الدفع قبل الرفع .. قاعدة ذهبية لكل مائدة غنية
من الذكريات التي تعلق في ذهن الإنسان وهو يسافر على خطوط جوية، نوعية الطعام وطيبته وطريقة تقديمه وتعامل المضيفين مع الراكبين، فإذا كانت المائدة لذيذة ومتنوعة ومتناسقة والبشاشة تعلو محيا المضيفين، فإن هذه الخاصية تكون كفيلة بأن تدعوه مرة أخرى للحجز على الخطوط نفسها ويشجع من حوله على ذلك، وهكذا إذا سافر الى بلد آخر، فإن مائدة الطعام وما يقدم في المطاعم هو الشيء الذي يبقى عالقا في ذهن المسافر.
وكلنا يدرك أن من عوامل نجاح أي مطعم او فشله هو نوع الطعام وشكل المائدة وكيفية تقديمها، وليس المعيار في رخص المطعم أو كثرة الأضواء العاكسة، ولكن العبرة في حسن العرض والتقديم وسلامة المظاهر الخارجية من نظافة المطعم والعامل والطباخ والمدير وبشاشة العاملين وبخاصة الذين يباشرون التقديم، فهذه من الأمور الحساسة ذات الجاذبية في قلب الزبون، تجعله يتناول الطعام وهو في إنشراح تام، ويمني النفس بعودة أخرى في أقرب فرصة، وقد يصبح ماكنة إعلامية لهذا المطعم من حيث لا يشعر يشجع أصدقاءه وخلانه وأحبابه على زيارته والتذوق من مائدته، وبعض المطاعم تدرك أهمية التقديم والعرض فراحت تحرص على تشغيل الجنس اللطيف زيادة في اكتساب الزبائن.
وهكذا إذا قام شخص بزيارة لذي رحم أو صديق، فإن المائدة هي في مقدمة المعايير لبيان قوة نسيج العلاقة وضعفها، وفيما مضى كانت الأم التي تخطب لابنها تختار له من تحسن مائدة الطعام والشراب إلى جانب الصفات والمزايا الأخرى النفسانية والجسمانية، وكانت أم البنت تحرص على تعليم ابنتها قبل الزواج قواعد وحسن تنظيم المائدة وتقديمها وتزيينها وكيفية عمل الشاي أو تقديم القهوة، لأنّ الأم هي الأخرى مرّت بهذه التجربة وتدرك أن حسن الطبخ وتهيئة المائدة عامل جذب لزوج المستقبل ومحل رضا العمّة (أم الزوج)، وهو تطبيق للمثل الشائع (أقرب الطرق الى قلب الرجل وجيبه معدته)، على أن هذه الميزة في كثير من البلدان أصابها الخرم، ولم تعد ذات قيمة ولاسيما في المدينة التي أصابها ما أصاب البلدان من سيئات الحداثة، بالطبع لا نتحدث عن الجانب الشرعي، لأن الزوجة ليس من واجبها الطبخ ولها أن تأخذ الأجر عليه لولا حسن التبعل والتسامح من الطرفين، وإنما الحديث عن واقع التغيير الثقافي الذي شهدته المدينة بحلول الآثار السلبية للمدنية.
وكما هي المائدة عامل جذب للسائح والمسافر والزوج، فهي عامل دفع، وربما مجلبة للأمراض، ولاسيما أمراض المدنية الحديثة من سمنة وترهل وتفضيل مائدة السوق السريعة الغنية بالدهون المستعصية والكيمياويات المضرة على مائدة البيت الهنية الخلية من الدهون القاتلة والغنية بالفيتامينات، ولعل أول من يتضرر من تغيير ثقافة المائدة هم الأطفال الذي يصابون في تغذيتهم بمقتل، وأولها السمنة المفرطة التي تعتبر داء المدنية الحديثة.
مائدة تسر الناظرين
وإذا كانت المدنية الحالية وضعت مجموعة إرشادات للمائدة وتناول الطعام تقوم مدارس الغرب والشرق تعليمها منذ الطفولة، فإن الإسلام قاد الناس إلى مجموعة إرشادات في التعامل مع المائدة وحذّر من بعض العادات قبل أن يكتشف العلم الحديث أضرار ما حذّر منه الإسلام على الصحة البدنية والنفسية، ولما كانت تعاليم الإسلام في أوامره ونواهيه منسجة تماما مع الفطرة الإنسانية السليمة، فهو لم يدع صغيرة في حياة الإنسان ولا كبيرة إلا وأنار له السبيل، ومن هذا الباب دخل الفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي باحة التشريعات ليقدم في سلسة "الشريعة" ما ينفع الناس كل الناس، وحديثا (2018م) صدر عن بيت العلم للنابهين في بيروت كتيب "شريعة المائدة" فيه (116) مسألة فقهية بضميمة (36) تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، ليكون هذا الكتيب هو الرقم (62) مما صدر حتى الآن من مجموع نحو ألف كراسة تم تنضيد أكثر من (700) منها وهي تنتظر الطباعة تباعا حسب طلِّ سحاب المتبرعين وصبّهم.
ولا يخفى ما للمائدة من أهمية في حياة الإنسان فهي ملازمة له كتلازم الهواء، وقد أفرد لها الله تبارك وتعالى سورة كاملة سمّاها (المائدة) أودع فيها الكثير من موارد الحلال والحرام، كما جاءت التسمية في السورة مرتين وهي تتحدث عن النبي عيسى وحواره مع أنصاره الحواريين، بل إنَّ الإهتمام بالمائدة وما تحتويها من مواد مطبوخة أو نيّة طازجة، من معالم إنسانية الإنسان الذي سخر الله له كل شيء لراحته، وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهيد: (من فوارق الإنسان مع سائر مخلوقات الله التي تتناول الطعام أنه يمتاز بحبّه الجلوس عند تناوله الطعام والإعتناء بطعامه وتلونه، بينما الحيوانات تأكل ما وجدت أينما كانت)، وعلاوة على ذلك فإن من علامات طيبة المائدة هو قدرة الإنسان على تنويعها والإستفادة من مادة غذائية أو ثمرة بعينها في طبخ العشرات بل المئات من الأكلات المختلفة مثل الباذنجان، ولذلك تختلف على سبيل المثال المائدة الإسبانية عن المائدة الإيطالية، والصينية عن التايلاندية، والعراقية عن الإيرانية، والتركية عن السورية، بل تختلف المائدة داخل البلد الواحد بين مدينة وأخرى رغم الإشتراك بالثمار أو الخضار نفسها، لكن موهبة الإنسان وابداعه تصيران الموائد مختلفة، ولا يمكن حساب عدد الأكلات على مستوى العالم، فهي بالآلاف، وكلما رجعنا بالزمان الى الخلف لوجدنا تقلص عدد الأكلات، أي أن تطور المائدة من تطور الإنسان وحسن ذوقه، ورغم ما نعرفه عن الشيخ الكرباسي من باعه الواسع في الفقه والتحقيق وموسوعته الكبرى (دائرة المعارف الحسينية) في نحو تسعمائة مجلد، لكنه في الوقت نفسه صاحب ذوق رفيق، وبتعبيره كما ورد في التمهيد وهو في معرض الحديث عن قدرة الإنسان في التنويع متحدثا عن ذكرياته أيام كان يسكن الشام: (هذا وقد تمكّنا من وضع لائحة طعام لمدة سنة كاملة لثلاث وجبات يومية: الفطور والغذاء والعشاء دون أن تتكرر واحدة منها، نعم قد تتكرر العناصر وتختلف التركيبات).
المائدة .. داء ودواء
من طبيعة الحياة أن يكون لكل حقل حزمة آداب وسنن يمشي على هداها المجتمع، وهي تدخل في إطار النظم والتنظيم وسلامة المجتمع والبيئة، وللمائدة آدابها، ولتناول الطعام سننه، ولذبح لحوم المائدة البيض والحمر آدابها، فمن المدنية والتحضر والصحة العامة أن يتم الذبح في مسالخ ومجازر خاصة وليس في الشوارع العامة وأمام أنظار الكبار والصغار، الذي فيه إلى جانب المضار الصحية إفساد للذائقة البصرية وخدش للشفافية الروحية، وإشاعة غير مقصودة للعنف، لأن الطفل الذي يسمح له أن يشاهد منظر ذبح الدجاجة أو الخروف أو البقرة أو نحر البعير، سيكبر وفي ذاكرته عملية الذبح والنحر التي لها أن تؤثر على سلوكه الظاهري بفعل المخزون الباطني، ناهيك عن النجاسة ونشر الأوبئة.
فسنن المائدة وآدابها في واقعها مجسات للإنسان للتعامل الحسن مع المائدة وما يدخل في جوفه، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (وبما أن الإسلام دين يسر ونظام ومصالح، فقد نبذ العسر والفوضى والمفاسد، وقد خلق الله لهذا الإنسان –الذي كرّمه في وجوه متعددة- أصناف الأغذية والأشربة بألوان زاهية تسرّ العينين وتهوى إليها النفوس، وبما أنه حريص على صحته فقد استثنى منها ما يضره، ونسبة هذه المستثنيات إلى المباحات قليلة جدًا، لأنَّ كل شيء مباح للإنسان إلا ما استُثني، وبما أنه دين نظام فقد وضع له جدولا يبيّن فيه بعض الآداب والتعاليم ومنهجًا غذائيًا يبعده عما يضره ويحثه على ما ينفعه، فسُمِّي هذا المنهج بـ"آداب المائدة"، أكثرها يعد من المسنونات).
ومن شواهد التاريخ أن الأمراض في العهد الإسلامي الأول انخفضت بشكل واضح، ويعزى ذلك إلى تقيد المسلمين بسنن المائدة وآدابها، حتى إن الطبيب الذي أرسله المقوقس سلطان مصر هدية الى الرسول محمد (ص) تم الاستغناء عنه، وذلك وحسب ما جاء في السيرة الحلبية: 3/299 لعلي بن برهان الدين الحلبي المتوفى سنة 841هـ (1438م) (وقد قال بعضهم إن المقوقس أرسل مع الهدية –الحمار يعفور- طبيبا فقال له النبي (ص) ارجع إلى أهلك نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع)، وفي كتاب طب النبي: 3 كما أشار المحقق الكرباسي في التمهيد: (فبقي الطبيب برهة لم يراجعه احد في فنه، فسأل النبي(ص) عن سر ذلك، فقال صلى الله عليه وآله: "نحن قوم ..").
وما من سُنّة أو خلّة أشار لها المعصوم، وبخاصة فيما تتعلق ببدن الإنسان ونفسيته إلا ولها جذر طبي، إن أحسن الإنسان التعامل معها أبعد نفسه عن دائرة الداء والنصب وإن أساء قرَّب إلى صدره أثقال المرض والتعب واحتاج إلى الدواء، ودفع البلاء أولى من رفعه إذا وقع، وبتعبير الكرباسي: (ذهب بعض الأصوليين في قواعد الفقه إلى أن الدفع أولى من الرفع بل إنَّ مرحلة الدفع مقدّمة على مرحلة الرفع فلسفيا، لأنك إذا تجنَّبت عما هو مضر لك تخلصت من آثاره التي ستلاحقك إن أنت قُمت به وتناولت ما هو ضار لك لتصل النوبة إلى القيام برفع تلك الآثار الضارة، ومن هنا جاء في المثل: "درهم وقاية خير من قنطار علاج")، ولهذا مثلًا: (يكره الأكل إلى حد الإمتلاء، وإذا وصل حدّ الضرر البالغ حَرُم)، لأن كل مباح إذا زاد ضرره انقلب حراما، وهي قاعدة عامة لها تطبيقاتها في كل مناحي الحياة، ولهذا يؤكد الفقيه الكرباسي: (يجب على الإنسان الأكل والشرب بمقدار الحاجة ولا يجوز الإمتناع عنهما إذا كان الإمتناع ضارًّا بحاله)، ومن هذه المسألة ينطلق الفقيه الغديري في تعليقته ليشير على حرمة الإضراب عن الطعام المميت: (وأما الذي يشاهد في المظاهرات والإحتجاجات السياسية أو الحقوقية أو الإجتماعية من الإمتناع عن الأكل والشرب فلا يجوز ذلك إذا كان يسبب الهلاك أو الضرر البالغ الخارج عن الطاقة، ويكفي فيه مجرد احتماله).
المائدة .. مرآة الكينونة
هناك مواضع ومواقع فيها يظهر معدن الإنسان وكينونته وما في داخله من سجايا وخصال حسنها وسيئها، ومنها مائدة الطعام، ولهذا لكل مجتمع أعرافه في التعامل مع المائدة والجالسين عليها، وتمثل المائدة مرآة لطباعه وأخلاقه، وقد جاء الإسلام ليؤكد على المظاهر الإيجابية ويعزز منها ويدفع بالمظاهر السلبية بعيدا وذلك من باب التكاملية في الآداب والسنن مصداقًا لقول الرسول(ص): "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ولعل من أهم مظاهر المائدة التي يزيد فيها الباري من فضله ويسبغ عليها من نعمه وآلائه، هو التواضع فيها، ولذا: (يحرم الأكل في أواني الذهب والفضة)، أما: (الأواني المرصَّعة بالأحجار الكريمة لا إشكال من تناول الأكل فيها)، ومن التواضع عدم التفاخر بها وإن كانت مباحة، وبتعبير الفقيه الغديري في تعليقته: (إلا إذا كان جانب التفاخر يغلب ويُقصد لأجل إهانة الآخرين فيكره ذلك كراهة شديدة لو لم نقل بحرمته، ويمكن القول بالحُرمة بالحكم الثانوي).
ومن التواضع واحترام المائدة اختيار الجلسة المناسبة، ولذا: (يكره الأكل متكئا أو منبطحًا)، وحتى في هذه المسألة فإن صحة الإنسان مأخوذة في الحسبان ليس فقط المائدة ذاتها، وقد ثبت مما لا شك فيه أن الأكل في وضعيات غير مناسبة من غير عذر بدني تسبب أضرارا في الجهاز الهضمي وغيره من أجهزة البدن، وأما اتخاذ مثل هذه الجلسات على الطعام بوجود آخرين فهو يعبر عن قلة ذوق وعدم احترام.
ومن التواضع للمائدة: (يكره عزل مائدة العبيد والخدم عن مائدة صاحب البيت والمولى)، بل و:(يستحب أن يأكل الإنسان أكلة العبيد ويجلس معهم على الأرض)، وبالطبع كما يعلق الغديري: (ليس للأرض موضوعية وهي كمثال، والمقصود كونه معهم في مكان واحد)، كأن يكونا في مطعم ذي طاولة وكراسي، ومن سيرة أهل البيت(ع) أنهم كانوا أسوة في احترام المائدة، وقد ورد عن نادر خادم الإمام علي بن موسى الرضا(ع) كما في كتاب المحاسن: 624، للبرقي المتوفى سنة 274هـ: (كان أبو الحسن الرضا عليه السلام يضع جوزينجة –حلوى من جوز- على الأخرى ويناولني).
يجوز وما لا يجوز
تدور حياة الفرد اليومية بين الواجب والمستحب والحرام والمكروه وما بينهما المباح، وفي المائدة مستحبات ومكروهات توزعت في هذا الكراس على مسائل كثيرة، ومن ذلك: (يستحب إطعام وسقي المساكين والفقراء)، ويزيد الفقيه الغديري في تعليقته: (من دون فرق بين أصحاب الديانات وغيرهم أي من حيث القوم واللغة والبلد واللون وغيرها من الملاكات الجعلية غير الواقعية حيث الإنسانية يجمعها).
ومن الناحية الصحية: (يستحب غسل اليدين قبل الطعام، والأفضل أن لا يمسحهما بمنديل)، كما: (يستحب غسل اليدين بعد الطعام، والأفضل أن يمسحهما بمنديل)، ومن الصحة: (يستحب أن تصغّر اللُّقَم .. وألا يسرع في الأكل .. وإطالة الجلوس على المائدة .. ومضغ الطعام جيدا) وبالنسبة للشراب: (يستحب شرب الماء في النهار واقفًا وفي الليل جالسًا).
ومن أداب الوليمة بحضور الضيوف: (يستحب أن يبدأ صاحب الطعام أولا وينتهي من الطعام بعد الحاضرين)، وهو بذلك يكسر حاجز الخجل لدى الضيف بدءًا ويتيح له أن يأكل ما يشاء وفي أقصى مدة انتهاءً، وبالطبع للضيف كرامة، بخاصة إذا كان صاحب مقام علمي أو اجتماعي، ولهذا يعلق الغديري قائلا: (إلا إذا كان هناك شخص محترم تقتضي مكانته أن يقدمه صاحب الطعام للبدء في الأكل) والمسألة عرفية خاضعة لآداب الطعام في كل مجتمع.
ومن مكروهات المائدة: (الأكل على الشبع)، كما: (يكره الأكل في حال المشي) وفي بعض الأحيان تتحول الكراهية الى حرمة كما يضيف الشيخ الغديري في تعليقته: (وقد يحرم بلحاظ مكانة الشخص في المجتمع كالمرجع –الفقيه- ونحوه، وذلك يوجب الوهن له، وقد يسبب تشجيع مُقلِّديه على ذلك).
وعند اجتماع الخلان أو الضيوف على مائدة واحدة: (يكره النظر في وجوه الآخرين عند الأكل)، ولابد من احترام صاحب الدار: (إذا كانت الدعوة لها شروط لا بدّ وأن يلتزم بالشروط وإلا ردّها)، ومن الشروط: (إذا دُعي أحد إلى مائدة لا يجوز له أن يصحب غيره معه إلا إذا علم برضى صاحب المائدة)، ومن الشروط: (إذا وجّهت دعوة وذُكر فيها بعدم اصطحاب الأطفال، لا يجوز اصطحابهم).
وهناك مسائل كثيرة احتواها كراس "شريعة المائدة"، ولكن العبرة في العمل بهداها، وإلا فإن أكثر أمراضنا ناتجة من التهاون بآداب المائدة وسننها.
الرأي الآخر للدراسات- لندن
وسوم: العدد 798