية أكبر من مجرد الاستمرار في الحياة –كما هو شأن عالم المادة– ومن ثم كان تميزه عن بقية المخلوقات بالعقل والاختيار والقدرة على الفعل والتغيير في حياته طبقا للوظيفة المختصة به، وهذه الوظيفة محددة بالاستخلاف في الأرض القائم على شريعة الله المنزلة، ومن ثم فالإيمان بهذه الشريعة وتطبيق ما جاءت به من هداية في جميع شؤون الحياة، يدخل تغيرا كبيرا على حياة الإنسان، حتى ليمكن القول إنه يغدو خلقا آخر بعد دخوله في الإسلام واهتدائه بتوجيهاته وأحكامه. الأمر الذي يجعل الفارق كبيرا بين الإنسان المسلم، والإنسان غير المسلم، ومن ثم فإن السنن التي تحكم الحياة الإنسانية التي لا تخضع لشريعة الإسلام، لا يمكن أن تبقى شاملة للإنسان المسلم دون تعديل بعد أن دخل الإسلام كعنصر معدل ومؤثر في تغير الإنسان ليكون “الإنسان المسلم”. ويمكن توضيح هذه الفكرة بالأمثلة التالية: يقول تعالى: "إنّ الإنسان خُلق هلوعًا، إذا مسّه الشرُّ جزوعًا، وإذا مسّه الخيرُ منوعًا، إلّا المصلّين، الذين هم على صلاتهم دائمون". المعارج 19-23.
ويلاحظ هنا استثناء المسلم المصلي -الدائم على صلاته- مما فطر عليه الإنسان من الهلع، ومن جزعه من الشر الذي يمسه، ومن منعه الخير الذي يعطى، فكأن الإنسان المسلم أصبح فعلا خلقا آخر، بتأثير الصلاة. وعلى النقيض من الإنسان المجرد من الإسلام. ومن هنا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان -إذا حزبه أمر، أو نزلت به شدة- فزع إلى الصلاة نظرا لما لها من التأثير في هذا الجانب. يقول الله تعالى: "وأحضرتِ الأنفس الشّح". النساء 128.
فالشح إذن حاضر في النفس الانسانية -خلقت على هذا وتستمر عليه- إلا أن يعدل ذلك بشريعة الله -عن طريق الزكاة والصدقات- التي تطهر المزكي من هذا الشح: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها". وهكذا يتحول التكالب على المال، والاستئثار به -بفعل الشريعة- إلى إيثار، يقي المسلم من الشح، الذي كان حاضرا في نفسه: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوقَ شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون". الحشر 9.
ومثله قوله تعالى: "فاتّقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرًا لأنفسكم، ومن يوقَ شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون". التغابن 16.
وهكذا فإن ”سنن الإنسان” تسري على الإنسان الفطري، أو الطبيعي -مع جميع غرائزه كما وهبها إليه الله- ولكن سنن الإيمان تسري على “الإنسان المسلم“ وهو الذي -تخضعه العقيدة الإسلامية- إلى عملية شرطية، من شأنها الحد من طغيان الغرائز، وتنظيمها في علاقة وظيفية، مع مقتضيات العقيدة الاسلامية. فالعملية الحيوانية التي تمثلها الغرائز -بصورة محسوسة- لم تلغ هنا. ولكنها انضبطت بقواعد نظام معين.
وفي هذه الحالة: يتحرر الإنسان جزئيا، من القانون الطبيعي، الذي فطر عليه جسده، ويخضع في كليته: إلى المقتضيات الروحية، التي طبعتها العقيدة الإسلامية في نفسه، بحيث يمارس حياته -في هذه الحالة الجديدة- حسب قانون الروح. وهكذا كانت روح بلال هي التي تتكلم، وتتحدى بلغتها: الدم، واللحم، كما أن ذلك الصحابي -كأنه يتحدى بسباته المرفوعة-: الطبيعية البشرية، ويرفع بها في لحظة معينة: مصير الدين الجديد. كما أنها هي نفسها: تتحدث بصوت تلك “المرأة الزانية” التي أقبلت إلى “الرسول” صلى الله عليه وسلم لتعلن عن خطيئتها، فتطلب إقامة حد الزنا عليها. فالوقائع -هذه جميعها- تخرج عن معايير الطبيعة(1).
وبناء على هذا فإن العقيدة الإسلامية –بضبطها للغرائز البشرية بالحد من طغيانها- فإنها بالمقابل: توجه هذا الفائض -من قوة الغرائز- باتجاه القيم الخلقية، والمثل العليا، التي تجعل لحياة المسلم هدفا، ومعنى -تهون في سبيله التضحيات- الأمر الذي يجعل من المسلم: قوة تتجاوز المألوف، من قوة الإنسان الطبيعي، وهذا يفسر لنا فريضة الإسلام على المسلم: أن يصمد أمام عشرة من المشركين -في أول الإسلام- حيث يتم شحن طاقته الإيمانية -إلى حدها الأعلى. أو أن يصمد أمام اثنين من المشركين - في حال كون طاقته الإيمانية في حدها الادنى–. كما يفسر لنا كثيرا من المواقف التاريخية -التي انتصر فيها الإسلام على خصومه- مع قلة العدد والعدة، وهو ما عبرت عنه الآيات القرآنية: "يا أيها النبيّ حرّض المؤمنين على القتالِ، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين، وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون، الآن خفّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا، فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين". الأنفال 65-66.
"فلمّا جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنون أنهم ملاقوا اللهِ كم من فئة قليلةٍ غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين". البقرة 249.
_________________
"1" شروط النهضة، لمالك بن نبي: 101-102 بتصرف.
تدافع السنن وتنازع الأقدار:
من خلال ما سبق يمكننا القول بأن الحياة البشرية تخضع لسنن كثيرة، وهذه السنن تعتمد في تحققها، ونفاذها -على عمل الإنسان- طبقا للسنة العامة، التي وردت في قوله تعالى: "له معقّبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، إنّ الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقومٍ سوءًا فلا مرد له، وما له من دونه من وال". الرعد 11.
وكذلك السنن الكونية الكثيرة -تتأثر بتدخل الإنسان، سلبا، أو إيجابا- مما يظن معه في كثير من الأحيان: أن السنن ربما تعدلت، أو تخلفت، لعدم ترتب النتائج على الأسباب. والحقيقة أن السنن التي تحكم الحياة البشرية، أو الحياة الطبيعية: أوسع بكثير مما نظن، وأكثر من أن يحيط بها الإنسان. ومن ثم فكلما تقدم الإنسان في اكتشافه لأسرار الحياة البشرية والكونية. كلما أدرك جديدا من هذه السنن، وغدا أقدر على تفسير الحوادث والوقائع والاستفادة منها.
إن خضوع الحياة البشرية والكونية لهذه السنن الكثيرة -التي تتعذر على الحصر- والتي تتحدى جهود البشر، في اكتشافها، والإحاطة بها: تتزاحم في عملها، وتتدافع طبقا لعمل الإنسان الذي يخضع أيضا لعوامل مختلفة تؤثر فيه قوة وضعفا وتقدما وتخلفا. ومن ثم يتحقق من هذه السنن ما تكون له الغلبة على غيره. بناء على العامل والدافع -الذي يتغلب في عمل الانسان-.
كذلك تكون الأقدار الإلهية: في حالة تنازع -طبقا لتدافع السنن- ثم يتحقق القدر المترتب، على السنة الغالبة. وهكذا فالسنن جارية لا تتخلف، وإنما يتغلب بعضها على بعض -بحسب القوة، والضعف- ويمكن أن نلاحظ ذلك في كثير مما يجري حولنا من مشاهد وأحداث:
من المعلوم أن قانون الجاذبية الأرضية يستلزم أن ينجذب إلى الأرض كل ما يقع في نطاق هذه الجاذبية، ولكننا نرى الطيور والطائرات وأمثالها: لا تنجذب إلى الأرض، وذلك لأنها تخضع لقانون آخر وهو قانون الطيران. وهكذا فقانون الطيران: لم يلغ قانون الجاذبية، وإنما تغلب عليه. وإذا ما حدث خلل في الطائر، أو الطائرة -أضعف هذا القانون- أمام قانون الجاذبية، فإننا نرى الطائر، والطائرة: يهويان إلى الأرض، لتغلب قانون الجاذبية.
من سنن الإيمان: أن ينتصر المسلمون على المشركين -وذلك لما قدمنا- من أن الإيمان: يرفع طاقة المؤمنين إلى ضعف طاقة الإنسان غير المسلم في الحد الأدنى، ومع ذلك فلتحقيق هذه السنة: لا بد من مراعاة شروطها، ومقتضياتها، والالتزام بالتوجيهات الصادرة إلى المؤمنين. ويمكن أن نلاحظ في معركة واحدة تحقق هذه السنة -حينما توافرت الشروط، والتزم المسلمون بالتوجيهات- وذلك ما حدث في معركة أحد، حيث انتصر المسلمون في أول المعركة طبقا لوعد الله بنصر المؤمنين. وقد ذكره القرآن الكريم بقوله: "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسّونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمرِ وعصيتم من بعدِ ما أراكم ما تحبّون، منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم، ولقد عفا عنكم، والله ذو فضل على المؤمنين". آل عمران 152.
غير أن مخالفة المسلمين الرماة، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتنازعهم فيما بينهم: جعل هذه السنة لا تتحقق لفوات الشروط، وهذه الشروط منصوص عليها في مثل قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا، واذكروا الله كثيرًا لعلّكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إنّ الله مع الصابرين". الأنفال 45-46.
وهكذا نرى التدافع: بين سنن الإيمان، وسنن الإنسان. وكيف تغلبت سنة الإيمان أولا، بتحقق شروطها. ومن ثم كان القدر: نصر المؤمنين. ثم كيف دفعت سنة الإيمان، بسنة الإنسان -حينما ضعفت سنة الإيمان- بمخالفة الرماة. فكان القدر: ما أصاب المؤمنين من القرح والمصيبة.
سنن أخرى كثيرة:
وإن المتتبّع لما ورد في القران الكريم من السنن: يجد الشيء الكثير، الذي لا يمكن أن يتسع له مثل هذا البحث المحدود الصفحات، ويكفي أن نشير هنا إلى بعض هذه السنن إشارة سريعة:
سنة التدافع المشار إليها بقوله تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعضٍ لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضلٍ على العالمين". البقرة 251.
سنة الابتلاء المشار إليها بقوله تعالى: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيّهم أحسن عملا، وإنّا لجاعلون ما عليها صعيدًا جرزا". الكهف 7-8.
وقوله تعالى: "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهو العزيز الغفور". الملك 2.
وقوله تعالى: "أحسبَ الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون؟، ولقد فتنّا الذين من قبلهم، فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين". العنكبوت 2-3.
سنة التمكين والاستخلاف المشار إليها بقوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلفَ الذين من قبلهم، وليُمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليُبدّلنهم من بعد خوفهم أمنًا، يعبدونني لا يشركون بي شيئًا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون". النور 55.
وبقوله تعالى: "ونريد أنّ نمنّ على الذين استضعفوا في الأرضِ ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين، ونمكّن لهم في الأرضِ ونُريَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون". القصص 5-6.
وبقوله تعالى: "ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أنّ الأرضَ يرثها عباديَ الصالحون، إنّ في هذا لبلاغًا لقومٍ عابدين". الأنبياء 105-106.
سنة التداول والاستبدال المشار إليها بقوله تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين النّاس وليعلمَ الله الذين آمنوا ويتّخذ منكم شهداء، والله لا يحبّ الظالمين". آل عمران 140.
"وإن تتولّوا يستبدل قومًا غيركم، ثمّ لا يكونوا أمثالكم". محمد 38.
وهكذا تعتبر دراسة مثل هذه السنن زادا كبيرا للمسلمين، إذا ما أرادوا أن يعرفوا سنن الحضارة، في نشأتها، وتطورها، وازدهارها، وسقوطها -كما فعلوا ذلك من قبل- حيث كانت مثل هذه الإشارات سببا في السبق التاريخي، والاجتماعي الكبير، الذي حققه ابن خلدون، في مقدمته، والذي يعتبر بحق: واضع علم الاجتماع والعمران.
نشأة الحضارة الإسلامية:
إن الإنسان -بمجرد انتمائه الجاد إلى الإسلام- يكون قد وضع نفسه وقدراته، في سياق واحد، وتوجه واحد، ومجرى واحد مع خلائق الله كافة، وسننه المذخورة، في الطبيعة، ونواميسه العاملة، في الكون، وإنه سيتجاوز مواقع الارتطام، التي تفتت الطاقة، وتضعف فاعليتها، إلى الانسجام والتناغم، مع السنن، والنواميس. وبذلك يتحول الإنسان المؤمن: إلى طاقة فذة، في ميدان الفعل، والإنجاز، وإلى قدرة مذهلة، في مجال العطاء، والإبداع. ويومها ينطلق المسلم –فردًا وجماعة- بقوة اختزال مدهشة -لمواصفات الزمان والمكان والتراب- وصولاً إلى الأهداف المرتجاة.
نقلة عقلية:
وهكذا كان. فقد حرر الإسلام العقل وكرمه، وسار بالتوجه الإنساني، من التعدد إلى الوحدة، ومن عبادة العباد، إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام. حيث وجد العقل نفسه -وقد أعيد تشكيله- قادراً على الفعل، بتأثير العقيدة الإسلامية، المتضمنة لقيم: الربانية، والشمول، والتوازن، والثبات، والتوحيد، والحركية، والإيجابية، والواقعية، والتي شكلت بتكاملها: نسقًا عقيديًا متفردًا كان له أكبر الأثر في انطلاقة المسلم، نحو صناعة التاريخ، وبناء الحضارة.
نقلة معرفية:
وكما الإسلام شكّل العقل الفعال، فقد نقل المسلم نقلة معرفية بعيدة المدى، وذلك من أول آية نزلت في كتاب الله: ”اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم“. فانطلقت المسيرة العلمية بتوجيهات القرآن تمحو آثار الأمية والجهل، وتعطي ثمارها يانعة في كل مجال من مجالات العلم والمعرفة.
نقلة منهجية:
أما النقلة الثالثة فقد كانت نقلة منهجية، تمثلت في توجيهات القرآن نحو التأمل والنظر في الكون من جانب، والانتفاع بما فيه من خيرات، واعتماد قانون الأسباب والمسببات، مما جعل البحث العلمي يسير في اتجاه علمي، بعد أن كان فلسفيًا نظريًا عند الإغريق، وهو بذلك أرسى منهج البحث التجريبي الذي أخذه الغرب بعد ذلك عن المسلمين. وبنوا عليه اكتشافاتهم العلمية الحديثة. كذلك كان للقرآن الأثر البالغ في لفت النظر إلى سنن التاريخ التي تحكم الحركة البشرية، وتستخلص قوانين الاجتماع، وخط سير الأمم في ارتقائها وانحطاطها، مما جعل ابن خلدون بعد ذلك أول من التفت إلى أهمية العمران والحضارة، وكتب كتابه الشهير “مقدمة ابن خلدون”، والذي اعتبر بحق أول كتاب حول هذا الموضوع.
وهكذا نرى أن الإسلام لم يكتف بالتأكيد على الجوانب الأخلاقية والروحية فحسب، وإنما وضع الجماعة البشرية المؤمنة في قلب العالم والطبيعة، ودفعها للتنقيب عن السنن والنواميس في أعماق التربة، وفي صميم العلاقات المادية بين الجزيئات والذرات، إننا بإزاء حركة حضارية شاملة، تربط بين مسألة الإيمان، ومسألة الإبداع والكشف(1).
_________________
"1" حول تشكيل العقل المسلم، لعماد الدين خليل 44-88 بتصرف.
خصائص الحضارة الإسلامية:
تتميز الحضارة الإسلامية بنشأتها وتكوينها وبطابَعها وشكلها وبنظامها، وبالإجراءات التنفيذية لهذا النظام، وتكون كل ملامحها مستقلة، ومن ثم فلا ينبغي أن تعالج بمفهومات اجتماعية أجنبية عنها، ولا تدرس وفق منهج غريب عن طبيعتها، ولا تنفذ بإجراءات مستندة من نظام آخر، وفيما يلي بيان لأهم خصائص الحضارة الإسلامية:
1- وحدانية في بنيتها:
ذلك أن أهمية الحضارة تقوم على عقيدة التوحيد الخالص، من شوائب الشرك، والوثنية، ومن لوثات الكهانة، والعرافة، ومن تحريفات الرسالات التوحيدية السابقة، حينما تعلن كلمة التوحيد الخالدة: “لا اله إلا الله”. والتي أشارت إليها النصوص القرآنية الكثيرة:
"قل هو الله أحد، الله الصّمد، لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكن له كفوًا أحد". الإخلاص 1-4.
ومن ثم فلا تكون العبادة إلا لله: "إيّاك نعبد وإيّاك نستعين". الفاتحة 5.
ولا حاكمية في التشريع إلا لله: "إن الحكمُ إلّا لله، يقصّ الحقّ وهو خيرُ الفاصلين". الأنعام 57.
"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا حرجًا مما قضيتَ ويسلّموا تسليمًا". النساء 65.
ومن هنا نرى خلو الحضارة الإسلامية من كل مظاهر الوثنية، وآدابها، وفلسفتها، في العقيدة، والحكم، والفن والشعر، والأدب. وهذا هو سر إعراض الحضارة الإسلامية، عن ترجمة: “الإلياذة” وروائع الأدب اليوناني الوثني، وهو سر تقصير الحضارة الإسلامية، في فنون النحت، والتصوير، مع تبريزها في فنون الحفر، وزخرفة البناء. وهذه الوحدة في العقيدة: تظهر في وحدة الرسالة، ووحدة التشريع، ووحدة الأهداف العامة، والوحدة في الكيان الإنساني العام، الوحدة في وسائل المعيشة، وطراز التفكير.
2- ربانية في مصدرها:
ونعني بذلك أنها كانت نتيجة للوحي الإلهي، المتمثل بالقران الكريم، والسنة النبوية المبينة له، ذلك أن القران الكريم هو الذي أرسى دعائم هذه الحضارة، بنظرتها الكلية إلى الوجود: "الإله، والكون، والحياة، والإنسان“. كما وضع لها أصولها التشريعية ونظمها، وبين لها قيمها الأخلاقية والسلوكية، وحدد لها قواعد التعامل بين أبنائها، ورسم لها دستور التعاون الاجتماعي، وأقام لها معالم الطريق، إلى التعاون والحوار، بين الدول والحضارات. ولم يترك لها أن تضع هذه الأسس بنفسها، كمل فعل ذلك في ميادين الحياة الأخرى، لأن الله يعلم قصور الإنسان في هذا الجانب، حيث لا يستطيع الإنسان أن يدرك حقيقة نفسه وحاجاته. ومن ثم نرى تقدم الإنسان يسير سريعا في التعرف على الكون المحيط به، على حين ما زال يحبو في مجال العلوم الإنسانية، ويرجع السبب في ذلك على حد تعبير ”الكسيس كاريل“ إلى أمرين: أولهما: تكوين الإنسان نفسه، حيث نرى حواسه كلها متجهة إلى ما حوله، وليست إلى داخله. وثانيهما: أن الإنسان حينما يدرس ما حوله يكون هو الدارس. وما حوله موضوع الدراسة. وأما إذا أراد أن يدرس نفسه، فيكون هو الدارس، وهو موضوع الدراسة. وهو أمر في غاية الصعوبة.
3- عادلة ووسطية في تشريعها:
لما كانت الشريعة الإسلامية وحيا إلهيا كان من الطبيعي أن تتسم بالعدالة المطلقة، ذلك أن الله واضع هذه الشريعة –ليس له مصلحة في أن يحابي أحدًا على حساب أحد. والخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، ومن ثم فقد قامت الحضارة الإسلامية على مبدأ العدل هذا، ولم تفرق العدالة الإسلامية بين الناس، في هذا الجانب بغض النظر عن عقائدهم وأجناسهم وطبقاتهم، ومدى قربهم أو بعدهم. ولننظر في دستور العدل كما جاء في القران الكريم، فقد أمر الله بالعدل بين الناس وليس بين المؤمنين فقال: "إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأماناتِ إلى أهلها، وإذا حكمتم بين النّاسِ أن تحكموا بالعدل". النساء 58.
وأمر بالعدل مع البغض والشنآن فقال: "ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألّا تعدلوا، إعدلوا هو أقربُ للتّقوى، واتّقوا الله، إنّ الله خبير بما تعملون". المائدة 8.
وأمر بإقامة الميزان بالعدل فقال: "والسّماء رفعها ووضعَ الميزان، ألّا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزنَ بالقسطِ ولا تُخسروا الميزان". الرحمن 7-9.
وأمر بإعطاء الآخرين حقوقهم فقال: "ويلٌ للمطفّفين، الذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون". المطففين 1-3.
وأمر باتخاذ العدول من الشهود بقوله تعالى: "وأشهدوا ذوَي عدلٍ منكم، وأقيموا الشّهادة للهِ، ذلكم يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر". الطلاق 2.
وأمر الشهود بالاستجابة لتحمل الشهادة فقال: "ولا يأبَ الشهداءُ إذا ما دُعوا". البقرة 282.
ونهاهم عن كتمان الشهادة بعد أن يتحملوا فقال: "ولا تكتموا الشّهادةَ ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبُه". البقرة 283.
ومدح هذه الأمة بصفة العدالة والوسطية، حين قال: "وكذلك جعلناكم أمّةً وسطًا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدًا". البقرة 143.
وهذا غيض من فيض من الآيات القرآنية الكثيرة، التي تأمر بالعدل وتحض عليه، وحينما نستعرض الواقع التاريخي للحضارة الإسلامية، نرى أن هذه الخصيصة كان لها الحضور الأقوى، في كثير من الوقائع، منذ عهد الراشدين، وعلى مر عصور الحضارة الإسلامية.
4- إنسانيّة في نزعتها، عالميّة في رسالتها:
ذلك أن الحضارة الإسلامية جاءت لخير البشرية، ولم تقتصر في عطائها على المسالمين، بل إن غير المسلمين الذين يعيشون في كنفها، يتمتعون وينعمون، بما يتمتع به المسلمون وينعمون، فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. كما أن غير المسلمين الذين لا يعيشون في الدولة الإسلامية مستهدفون بخيرية الدعوة الإسلامية طبقا لقوله تعالى: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخيرِ ويأمرون بالمعروفِ وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون". آل عمران 104.
ومن ثم كانت الدعوة الإسلامية رحمة مهداة إلى البشرية قاطبة بل إلى العالمين جميعا: "وما أرسلناك إلّا رحمةً للعالمين". الأنبياء 107.
"وما أرسلناكَ إلّا كافةً للنّاسِ بشيرًا ونذيرًا ولكن أكثر الناس لا يعلمون". سبأ 28.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله“. ويقول صلى الله عليه وسلم جوابا لمن سأل عن الثواب في الإحسان إلى الحيوان: “في كل كبد رطبة أجر“. وليست هذه النصوص من باب الوصايا الخلقية فقط، وإنما قننت الشريعة الإسلامية ذلك كله بما وضعت من تشريعات تضمن حقوق الناس جميعها، كحق الحياة، وحق الحرية، وحق الكرامة، وغير ذلك من الحقوق الكثيرة. ولعل ذلك كله ينطوي تحت الكلمة الجامعة التي قالها الصحابي ربعي بن عامر حينما سأله رستم: “ما الذي جاء بكم إلينا"؟ فقال ربيعيّ: ”إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدينا إلى سعة الدّنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. وهكذا فقد كانت إشعاعات الحضارة الإسلامية عامة شاملة، استضاء بنورها كل البشر. بل شمل خيرها العالمين جميعًا.
5- عربية في خطابها:
لقد كانت الحضارة الإسلامية عربية في خطابها، حيث جاء القرآن الكريم، بلسانٍ عربي مبين. وكذلك السنة النبوية المبينة للقرآن كانت عربية أيضا، وذلك مصداقا لقوله تعالى: وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسانِ قومهِ ليبيّن لهم". إبراهيم 4.
وهكذا فقد اختار الله العربية لتكون لغة كتابه ولغة نبيه: "الله أعلم حيث يجعل رسالته". الأنعام 124.
وقد عرف المسلمون جميعا فيما بعد شيئا من أسرار هذا الاختيار للعربية، مما دفع كثيرا منهم من غير العرب أن يتعلموا العربية، ويدركوا شيئا من حكمها، وأسرارها. حيث استوعبت معاني كتاب الله، التي لا تحد. واتسعت لتشمل: جميع حقول العلم والمعرفة، التي نقلت إلى العربية، وكانت بحق: لغة العلم، والدين، والحضارة -فترة ازدهار الحضارة الإسلامية- ومن ثم، كانت وعاء ضم في جنباته: كل ما أنتجته هذه الحضارة. بل إنها تجاوزت في الواقع رقعة العالم الإسلامي، حيث كان طلبة العلم -من الأوربيين- يحرصون على تعلمها، ويتفاخرون بالتكلم بها، والدراسة بها. وتشير إلى ذلك: الوثائق الكثيرة، أبان ازدهار الجامعات الأندلسية، واستقبالها للطلبة الأوربيين. كما كان كتاب “القانون في الطب” -لابن سينا- يُدرس في الجامعات الأوربية باللغة العربية، إلى نحو من ثلاثمئة سنة.
6- عقلية في احتجاجها:
يعتبر العقل أساس التكليف في الشريعة الإسلامية كما يعتبر وسيلة الإدراك لفهم القرآن واستنباط أحكامه وتوجيهاته، ومن ثم فقد حفلت آيات القران بالإشادة به، والإشارة إليه في كثير من الآيات، حيث يعبر عنه مرة بالفؤاد، ومرة بالقلب، وأخرى بالنهى، ورابعة باللّب. وكلها مراتب في سلم الإدراك، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: "فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابهَ منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلمِ يقولون آمنا به كل من عند ربّنا، وما يذّكر إلا أولو الألباب". آل عمران 7.
وقوله: "إن في ذلك لآياتٍ لأولي النّهى". طه 54.
وقوله تعالى: "أفلم يسيروا في الأرضِ فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور". الحج 46.
وقوله تعالى: "هل في ذلك قسمٌ لذي حجر". الفجر 5.
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، المبثوثة في ثنايا الكتاب العزيز، والتي تدعو إلى الفهم والفقه، والتفكر، والتذكر، والعلم. وفي ميدان المحاجة والجدال يعمد القرآن إلى الأدلة العقلية، ولكن على طريقة القرآن لا على طريقة منطق اليونان، ذلك أن القرآن يخاطب جميع المستويات في جميع الأوقات. بينما منطق اليونان يخاطب خاصة من الناس، دون جمهرتهم.
ومن هنا نرى ابن تيمية، يقول: إن منطق اليونان لا يحتاج إليه الذكي. ولا يستفيد منه الغبي. إن مجال الحديث عن اليوم الآخر، وإثبات البعث والجزاء، ومجال البحث في وجود الله والتوحيد يعتمدان أصلا على الحجاج العقلي، لأن المخاطبين -كانوا من المشركين المنكرين للآخرة والمنكرين للتوحيد- ومن ثم لا يفيد معهم إلا إقامة الحجة العقلية عليهم. ولننظر في مثلين من الحجاج القرآني، أحدهما في إثبات الخالق وتوحيده. والآخر في إثبات القدرة على البعث.
المثال الأول، قوله تعالى: ما اتّخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ، إذًا لذهب كلّ إلهٍ بما خلق، ولعلى بعضهم على بعض، سبحان الله عمّا يصفون". المؤمنون 91.
هذه قضية تعدد الآلهة -التي كان المشركون يؤمنون بها- وقضية الوحدانية -التي كانوا يعدونها إحدى الكبر- تناولها التعبير القرآني بسهولة ويسر. وخاطب البداهة، والبصيرة، بلا تعقيد كلامي، ولا جدل ذهني، حيث رسم لها هذا المشهد المصور العجيب. فرسم للتعدد صورة هزيلة، مضحكة.
هذه الصورة التي نتخيلها -لو كان هناك آلهة– إذا لذهب كل إله بما خلق. وإنها لصورة مضحكة أن ينحاز كل فريق من المخلوقات إلى إله. وأن يأخذ كل إله مخلوقاته ويذهب، إلى أين؟ لا ندري. ولكننا نتخيل هذه الصورة، فنضحك من فكرة تعدد الآلهة، إذا كانت هذه هي النتيجة(1).
المثل الثاني في الإثبات: "وضربَ لنا مثلًا ونسيَ خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم؟، قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرةٍ، وهو بكلِّ خلقٍ عليم، الذي جعلَ لكم من الشّجرِ الأخضرِ نارًا فإذا أنتم منه توقدون، أوَ ليسَ الذي خلق السماواتِ والأرضَ بقادرٍ على أن يخلُق مثلهم؟! بلى، وهو الخلّاق العليم". يس 78-81.
والآيات نزلت في -رجل من المشركين- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حمل عظما باليا، ففركه بيده أمام النبي وقال: "من يحيي العظام وهي رميم"؟ فجاء الخطاب بالقرآن الكريم لهذا المشرك -أنه لم يضرب هذا المثل- إلا بعد أن نسي خلقه الأول، لأنه المشركين كانوا يعتقدون أن الله خلقهم: "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنَّ الله، فأنّى يؤفكون". الزخرف 87.
وكان مقتضى هذا الاعتقاد: أن يستدل هذا المنكر بالخلق الأول -الذين يؤمن به- على الخلق الثاني. ولكن يبدو أنه نسي الخلق الأول. فالقرآن يذكره به، ليقيم به الحجة عليه، ثم يصرح به بقوله: "قل يحييها الذي خلقها أوّل مرّة". وإذا ما وضعنا هذا الدليل بصورة منطقية نقول: "إن القادر على البدء، قادر على الإعادة بطريق الأولى".
_________________
"1" التصوير الفني في القرآن 186.
ثم يقول: "الذي جعلَ لكم من الشّجرِ الأخضرِ نارًا فإذا أنتم منه توقدون". وهذا هو الدليل العقلي الثاني على إمكانية البعث. حيث أشار إلى الطريقة التي كان الناس يحصلون بها على النار -إذا خرجوا بعيدا عن العمران- يأخذون زندين من شجرتي المرخ والعفار -وأحد الزندين يقطر ماء- فإذا حصل الاحتكاك بينهما انطلقت الشرارة، فيشعلون النار بهذه الطريقة. وقدر أشار القرآن إلى هاتين الشجرتين في آية أخرى حينما قال: "أفرأيتم النار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها؟ أم نحنُ المنشئون؟، نحن جعلناها تذكرةً ومتاعًا للمقوين". الواقعة 71-73.
وملخص الاحتجاج -على البعث- في هذه الآية: أن القادر على أن يعطيكم من الشجرة -التي يقطر غصنها ماء- نارًا، قادر على أن يخلق من الموت حياةً. ذلك أن النار ضد الماء. والموت ضد الحياة. فهو إذن يخرج الشيء من ضده. كما قال: "يخرجُ الحيّ من الميّت، ويخرجُ الميّت من الحيّ، ويحيي الأرضَ بعد موتها، وكذلك تخرجون". الروم 19.
ثم قال: "أوَ ليسَ الذي خلق السماواتِ والأرضَ بقادرٍ على أن يخلُق مثلهم؟! بلى، وهو الخلّاق العليم". والدليل الثالث -المستفاد من هذه الآية- يقوم على أساس أن المشركين كانوا يؤمنون بأن الله خالق السموات والأرض: "ولئن سألتهم من خلقَ السماواتِ والأرضَ وسخر الشمسَ والقمرَ، ليقولنّ الله، فأنّى تؤفكون". العنكبوت 61.
كما كانوا يعتقدون بأن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس: "لخلقُ السماواتِ والأرضِ أكبرُ من خلقِ النّاسِ ولكنّ أكثر النّاسِ لا يعلمون". غافر 57.
فالقادرُ إذن على الأكبر قادر على الأصغر -بطريق الأولى- وهو خلق أمثالهم من الناس. وهكذا نجد ثلاثة أدلة عقلية في ثلاث آيات خلاصتها:
القادر على البدء قادر على الإعادة بطريق الأولى. والقادر على خلق الشيء من ضده قادر على الإحياء بعد الإماتة. والقادر على خلق الأكبر قادر على خلق الأصغر بطريق الأولى.
7- علمية في نهجها:
لقد عُرف العرب قبل الإسلام بأنهم أمة أمية، وكما عبر عن ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم– بقوله: ”إنا أمة لا تكتب ولا تحسب“. كما أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة التاريخية، بقوله: "هو الذي بعث في الأمّيين رسولًا منهم". الجمعة 2.
ثم غدت هذه الأمة بفعل الإسلام ومنهجه وتوجيهاته أمة علمية من الطراز الأول، وتم ذلك كله خلال فترة زمنية قياسية، واستطاعت هذه الأمة أن تخرج أجيالًا من العلماء يندر وجود مثلهم في أمة من الأمم – كمًّا ونوعًا- كما استطاعت أن تستوعب علوم السابقين الأولين، وأن تتقدم بالعلم والمعرفة، خطوات الى الأمام، وأن تضع ميسمها على كل علم وفن، وأن تشيع المنهج العلمي في كل مكان وصلت إليه، وأن توظف ذلك كله لخير الإنسانية، والبشرية، فكانت بحق خير أمة أخرجت للناس.
إن هذه الحقيقة التاريخية الصارخة، التي تفرض نفسها على القاصي والداني، والتي لا يستطيع أن يتجاهلها المُكابر، أو المعاند، تحتاج منا أن نقف أمامها متأملين، وأن نتفكر فيها متدبرين، لتفهم أسرار هذا التحول التاريخي الكبير، والذي هو أشبه بالمعجزة منه بالحدث العادي، والذي لا نظير له في تاريخ الأمم والشعوب. فإن التعرف على ذلك ربما يفيدنا في نهضتنا المعاصرة ويعجل بانطلاقتنا، ويجعلها على الطريق القاصد، ويوفر عليها كثيرًا من العوائق والمزالق، والخطو العائر.
إن أولى الحقائق -التي تفرض نفسها- على المتأمل المتفكر: أن الانطلاق إلى طلب العلم كان بنفس الحماس لطلب الدين، بل كثيرًا ما قرنت النصوص بينهما، واعتبرت تحصيل أحدهما تحصيلا للآخر، حتى غدا الدين هو العلم. والعلم هو الدين، ولتنظر في مثل هذه النصوص: "وإذا قيلَ انشزوا في المجالسِ فانشزوا يرفعِ الله الذين آمنوا منكم، والذين أوتوا العلم درجات". المجادلة 11.
“من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقًا إلى الجنة”.
ومن إطلاق لفظ ”العلم“ على الدين نجد الآيات التالية: "ولئن اتّبعتَ أهواءهم بعد الذي جاءك من العلمِ ما لكَ من الله من ولي ولا نصير". البقرة 120.
"وما اختلفَ الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدِ ما جاءهم العلم بغيًا بينهم". آل عمران 19.
"فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءكَ من العلمِ". آل عمران 61.
وأمثال هذه الآيات كثير جدًا في القرآن الكريم. و”العلم” في اصطلاح القرآن أوسع مما عرف بعد ذلك -بالعلوم الشرعية- فهو كثيراً ما يراد به الحقائق التي لا تقبل النقض، واليقينيات التي لا يدخلها شك. وربما كانت لنا عودة لتحقيق مصطلح ”العلم” في القرآن.
وثاني هذه الحقائق: أن الأمة انطلقت باتجاه العلم، بكل طاقاتها، وإمكاناتها. فلم تضع للعلم ميزانية محدودة، كما لم تضع لطلبه شروطًا، ولا قيودًا. وجعلته واجبًا على العلماء، وحقا لطلبة العلم، بل جعلته مشاعاً، ممكنًا لكل من أراده، بل إنها وضعت من المشجعات المادية والمعنوية ما يغري بطلبه والإقبال عليه. وشارك في ذلك الدولة بسياستها، واقتصادها، كما شارك في ذلك أهل الخير من المسلمين، حيث أوقفوا الأوقاف، وأجروا الجرايات الخيرية على المدارس، وطلبة العلم. وربما فاق هذا الجهد الشعبي الجهد الحكومي في كثير من الأحيان.
وإن نظرة سريعة على الواقع، الذي كان سائدًا في عالم الإسلام -في بداية القرن الرابع عشر الهجري- كفيلة بأن ترينا هذه الحقيقة مائلة للعيان، فإننا نجد في مدينة واحدة مئات المدراس الخاصة، وما يتبعها من المساكن الملحقة بها، والتي أوقفت على طلبة العلم وأساتذتهم، ولها ميزانيات خاصة، تبرع بها أهل الخير، لتكون نفقات دائمة للعلم والعلماء. وما تزال آثار هذه الأوقاف -في بعض البلاد الإسلامية- قائمة. تشهد بصدق هذه الحقيقة.
وثالث هذه الحقائق: أن هذه الانطلاقة العلمية لم تقف عند حدود العلوم الشرعية الدينية، بل تجاوزتها إلى أنواع العلوم، والمعارف الأخرى. وأصبحت البلاد الإسلامية مهوى أفئدة الدارسين، من جميع أنحاء العالم، وعلى سبيل المثال: فهذه مدينة القيروان -التي لم يكد يبزغ عليها فجر القرن الثالث الهجري- حتى أصبحت كعبة القصاد لطلاب العلم، الواردين عليها من الأندلس، والمغرب، والسودان، حيث انتشرت فيها: العلوم الدينية، والأدبية، والرياضية، في جميع الطبقات، بفضل الرواد الوافدين عليها، من الخارج، والراجعين من أبنائها من رحلاتهم العلمية، إلى الشرق -في القرن الثاني للهجرة-.
8- منفتحة في آفاقها، مبدعة في إنجازاتها:
لقد فتح القرآن أمام الحضارة الإسلامية آفاقًا غير محدودة في الزمان والمكان. حيث عرض تاريخ الأنبياء، والأمم السابقة، وانتقى من تجاربهم وأحوالهم: دروساً، وعبراً كثيرة، تصلح أن تكون زادًا لهذه الأمة، في مسيرتها الحضارية. وقال في شأن الأنبياء السابقين ومن سار على نهجهم من أممهم: "أولئك الذينَ هداهم الله فبهداهم اقتدِه". الأنعام 90.
وقال في شأن الضالين والمنحرفين: "وكذلك نفصّل الآياتِ ولتستبينَ سبيلُ المجرمين". الأنعام 55.
وإذا استبانت سبيل المجرمين فقد استبانت سبيل المؤمنين، ذلك أن صراط الذين أنعم الله عليهم، غير صراط المغضوب عليهم، وغير صراط الضالين.
وبناءً على ذلك جاءت توجيهات النبي للاستفادة من الآخرين، وما عندهم من الخير، بفعله صلى الله عليه وسلم، بما أشار عليه سلمان الفارسي، من حفر الخندق حول المدينة، قبيل غزوة الأحزاب -وأن ذلك كان مما عرفه من أحوال الحروب في بلاد فارس-. كذلك استجاب النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار به الحباب بن المنذر -في غزوة بدر- من النزول في مكان أفضل من المكان الذي نزل به النبي صلى الله عليه وسلم. واستجاب أيضاً: لما أشارت به أم سلمة -في صلح الحديبية- من أن يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالتحلل من الإحرام أمام الصحابة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم هو القائل: “اطلب العلم ولو بالصين”.
وجريًا على هذه الأصول جرى الصحابة، والتابعون ومن بعدهم، من هذه الأمة. فقد أخذوا كل ما رأوه في مصلحة أمتهم، ولم يمنعهم مانع من أن يقتبسوا أدوات، أو صناعات، كانت عند غيرهم، من الأمم الأخرى، كما أنهم ربما اقتبسوا بعض التنظيمات، والدواوين، التي كانت عند غيرهم، إلا أن هذا الاقتباس كان يخضع للتمحيص، والتدقيق قبل الموافقة عليه، وربما أجري عليه تعديل ما، ليتناسب مع الحضارة الإسلامية، فلا يكون نشازًا فيها، فحينما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى الصلاة لم ير أن يقتبس القرن “البوق” الذي يدعو به اليهود إلى صلاتهم. ثم حلت المشكلة بطريقة مُثلى، حينما رأى صحابيان -في نومهما- عملية الأذان، وحفظا ما جاء فيها، فاستحسنها النبي صلى الله عليه وسلم، لتكون أداة للنداء إلى الصلاة، يميز الأمة الإسلامية، عن غيرها من الأمم السابقة.
وهكذا فقد انتشر المسلمون خلال التاريخ يطلعون على ما أنتجته الأمم السابقة، ويترجمون ما يقع تحت أيديهم من علوم، ومعارف إلى اللغة العربية، ولا يأخذون من هذا المترجم إلا ما يفيدُهم، وربما أدخلوا عليه تعديلات، ليناسب مع ثقافتهم، وحضارتهم. وهذا أمر لا ضيرَ فيه، بل هو المطلوب، طالما أنه لا يتعارض مع هوية الأمة، ورسالتها، ومبادئها. أما إذا كان غير ذلك، فكانوا يقومون بدراسات ناقدة، تبين أخطاءهم، وعدم توافقها -كما حصل أثناء ترجمة الفلسفة اليونانية ومنطقها الصوري- اللذين تعرضا للنقد من بعض علماء الإسلام، وحكمائه.
أما الإبداع في الانجاز: “فقد تفردت الحركة العلمية الإسلامية بأنها انبثقت من العقيدة، ونمت، وترعرعت في ظل العقيدة، ولم يحدث قط صراع بينها، وبين العقيدة، وتلك المزية هي التي لا نقدرها قدرها. ما لم ننظر إلى الحركة العلمية المعاصرة، في الغرب ونشأتها، بعد صراع طويل، مع الكنيسة. أي نعمة إذن تتمثل في قيام حركة علمية كاملة شاملة، لا تقوم في غير عداء مع العقيدة، بل في ظل العقيدة وبدافع منها؟
أي شعور بالتوحد، والتجمع، والترابط النفسي، والعقلي، والروحي، يملأ نفس الإنسان، حيث يتعبد، وهو عالم، ويتعلم وهو عابد، فلا يحس بالحيرة، والتمزق، حيث يدخل المسجد، وعلومه في رأسه، أو يدخل المعمل التجريبي، وذكر الله في قلبه؟
ثم إن قيام الحركة العلمية الإسلامية، في ظل العقيدة وبدافع منها، ومن قاعدة: أن طلب العلم “فريضة” يتقرب بها الإنسان إلى ربه، قد صان الحركة عن أن تستخدم في إفساد العقيدة، أو إفساد الأخلاق كما تستخدم الحركة العلمية القائمة اليوم، في الغرب.
ثم إن المسلمين هم الذين أنشأوا المنهج التجريبي في البحث العلمي بتوجيه من الإسلام، فساروا به خطوات، حيث تقدم على أيديهم: الطب، وعلم وظائف الأعضاء، والفيزياء، والكيمياء، والفلك والرياضيات. فلا العرب قبل الإسلام كانوا أمة علم في البحث العلمي، واستخلاص الحقائق العلمية منه، ولا العلم الإغريقي -الذي وحده المسلمون حيث انبعثوا بوحي الإسلام يطلبون العلم- كان علما تجريبيا مبنيا على الملاحظة، والاستنباط، وإجراء التجارب المعملية، إنما كان نظريًا فلسفيًا معنيًا باستخلاص الكليات النظرية، أكثر من عنايته بإجراء التجارب على الواقع الملموس.
والإسلام هو الذي بعث المسلمين لطلب العلم أولًا، ثم إلى النظر العلمي الواقعي لاستخلاص الحقائق، وذلك من خلال الآيات القرآنية الكثيرة، التي تدعوا إلى النظر في الكون المشهود وما يجري خلاله.
ثم إن الحركة العلمية الأوروبية الحديثة تستمد كل أصولها من الحركة العلمية الإسلامية. ولا ينفي هذا أن أوروبا بذلت جهدا فائقًا توصلت إلى آفاق لم يمكن يحلم بها الإنسان من قبل. وأن الجد، والمثابرة، وعبقرية التنظيم كانت كلها مؤهلات إيجابية عند أوروبا أمكنتها من الوصول إلى تلك الآفاق.
ولكن الذي ينبغي تسجيله أن بمثل هذا الجهد تفوق المسلمون في وقتهم، ووصلوا في آفاق من العلم كانت تعد في زمنهم: فتوحاً عظيمة، مع فارق لحساب المسلمين، يجب التنبه إليه، وهو أن أوروبا حين بدأت نهضتها العلمية: وجدت رصيدًا جاهزًا، استمدت منه، وبنت عليه، سواء في منهج البحث، أو في العلوم ذاتها، بينما المسلمون حينها: بدأوا ولم يكن لهم مثل هذا الرصيد، في منهج البحث، وإنما أنشأوه إنشاء من عند أنفسهم، بتوجيه دينهم، كما أنشأوا علومًا جديدة لم تكن لها أصول سابقة، كعلم الجبر مثلًا، وعلم الخرائط الجغرافية. وهذا بالإضافة إلى علومهم الدينية الخاصة، التي لا مثيل لها بطبيعة الحال عند غيرهم، من الأمم، كعلوم القرآن، وعلوم الحديث، والفقه، والأصول.
9- أخلاقية في مبادئها:
فقد جعلت الحضارة الإسلامية للمبادئ الأخلاقية المحل الأول في كل نظمها، ومختلف ميادين نشاطها، وهي لم تتخل عن هذه المبادئ قط، ولم تجعلها وسيلة لمنفعة دولة، أو جماعة، أو أفراد في الحكم، وفي العلم وفي التشريع، وفي الحرب، وفي السلم، وفي الاقتصاد، وفي الأسرة.
روعيت المبادئ الأخلاقية تشريعا وتطبيقا، وبلغت في ذلك شأنًا ساميا بعيدا، لم تبلغه حضارة في القديم والحديث. ولقد تركت الحضارة الإسلامية في ذلك آثارًا تستحق الإعجاب، وتجعلها وحدها من بين الحضارات، التي كفلت سعادة الإنسانية سعادة خالصة، لا يشوبها شقاء.
10- متسامحة مع غيرها:
وآخر ما نذكر من خصائص حضارتنا هذا التسامح الديني العجيب الذي لم تعرفه حضارة مثلها، قامت على الدين. إن الذي لا يؤمن بدين ولا بإله، لا يبدو عجيبًا إذا نظر إلى الأديان كلها على حدٍ سواء، وإذا عامل أتباعها بالقسطاس المستقيم، ولكن صاحب الدين الذي يؤمن بأن دينه حق، وأن عقيدته أقوم العقائد، وأصحها، ثم يتاح له أن يحمل السيف، ويفتح المدن، ويستولي على الحكم، ويجلس على منصة القضاء، ثم لا يحمله إيمانه بدينه، واعتزازه بعقيدته، علي أن يجور في الحكم، أو أن ينحرف عن سنن العدالة، أو يحمل الناس على اتباع دينه، إن رجلا مثل هذا لعجيب أن يكون في التاريخ، فكيف إذا وجد في التاريخ حضارة قامت على الدين، وشادت قواعدها علي مبادئه، ثم هي من أشد ما عرف التاريخ تسامحا، وعدالة، ورحمة، وإنسانية!
هذا ما صنعته حضارتنا، وحسبنا أن نعرف أن حضارتنا تنفرد في التاريخ بأن الذي أقامها دين واحد، ولكنها كانت للأديان جميعا.
بعض القيم التي تحكم المنجزات الحضارية:
النموذج السوي والحركة السوية لبُّ الحضارة الإسلامية: انظر إلى النموذج السوي في الحضارة الإسلامية، إنسان عامل بكل قواه في عالم الشهادة، ينشئ المدن، ويشق الطرق، ويجوب آفاق الأرض ليستكشف مجاهيلها، ويفلح الأرض، ويصنع الخامات، وينظم مرافق الحياة، ويتعلم كل ما يتاح له في وقته أن يتعلمه، ويجتهد لفتح أبواب جديدة من العلم، وهو في ذلك كله مؤمن بربه، مؤمن باليوم الآخر، ملتزم في حركته الوسعة بما أنزل الله، طامع في رضاه. أي نعمة توحد كيان الإنسان وتجمّعه، وتقيه من التمزق والحيرة والضياع؟!
إن هذا “الخليفة” الذي جعله الله في الأرض ليعمرها، مفطور على الحركة والنشاط بحكم النوازع التي أودعها الله في كيانه: "زُيّن للناسِ حبّ الشهواتِ من النساء والبنين والقناطيرِ المقنطرة من الذهبِ والفضّة والخيلِ المسوّمة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا". آل عمران 14.
ومفطور كذلك على التوجه إلى الخالق وعبادته: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربّكم؟ قالوا شهدنا". الأعراف 172.
"فأقم وجهكَ للدّين حنيفًا فطرت الله التي فطرَ الناس عليها". الروم 30.
وهو –بنزعتيه معًا– متوازن مترابط متناسق، لا يجنح مع قبضة الطين، ولا يجنح مع نفخة الروح. يتحرك بقبضة الطين ولكن بلا غلظ ولا عتامة مضيئاً بإشراقة الروح. وتلك هي الحركة السوية التي أنشأت الحضارة الإسلامية الفذة، وذلك تفردها بين الحضارات.
وعلى ذلك الجانب ينبغي أن نركز في حديثنا عن هذه الحضارة، ولا يستهوينا منهج الغرب في التركيز على النمائم والزخارف والمسكوكات وطرز العمار وطرز الملابس وأدوات الزينة. لا أقول نهملها، ولكن لا نركز عليها، لأنها ليست أثمن ما في “الحضارة”.
إن عقد الصلة بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، والحياة للدنيا والحياة للآخرة، وعقد الصلة بين الجسد والروح. بين الحسيات والمعنويات. بين النشاط العملي والقيم الأخلاقية، لهو أعظم ما يصل إليه الإنسان في الأرض. وعندئذ، وعندئذ فقط يكون “متحضر” بالمعنى الحقيقي للحضارة.
لذلك فإن هذا المعنى هو الذي يستحق التركيز عليه. وتأتي بقية الجوانب لتكمل الصورة. أو لتضع التفصيلات على الأطر القائمة لتنبض بالحياة.
إن أول ما يستوقفنا في “المدينة الإسلامية” –قبل مبانيها وطرزها المعمارية وشوارعها وضخامة حجمها وتنظيم مرافقها- أن مركزها الذي تتفرع عنه وتمتد هو المسجد الجامع. انظر إلى المدينة “المعاصرة” لترى الفرق، إن مركز المدينة الحديثة هو السوق أو هو الملاهي! وذلك يدلك على اتجاه اهتمامات الناس! أو على الوجهة التي يراد للناس أن يوجهوا اهتمامهم إليها!
بينما كان أهل المدينة الإسلامية يبدأون يومهم بالتوجه إلى الله، ثم ينتشرون في الأرض يقضون مصالحهم وهم على ذكر من ربهم الذي بدأوا يومهم بذكره، والذي يعودون إلى ذكره خمس مرات في اليوم والليلة، ولا ينسونه فيما بين ذلك.
وانظر إلى البيت الإسلامي، إنا أول ما يستوقفنا فيه -قبل طرازه المعماري، ونوع الحجر الذي بني فيه، ونوع الملاط الذي استخدم لربط أحجاره بعضها ببعض، ونوع الزخارف التي استخدمت لتجميله، ونوع الأثاث الذي وضع فيه– أنه بني بطريقة تسمح لأهل البيت من النساء أن يتحركن بحرية ويقضين مصالحهن المنزلية دون أن تقع عليهن عين الأجنبي الذي لا يجوز له شرعا أن يطلع على “الحرم المصون” في داخل البيت. وهو معنى ديني أخلاقي يفتقده “البيت الحديث” الذي تبرز فيه حجرة النوم أقصى ما يتاح لها من البروز، وتتكشف فيه ربة البيت أقصى ما يتاح لها من التكشف!
ثم انظر إلى “التنظيمات” الحضارية الإسلامية ودلالتها. إن “ديوان القضاء” إنجاز إسلامي أصيل، وأهم ما فيه حصانة القاضي وعدم تعرضه للعزل بسبب ما يصدر عنه من أحكام قد لا تكون على هوى صاحب السلطان!
و”ديوان الحسبة” إنجاز إسلامي أصيل، لتنفيذ الأمر الرباني -الذي جعل الله فيه خيرية هذه الأمة– وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاطمئنان إلى التزام الناس بالحلال والحرام: "كنتم خير أمة أخرجت للنّاسِ تأمرون بالمعروفِ وتنهونَ عن المنكر وتؤمنون بالله". آل عمران 110.
و”ديوان الأوقاف” دليل على ما كان في نفوس الناس من حب للخير، والإنفاق في سبيل الله.
ومجانية التعليم كانت سبقا حضاريا سبقت إليه الأمة الإسلامية كثيرا من أمم الأرض، وكذلك مجانية العلاج في “البيمارستانات” وكلها مظهر حضارية ذات دلالة واضحة، ونابعة من روح الإسلام.
ونظافة المجتمع الإسلامي من الجريمة –لا بمعنى عدم وقوعها فهذا لم يتوفر في أي مجتمع بشري في التاريخ- ولكن بمعنى ندرة حدوثها بحيث يحس الناس بالأمن والطمأنينة على أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم، ونظافة المجتمع من الخمر، ونظافة المجتمع من الفاحشة، وروح التواد والتراحم التي تجعل أهل الحيّ الواحد من المدينة كأنهم أسرة واحدة في أفراحهم وأحزانهم وهمومهم، ذلك هو لب الحضارة الإسلامية، الذي تفردت به بين “الحضارات”، والذي ينبغي للدارس أن يركز عليه، لا على أنه فقط جزء من تاريخ هذه الأمة، بل بوصفه رسالة حضارية، مارستها الأمة ذات يوم، ومن مهامها أن تعود إلى ممارستها مرة أخرى، وأن تدعو البشرية كلها –من خلال القدوة العملية والتطبيق العملي- إلى ممارستها من أجل الارتفاع “بالإنسان”.
أثر الحضارة الإسلامية في أوروبا:
إن أوروبا مدينة للمسلمين بتحررها من طغيان الكنيسة، ومدينة لهم بتحرير عقولهم من الخرافة والدجل، ولولا جهود المسلمين لظلت أوروبا ترزخ في الظلام حتى يومنا هذا كما يعترف بذلك كثير من المؤرخين للحضارة الإنسانية.
فالمسلمون في الأندلس قدموا منجزاتهم العلمية للمسيحيين، ولم يصدهم شنآن قومٍ ومحاربتهم للمسلمين من أن يبذلوا لهم العلم. بل فتحوا صدورهم ومعاهدهم لكل طالب علم أيًا كانت الجهة التي قدم منها، ووضعوا كشوفهم ومعطياتهم أمام الجميع. وكان للتسامح الذي تحلى به خلفاء المسلمين في الأندلس أثره في إقبال العلماء النصارى من أبعد الأقطار على تلقي العلوم من المدن الإسلامية آنذاك.
وبدأت حركة ترجمة معاكسة هذه المرة من العربية إلى اللاتينيّة، ورغم أنّ بدايات هذه الحركة تعود إلى القرن التاسع الميلاديّ، فإن العصر الذهبي لها كان القرن الثاني عشر الميلاديّ، ومن خلال مراكز العلم ومنارات المعرفة آنذاك في إسبانيا، وصقلّية، ونابلس نقلت كتب الفلسفة والطب وعلوم الرياضة والفلك وغيرها من العربية، ولعبت طليطلة دورًا هامًا في هذه الحركة العلمية، لا سيما بعد سقوطها في يد المسيحيّين عام 1085م، فنقلت علوم اليونان التي تناولها المسلمون بالدراسة والتمحيص وإضافة الجديد المبتكر إليها، كما نقلت إنجازات المسلمين العلمية في مجالات العلوم الطبيعية والكيماوية والفلكية والطبية، وأنشأت الجامعات الأوروبية التي عكفت على تدريس العلوم الإسلامية على أوسع نطاق، مثل جامعة بادوا وبولونيا، اللّتان أنشأتا في أخريات القرن الثاني عشر، وجامعة باريس التي أنشئت ما بين 1150-1170م، وجامعة أوكسفورد عام 1275م، ثم تلتها جامعة كامبردج في نفس القرن، وجامعات إسبانيا عام 1346م، وغيرها من الجامعات التي ألهبت حماس الشباب الأوروبيّ إلى الاغتراف من بحر المعرفة العربية في مجالي الفلسفة والعلم.
وفي هذه الأجواء العلمية ظهر أعلام النهضة الأوروبيّة، الذين قادوا الحركة العلمية من أمثال جاليليو، ودافنشي، وكوبرنيكس، ونيوتن، وبيكون. وغيرهم، مقتفين أثر العلماء المسلمين، من أمثال: ابن الهيثم، وابن سينا، والرازي، والخوارزمي، والبتّاني، وابن النفيس، وابن يونس، والبيروني، وغيرهم.
ويعترف مؤرخو النهضة الأوروبيّة بأنّ كثيرًا من الآراء التي توصل إليها علماء عصر النهضة سبق إليها علماء العرب، والواقع كما يقول كارجوري: إنّ وجود ابن الهيثم والخازن والبيروني وجابر وغيرهم، كان ضروريّا لظهور جاليليو وكوبرنيكس ونيوتن وغيرهم من علماء النهضة.
فالنهضة الأوروبيّة الحديثة لم تكن من عدم، ولم تنشأ من فراغ، كما أنها لم تكن امتدادًا مباشرًا لحضارة الإغريق والرومان، لأن النهضة الأوروبيّة بدأت في القرن الخامس عشر، بينما انهارت الحضارة الرومانيّة في القرن السابع الميلاديّ، وخلال هذه القرون الثمانية –التي توسطت بين النهضة ونهاية الحضارة الإغريقيّة- كانت أوروبا تعيش فيما يعرف بالعصور الوسطى أو عصور الظّلام.
في هذه الفترة الممتدة: كان يحمل مشعل الحضارة العالميّة والثقافة الإنسانية العلماء المسلمون، في المشرق الإسلاميّ ومغربه في الأندلس، كانت اللغة العربية هي اللغة العلمية العالمية.
إنّ الأوروبيّين لم يدرسوا كتب اليونان والأمم المتقدمة إلّا مترجمة إلى العربية أولًا، ولا تزال كثير من الكتب العلمية لكبار الأطباء والرياضيّين والكيميائيّين، والفلكيّين، والجغرافيّين، والنباتيّين، لا تزال مشاهدة، موجودة بنسخها الأصليّة، أو المترجمة إلى اليوم، في دور الكتب الغربيّة: في موسكو، وبطرسبرج، وبرلين، ولاهاي، وأوكسفورد، ولندن، وروما، وباريس، وقرطبة. وتحمل اللغات الأوروبيّة كثيرًا من المصطلحات العلمية العربية في مختلف مجالات المعارف، والعلوم.
فالتقدم العلمي التجريبي الذي حققته الحضارة الغربية الحديثة، لم يقم على ميراث "أوروبي غربي" بقدر ما قام على ميراث شرقي إسلامي. يقول المؤرخ الأوروبي أغناسيو أولاغويه في كتابه: "العرب لم يستعمروا إسبانيا": لقد ولد الغرب المعاصر من إسبانيا ألفونس العاشر. ومن صقلية فردريك الثاني –وهما المعجبان بالحضارة الإسلامية المتحمسان لها- تلك الحضارة التي كانت كأنها "قابلة"، أو "أمّ مُرضع" للحضارة الغربية.
ولكن أثر الحضارة الإسلامية يتجاوز المنجزات العلمية والاكتشافات التي أفادت منها أوروبا إلى أنها أهدت أوروبا المنهج العلمي، الذي قامت عليه الحضارة الأوروبيّة الحديثة، وكما يقول بريفولت: إنّ ما يدين به علمنا لعلم العرب، ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين هذا العلم إلى الثقافة العربية بأكثر من هذا. إنه يدين لها بوجوده نفسه.
فالعالم القديم –كما رأينا- لم يكن للعلم فيه وجود. فاليونان –كما يقول- نظموا المذاهب، وعمموا الأحكام، ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث –في دأبٍ وأناة، وجمع المعلومات الإيجابيّة، وتركيزها، والمناهج التفصيليّة للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبي- كل ذلك كان غريبًا تمامًا عن المزاج اليوناني، ولم يقارب البحث العلمي نشأته في العالم القديم، إلا في الإسكندرية في عهدها. أما ما ندعوه العلم، فقد ظهر في أوروبا، نتيجة لروح من البحث جديدة، وطرق من الاستقصاء مستحدثة، ولطرق التجربة والملاحظة والمقاييس، ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان وهذه الروح وتلك المناهج.
وظهر أثر الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي في ميادين عدّة، نشير إلى بعض منها فيما يلي:
1- في ميدان العقيدة والدين:
فقد كان لمبادئ الحضارة الإسلامية أثر كبير في حركات الإصلاح الدينية، التي قامت في أوروبا منذ القرن السابع، حتى عصر النهضة الحديثة إذ قام في القرن السابع من ينكر عبادة الصور، ثم قام من ينكر الوساطة بين الله وعباده، ويدعو إلى الاستقلال في فهم الكتب المقدسة. بل إن لوثر في حركته الإصلاحية كان متأثرًا بما قرأه للفلاسفة العرب، والعلماء المسلمين من آراء في الدين والعقيدة والوحي، ولا شكّ بأن ذلك كله كان نتيجة لعقيدة التوحيد التي عرفها الغرب عن طريق الصلة بينهم وبين المسلمين.
2- في ميدان الفلسفة والعلوم:
لقد أفاقت أوروبا على صوت علمائنا وفلاسفتنا، يٌدرّسون علوم الطب والرياضيات والكيمياء والجغرافيا والفلك في مساجد إشبيليّة وقرطبة وغرناطة وغيرها، وكان رواد الغربيّين الأُوَل إلى مدارسنا شديدي الأعجابِ، والشّغفِ بكل ما يستمعون إليه من هذه العلوم. ومن ثم ابتدأت عند الغربيّين حركة الترجمة من العربيّة إلى اللّاتينيّة، وغدت كتب علمائنا تدرّس في الجامعات الغربيّة.
يقول لويس يونغ: "لقد تركت حضارة العرب والمسلمين بصمتها على جميع المستويات ابتداءً ببعضِ العادات الشعبيّة، وانتهاءً بالعلوم، حيث يستخدم ملاحو الفضاء اصطلاحاتٍ عربية مثل السّمت Azimuth وسمت الرأس Zenith وهناك في خرائط القمر أكثر من موقع أطلق عليه أسماء لبعض العرب: كالزركلي، والبتاني، وأبي الفداء. إن أشياءً كثيرة لا يزال على الغرب أن يتعلمها من الحضارة الإسلاميّة".
ويقول جوستاف لوبون: "ظلت ترجمات كتب العرب ولا سيما الكتب العلمية المصدر الوحيد تقريبًا للتدريسِ في جامعات أوروبا خمسة قرون، أو ستة قرون".
3- في ميدان اللغة والأدب:
لقد تأثر الغربيون وبخاصة شعراء الإسبان بالأدب العربي تأثرًا كبيرًا، فقد دخل أدب الفروسية والحماسة والمجاز والخيال الراقي البديع إلى الآداب الغربية عن طريق الأدب العربي في الأندلس على الخصوص. يقول الكاتب الإسباني الفارو: "إن أرباب الفطنة والتذوق سحرهم رنين الأدب العربي، فاحتقروا اللّاتينيّة، وجعلوا يكتبون بلغة قاهريهم دون غيرها". وساء ذلك معاصرًا كان على نصيب من النخوة الوطنية أوفى من نصيب معاصريه فأسف لذلك وكتب يقول: "إنّ إخواني المسيحيّين يعجبون بشعرِ العرب وأقاصيصهم ويدرسون التصانيف التي كتبها الفلاسفة والفقهاء المسلمون، ولا يفعلون ذلك لإدحاضها والردّ عليها، بل لاقتباس الأسلوب العربي الفصيح. إن الجيل الناشئ من المسيحيّين الأذكياء لا يحسنون أدبًا أو لغة غير الأدب العربي واللغة العربية، وإنهم ليلتهمون كتب العرب ويجمعون منها المكتبات الكبيرة بأغلى الأثمان، ويترنمون في كل مكان بالثناء على الذخائر العربيّة".
ويقول "سارتون": "حقق المسلمون –عباقرة الشرق- أعظم المآثرِ في القرون الوسطى فكتبت أعظم المؤلفات قيمة وأكثرها أصالة وأغزرها مادة باللغة العربية، وكانت من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى لقد كان ينبغي لأي كان إذا أراد أن يلم بثقافة عصره وبأحدث صورها أن يتعلم اللّغة العربيّة، وقد كان لكتاب "ألف ليلة وليلة" أثر كبير في الآداب الغربية كما ظهر ذلك في كتاب "الصباحات العشرة لبوكا شيو" ومنها اقتبس "شكسبير" موضوع مسرحيّته "العبرة بالخواتيم". كما كان لـ "رسالة الغفران" للمعرّي أثر في ما كتبه "دانتي" في "القصة الإلهيّة". ومن الآثار تلك الكلمات العربية التي دخلت اللغات الأوروبيّة على اختلافها، ومن ثم يقول الأستاذ "ماكييل": "كانت أوروبا مدينةً بأدبها الروائي إلى بلاد العرب".
4- في ميدان التشريع:
كان لاتصال الطلاب الغربيّين بالمدارس الإسلاميّة في الأندلس وغيرها أثر كبير في نقل مجموعة من الأحكام الفقهيّة والتشريعية إلى لغاتهم، وكان قدوم نابليون إلى مصر فرصة لترجمة أشهر كتب الفقه المالكي إلى اللغة الفرنسية، ومن أوائل هذه الكتب الذي كان نواة القانون المدني الفرنسي، وعهدت الحكومة الفرنسية إلى الدكتور "بيرون" ترجمته هو كتاب "المختصر في الفقه" للخليل بن إسحاق بن يعقوب، المتوفى سنة 776ه-1422م.
5- في مفهوم الدولة والفكر السياسي:
كان لما أعلنته الحضارة الإسلامية من مبادئ تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم أثر بالغ في الشعوب المجاورة للمجتمع الإسلامي، حيث جاء الغربيون إلى بلاد الشّام في الحروب الصليبيّة، ورأوا من قبل في ممالك الخلافة الإسلاميّة الأندلسيّة أن الشعوب تراقب حكامها وتناصحها، ولا تخضع لإشراف أحد غير شعبها، فأثّر كل ذلك في سلوك الشعوب الأوروبيّة تجاه حكّامها. وكانت الثورة الفرنسيّة بعد ذلك، فلم تعلن من المبادئ أكثر ممّا أعلنته حضارتنا قبل اثني عشر قرنًا.
وكان مما أعلنته حضارتنا في حروبها: "احترام العهود، وصيانة العقائد، وترك المعابد لأهلها، وضمان حريات الناس وكرامتهم، فأثارت في الشعوب المغلوبة لحكامها روح العزة والكرامة، ونبهت فيهم معاني الإنسانيّة الكريمة العزيزة".
بين الحضارة الإسلاميّة والحضارة الغربيّة:
يرى العلامة سعيد النورسي أن الحضارة الغربية قامت على أربعِ أسسٍ سلبيّة:
1- نقطة استنادها هي القوّة، والقوة شأنها الاعتداء.
2- هدفها وقصدها هو المنفعة، والمنفعة شأنها التّزاحم.
3- دستورها في الحياة إنما هو الجدال والصّراع، وهذا شأنه التنازع.
4- الرابطة التي تربط المجموعات البشرية –في الحضارة الغربيّة- إنما هي العنصرية والقومية والسلبية، التي تنمو على حساب الآخرين. وهذه شأنها التصادم –كما نراه- وتطمين رغباتها وتسهيل مطالبها، وهذا الهوى شأنه إسقاط الإنسان من درجة الملائكية إلى دَرَك الحيوانية. وبهذا تكون سببًا لمسخ الإنسان معنويًّا.
ولأجل هذا فقد دفعت هذه المدينة الحاضرة ثمانين بالمئة من البشريّة إلى أحضان الشقاء، وأخرجت عشرة بالمئة منها إلى سعادة مموهة زائفة، وظلت العشرة الباقية بين هؤلاء وأولئك. علمًا أن السعادة تكون سعادة عندما تصبح عامة كاملة للكل أو للأكثريّة، بيد أن سعادة هذه المدينة لأقل القليل من الناس.
ثم إنه بتحكم الهوى الطليق من عقاله، تحولت الحاجات غير الضروريّة، إلى ما يشبه الضروريّة، فبينما كان الإنسان محتاجًا إلى أربعة أشياء في حالة البداوة، إذ به –في هذه المدينة- يحتاج إلى مئة حاجة، وهكذا أردته المدينة فقيرًا مدقعًا.
ثم لأن السعي والعمل لا يكفيان لمواجهة المصاريف المتزايدة، انساق الإنسان إلى مزاولة الخداع والحيلة وأكل الحرام، وهكذا فسد أساس الأخلاق. وبينما تعطي هذه المدينة –للجماعة والنوع- ثروة وغنى وبهرجة، إذا بها تجعل الفرد فقيرًا محتاجًا، فاسدَ الأخلاق.
أمّا الحضارة الإسلامية فهي تقوم على خمسِ أسسٍ إيجابيّة، وهي:
1- نقطة استنادها هي الحقّ بدلًا من القوة. والحق من شأنه العدالة والتوازن.
2- هدفها الفضيلة بدل المنفعة. والفضيلة من شأنها المحبة والتجاذب.
3- وجهة الوحدة فيها والرابطة التي تربط بها المجموعات البشريّة، هي الرابطة الدينيّة والوطنيّة والمهنيّة بدلًا من العنصرية. وهذه شأنها: الأخوة الخالصة والسلام والوئام والذّود عن البلاد عند اعتداء الأجانب.
4- دستورها في الحياة التعاون بدل الصراع والجدال، والتعاون من شأنه التساند والاتحاد.
5- تضع الهدى بدل الهوى، ليكون حاكمًا على الخدمات التي تقدم للبشر. وشأن الهدى رفع الإنسانيّة إلى مراقي الكمالات، فهي إذ تحُدُّ الهوى وتحُدُّ من النّزعات النفسانيّة تطمئن الرّوح وتسوقها إلى المعالي.
حضارة الإسلام والمستقبل:
من خلال ما تقدم: ظهرت مميزات الحضارة الإسلاميّة عن غيرها من الحضارات، ويرجع ذلك إلى القيم العظيمة التي قامت عليها الحضارة الإسلامية، ذلك أن هذه القيم مستوحاة من الوحي الإلهيّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ومن ثمّ فهي قيم خالدة يمكن لها أن تعيد بناء الحضارة –في أي زمان ومكان- إذا ما توافرت لها الشروط المناسبة.
غير أن هذه القيم لا تعمل تلقائيًا، وإنما تعمل من خلال جهدٍ بشريّ يقوم به المؤمنون بهذه القيم ويعملون على تمثّلها في أنفسهم وسلوكهم. وبمقدار نجاحهم في هذا الجانب يكونون قد قطعوا خطوات في الطريق الطويل الذي لا بد فيه من التضحية والعناء والكد والعمل المتواصل –على كل الجبهات وفي جميع ميادين الحياة- وبذلك تكون الأمة قد وضعت نفسها على الجادة في سبيل إقلاعٍ حضاريّ جديد.
إنّ الأمة بحاجة ماسّة إلى مجموعة من الشروط، لا بد من توفرها كي تساعدها في نهضتها الحضاريّة المرتقبة:
1- لا بدّ لهذه الأمّة: من أن تفرز طليعة –من علمائها وأهل الرأي والحكمة فيها- تأخذ على عاتقها ترشيد صحوتها وتحديد مسارها –بقوة وصدق وعزم وحزم- وقد طلب الله إلى الأمة المسلمة أن تعمل على ذلك دائمًا، وفي كل الظروف. كما قال الله تعالى: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخيرِ، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون". آل عمران 104.
2- لا بدّ لهذه الأمّة: من أن تطرح جانبًا ما رانَ على قيمها ومفهوماتها الإسلاميّة من تصوراتٍ خاطئة وتقاليد بالية كانت سببًا في ركودها وانحطاطها. وبذلك تعيد لهذه القيم: فاعليتها، وتأثيرها، ووهجها، وإشعاعها.
3- لا بدّ لهذه الأمّة: من أن تعتمد -في نهضتها- على كتابها الخالد، فهو الذي ينير لها الطريق، ويهديها للتي هي أقوم، ولا بدّ لها من أن تأخذه بقوّة، وأن تستلهمهُ في كلّ حاجاتها، وألّا تركن إلى غيره من الطروحات والأفكارِ التي تبغي الانحراف والاعوجاج، عملًا بقوله تعالى: "وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه، ولا تتّبعوا السُبلَ فتفرّق بكم عن سبيلهِ، ذلكم وصّاكم بهِ، لعلّكم تتّقون". الأنعام 153.
4- لا بدّ لهذه الأمّة: من أن تعرف واقعها، وما يحيط به، معرفةً تفصيليّة، فتتعرّف على نشأتهِ وتطوّره، وعلى العوامل المكونة له، وعلى مواطن الضعفِ والقوة فيه، لأنها لا تستطيع أن تتجاهله –وهي تعيش فيه وتتأثر به سلبًا وإيجابًا-. فمعرفة هذا الواقع: تساعدها كثيرًا في تجنب الأخطاء الكثيرة التي يقع فيها من يتعامل مع هذا الواقع، بغير فهمٍ له، ووعي وإدراكٍ لما يجري خلاله.
5- لا بدّ لهذه الأمّة: من أن تعرف أن العمل المجدي لاستئنافِ الحضارة الإسلاميّة ينبغي أن يتوافقَ مع السننِ الإلهيّة، التي جعلها الله سببًا للنّجاحِ في هذه الحياة. وأنّ العمل خارجَ دائرة السّنن لا يمكن أن يُكتب له النّجاح: "سنّة الله التي قد خلت من قبلُ، ولن تجد لسنّة الله تبديلًا". الفتح 23.
6- لا بدّ لهذه الأمّة: من أن تسير نحو غايتها بخطىً ثابتة، وببرامج محدّدة، واثقة من نصر الله الذي تكفّل بنصر عبادهِ وجندهِ، مستبشرةً بما وعدها الله من التمكين في الأرض. حيث قال: "وعدَ الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرضِ كما استخلفَ الذين من قبلهم، وليُمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليُبدّلنّهم من بعدِ خوفهم أمنًا، يعبدونني لا يشركون بي شيئًا". النور 55.
"والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون". يوسف 21.
مراجع مقترحة:
1- الإسلام والحضارة ودور الشباب المسلم - الندوة العالمية للشباب الإسلامي – الرياض - 1981م - جزآن.
2- منهج الحضارة الإنسانية في القرآن – محمد سعيد رمضان البوطي – دار الفكر – دمشق – 1982م.
3- إنسانيّة الإنسان – رينيه دوبو "Dubos Rene" – ترجمة: نبيل صبحي الطويل – دار القلم – دمشق – 1992م.
4- مشكلات الحضارة – مجموعة كتب مالك بن نبي – دار الفكر – دمشق.
5- أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الخلق – أحمد محمد كنعان – سلسلة كتب الأمة – رقم 26 – قطر.
6- روح الحضارة الإسلاميّة – المعهد العالمي للفكر الإسلامي – فرجينيا – الولايات المتحدة – 1992م.
7- الحضارة الإسلامية – المودودي – دار الخلاق – القاهرة.
8- الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري – محمد عمارة – دار الشروق – بيروت – 1991م.
9- الإسلام والحضارة الغربية – محمد محمد حسين – دار الإرشاد – بيروت – 1969م.
10- نحن والحضارة الغربيّة – المودودي – مؤسسة الرسالة – بيروت.
11- الشهود الحضاري للأمة الإسلامية – عبد المجيد النجار – ثلاثة أجزاء – دار الغرب الإسلامي – 1999م – وتشمل: فقه التحضر الإسلامي، عوامل الشهود الحضاري، مشاريع الإشهاد الحضاري.
12- المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري – محسن عبد الحميد – كتاب الأمة – الدوحة – 1404ه.
13- من أجل انطلاقة حضارية شاملة – عبد الكريم بكار – دار القلم – دمشق – 1999م.
14- نحو ثقافة إسلاميّة أصيلة – عمر سليمان الأشقر – الكويت – مكتبة الفلاح – 1985م.
15- معالم الثقافة الإسلامية – عبد الكريم عثمان – الرياض – مؤسسة الأنوار – 1978م.
16- لمحات في الثقافة الإسلامية – عمر عودة الخطيب – طبعة ثالثة - مؤسسة الرسالة.
وسوم: العدد 784