ميلان كفة الردع يؤسس لنوع حاد من الأسر
في كل مجتمع أو أمّة، هناك حكام وقادة وولاة أمر عقلاء يُشار إليهم بالبنان، ينحون باتجاه صالح المجتمع، يريدون خيره وفلاحه، فيعملون على تأمين حدوده بإقامة علاقات موزونة وطيبة مع دول الجوار، في المقابل هناك متهورون ومتعطشون لكل ما يخالف الطبيعة البشرية يسعون إلى توريط البلد مع الجيران وإشعال الميدان بالحروب لمطامح شخصية أو مطامع وأجندات أجنبية.
فالفريق الأول يعمل بميزان العقل ومصلحة الأمَّة، والثاني يعمل تحت نار الرغبة الجامحة في إشباع الغرائز بعيدًا عن حياة المجتمع وممتلكاته، ويشترك العقلاء مع طلاب الحروب في الرغبة في تسليح البلد، لكن العقلاء يبغون من ذلك تحصين المجتمع وتقوية ثغوره من باب خلق الجهوزية العسكرية لردع أي اعتداء خارجي أو التفكير بالإعتداء، عملا بوصية السماء: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) سورة الأنفال: 60، في حين يعمل طلاب الشهرة والحروب على خلق الجهوزية لدى صنوف العسكر تحيّنا للفرص وشن الحروب، وبالطبع لا يعدم هؤلاء الحيلة في استخدام وسائل الإعلام والضحك على الذقون وإيهام الشعب بأن الحرب هي من صالحه.
وحين يعلو صوت الرغبة والعدوان يخرس صوت العقل ذاتيا، وإن سُمع صوت هنا أو هناك تم ردعه بالنار والحديد تحت مقصلة الخيانة العظمى، ولا يدرك طلاب الدنيا خطورة الحروب على الواقع والمجتمع، وأول ضحايا الحرب هم الجنود الذين يقعون في شباك الأسر، وقد دلّت تجارب الحروب السابقة والحالية، أن الجنود الذين يقاتلون دون رسالة أو هدف، يتحينون الفرص للإنتقال الى الجبهة الثانية من الحرب وتسليم أنفسهم للنجاة بأرواحهم، وهذا ما شاهدناه بأمِّ أعيننا أثناء الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثمان سنوات (1980- 1988م)، وأثناء حرب إخراج القوات العراقية من الكويت سنة 1991م، وأثناء الحرب الأمريكية على العراق عام 2003م، فحكم حزب البعث في بغداد الذي عول على حربه مع إيران في إسقاط تجربة الثورة الإسلامية، أدرك فشله في كل معركة كبرى تنتهي الى عشرات الآلاف من القتلى والأسرى، وأدرك التجربة نفسها مع الكويت والتجربة ذاتها مع أمريكا رغم أنه كان يظن أن القوات الأميركية ستقف على أسوار بغداد لأكثر من ستة أشهر وعندها تنهار قواه وتخور، ولكن الذي شاهده العالم كله من على شاشة التلفاز وبالنقل الحي أن قوات الحرس الجمهوري التي كانت تحرس بغداد انهارت خلال أقل من 48 ساعة من وصول قوات الحلفاء على أطراف العاصمة، لأن الشعب فضلا عن الجيش العراقي أدرك أن هذه المعركة ليست معركة بلد مع قوات غازية وإنما هي معركة صراع إرادات وتطويع لحاكم حاول الخروج عن حلبة اللعبة السياسية المرسومة له.
وفي كل حرب فالأسرى هم في مقدمة الضحايا والخسائر، ولكن كما للحروب قواعد أثناء الإشتباكات تبانت عليها الأمم، فللأسرى قواعد في التعامل معهم تسالمت عليها المجموعات المتقاتلة منذ التاريخ السحيق وحتى يومنا هذا، وابيان الموقف الشرعي من الأسرى، صدر حديثا (2018م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي كتيب "شريعة الأسرى" في 48 صفحة ضمّ مائة مسألة شرعية مع ثمان عشرة تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.
الكرامة المهدورة
ما من نهضة فكرية أو عقائدية أو رسالة دينية إلا ويكون الإنسان محورها، لأن بوصلة كل التعاليم الإنسانية والسماوية متجهة نحو الإنسان نفسه، بلحاظ أنَّ الإنسان هو الأصل في هذه المعمورة، وقد جاء الإسلام ليبين حقيقة الموقف من الكائن الحي بقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) سورة الإسراء: 70، فالآية صريحة في التكريم وجلية في التفضيل.
والأسر في الحرب هو النوع الضدي للكرامة الإنسانية، وحيث يفقد الأسير حريته يفتقد التفضيل موقعه، ولا سيما في العهود الجاهلية، حيث كان الأسير يفقد كل خصوصياته وأولها حق الحياة، فيما كانت المرأة والطفل يستعبدان.
ولأن قوانين الحياة التي تتبعها المجتمعات المتناحرة تتراوح بين المنطقية واللا منطقية من وجهة نظر الوحي، فإن السماء التي كرّمت الإنسان تعاملت على مراحل مع العادات والقوانين المتعارضة مع ذات الإنسان وكرامته، رغم أن الإسلام المنتصر على شرك قريش وما حولهم من القرى والمنفتح على الآخر حتى كان الناس يدخلون في دين الله أفواجا، يتيح له أن يفرض تعاليمه بالقوة وبالآن، لكن المرحلية هو القانون الذي ساد، وتشذيب سيئات الماضي هو الحاكم على الأمة، وخضعت مسألة الأسرى لهذا القانون الإسلامي الإنساني، فلم يعد قتل الأسير هو مبلغ مراد حاكم الشرع وإن كان هذا من حقه ضمن سياقات الحرب في تلك الأزمان، لأن الأصل في الإسلام هداية الناس إلى الدين الحق والحكم مجرد وسيلة لا هدف، وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهيد: (إن الأسر وما يليه من العبودية ليس قانونا حضاريا شرّعه الإسلام والتزم به وهو يتنافى مع روح وجوهر الإسلام، ولكن بعد إلقاء النظر بعين باصرة يلاحظ أن الإسلام إنما أقرّه لأنَّه أقل ضررًا .. فالأسر ليس ممدوحا بنفسه في الإسلام وإنما هو أفضل الطرق لمعالجة الأمور لدى إندلاع الحرب).
فلم يأت الإسلام بقوانين الأسر كما هو لم يبدأ بحرب أبدًا، وكل الحروب في عهد الرسول(ص) التي نافت على الثمانين حربًا إنما هي لصد العدوان، ولم تكن هناك مجازر ومذابح، وفتح مكة شاهد بارز على ذلك، من هنا فإن أرقام شهداء المسلمين وقتلى المشركين والكفار في كل الحروب الأولى لم تتعد في أكثر الفروض الأربعمائة بعد الألف من الضحايا، أي في كل حرب نحو 18 شهيدا وقتيلا، وهو رقم ضئيل للغاية إذا ما قورنت بالحروب الأخرى التي سبقت العهد الإسلامي الأول والتي تلت، وهذه الأرقام تعكس حقيقة الموقف الإسلامي الذي جسده المعصوم بقوله: (أريد حياته ويريد قتلي).
فالأسر لم يكن هو خيار الإسلام كما لم يكن القتل خياره إذا فرضت عليه الحرب، ولكن لما كان هو الرائج، فإنه الإسلام أعمل خياراته الإنسانية، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (فجاء الإسلام دين الرحمة فاختار أفضلها وأقلها شدة، ثم هذّبها وأطّرها بأطر حضارية لمعالة الأمر ثم دعا إلى القضاء عليها بوسائل مختلفة) وفيما مضى كان (السارق إذا لم يثبت عليه الجرم استُرق .. وفي الجاهلية كان الغريم يؤخذ في قبال دَيْنِه ويأسره ويستعبده الدائن) وهذا ما تم حظره، إذ: (جاء الإسلام ليحرّم كل أشكال هذا النوع من الأسر ومن ثم العبودية، وقد أقرّ الإسلام نوعا واحدًا منها، ألا وهو الأسر الذي يتم من خلال القتال والذي لا زال مستمرًا إلى يومنا هذا).
وإذا ما وقع الجندي في الأسر، كان فيما مضى أمام خيارات: القتل أو العفو أو الفداء أو السجن أو الإستخدام، ويرى الفقيه الكرباسي أنَّ تفعيل خيار الإستخدام وتشغيله، هو ما يمكن استخلاصه من ممارسات عهد الرسول(ص)، ويؤيد هذا المنحى ما فعله الرسول(ص) مع أسرى بدر من المشركين، فعن عبد الله بن عباس الهاشمي المتوفى سنة 68هـ، (كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله (ص) فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة).
وفي تحليله لمسألة الإستخدام، يرى الشيخ الكرباسي أن ذلك يعود بفوائد عدة للأسير والسلطة، فمن جانب: لا يكلف الأسيرة الدولة ماديا وأمنيا كما الحال لو تم حبسه أو نفيه أو فرض الإقامة عليه، كما لا تزهق روح الأسير، ولا تعطل قدراته وخبراته وما يمتلكه من مواهب وكفاءات، ويُستمال الى العقيد الإسلامية بالحكمة والموعظة الحسنة، فضلا عن العائد المادي عند الإستخدام.
وبالطبع هذه الرؤية الحضارية التي تجعل الأسير حاضرًا في الحياة اليومية لا تنسجم مع قوانين الأسر المتعارف عليها اليوم، ولا يعني أنَّ الحكومات تتقيد بما تعاهدت عليه من قوانين دولية، وقد تعرض الأسير في حروب القرون والعقود الأخير الى التجويع والتعطيش ناهيك عن تعذيبه وقتله، كما حصل في حروب البلقان في نهاية القرن العشرين الميلادي.
حقوق مدنية قائمة
هناك تلازم بين الواجبات والحقوق، فمقابل كل حق واجب وبالعكس، ولكن هل يسقط هذا الحق إذا وقع الجندي في الأسر؟
تختلف الإجابة من بلد لآخر ومن زمن لآخر، ورغم تطور القوانين الدولية المتعلقة بالأسرى نتيجة مخاضات الحروب المحلية والإقليمية والعالمية، فإن التباين لا زال قائما مع احتفاظ القوانين بفاعليتها أو هكذا ينبغي أن تكون، ولهذا تجد بعض البلدان تستعبد الأسير وبعضها تعامله بالحسنى وبعضها تزيد على ذلك.
وبغض النظر عن التعاطي الإيجابي او السلبي مع قوانين الأسرى الدولية، فإن الحقوق لا تلغى، وفي النظام الإسلامي كما يشير الشيخ الكرباسي: (مصرف الأسير على بيت المال)، ولا علاقة للمزايا الشخصية بهذه الصرف، وكما يؤكد الفقيه الغديري في تعليقته: (سواء كان غنيًا أو فقيرًا، بدويا أو مدنيا، مقاتلا أو مساعدًا، وطنيا أو أجنبيًا، رجلا او امرأةً).
ومما للأسير: (لا يحق أنْ يُسجن الأسير إلا في حالات خاصة وبأمر خاص من الحاكم، بل ويصبح في عيلولة مالكه وهو مطلق سراحه)، ومن واجب المسؤول عليه: (أن يطعمه ويسكنه ويلبسه بما يليق، وتطبيبه أيضا)، وهذه من سنن الإسلام وهي سيرة النبي (ص) وأهل بيته (ع) الذين وصفهم القرآن: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) سورة الإنسان: 8، ومن الحقوق: (لا يجوز تكبيل الأسير وشدّ يديه ورجليه بالسلاسل) وخاصة بعد سحبه من ساحة المعركة ووضعه في مكان آمن، بل من الحقوق: (يجب إسكان الأسير ما يقيه الحرّ والبرد وإطعامه وسقيه وإكسائه وعلاجه والترحم عليه).
وللشأنية قبل الأسر مكانها في نظام الأسر، ولذا: (تلاحظ مكانته قبل الأسر، فلا يُتعامل مع أبناء الملوك ونسائهم معاملة غير لائقة)، وبتعبير الفقيه الغديري في تعليقته: (بل ولا يبعد القول بوجوب ذلك بمكان حرمة الإنسان وحفظ حقوقه الوجودية في الدين الإسلامي الحنيف)، وفي الأثر أن رسول الله (ص) أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يُقدِّمونهم على أنفسهم عند الغذاء، وكان صلوات الله عليه ينادي في جموع المسلمين: (استوصوا بالأسارى خيرًا).
ومن المفارقات ونحن في القرن الواحد والعشرين الميلادي، أنَّ جيوش بعض الدول كانت ولا زالت تجوب العالم لشن الحروب وخلق الأزمات والفتن واستعباد البلدان وهي تحمل يافطة الحرية والديمقراطية، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (وكان الغربيون يجوبون سواحل القارة الأفريقية ويصطادون الأفارقة وبيبعونهم في الدول الغربية ويبيعونهم ويتاجرون بأثمانهم وبذلك بنوا اقتصادهم وثروتهم)، وفي الوقت الحاضر أصبح استعباد البلدان اقتصاديا والسيطرة على ثرواتها ومحاصرتها عبر تحريك القطعات البحرية العسكرية او التهديد بشن حرب، هو الصورة الأوضح من صور أسر المجتمعات بكاملها والتحكم بلقمة عيشها وفرض سلاح المقاطعة الإقتصادية على هذا البلد أو ذاك.
محظورات وممنوعات
في الواقع أن الأسير قبل أن يأخذ صفة الأسر كان مقاتلا، ومثله النساء والأطفال كما عليه الأمر في العهود السابقة، والنساء والأطفال قبل نشوب الحرب وخلالها كانوا رعايا وبعد الأسر يأخذون صفة السبايا، وهم لهم حقوقهم كما للأسير، وبتعبير مصطلح الفقهاء كما يثبت الكرباسي: (كل مَن قُبض عليه في دار الحرب سواء كانوا مقاتلين بالمباشرة أو من ذويهم، وبذلك يكون نساء وأطفال المحارب من الأسرى، واصطلحوا على تسمية النساء والأطفال بالسبايا، والأسر شُرِّع في الإسلام كأحد الخيارات الفضلى المطروحة).
وحينما تكون للأسير حقوق، وتتفاوت أدوات التعامل معه يظهر حينها من يحترم ومن لا يحترم، وفي الوضع الطبيعي، فإن المواطن يخضع لمزايدة الحاكم والمسؤول فيعدل هذا ويظلم ذاك، فكيف والحال مع من يفقد أهلية المواطنة، فالظلم يقع عليه لا محال، ولهذا كما وضع الإسلام ضوابط للأسير وحقوقه، نبه الى المحرمات والخطوط الحمر، ومن ذلك: (يحرم حرق الأسير مهما كان دوره في الحرب والقتال)، و(يُحرم المُثلة بالأسير حتى وإن كان محكومًا بالقتل).
ولا يخفى أنَّ عددًا غير قليل من مسائل الحرب والأسر التي يناقشها الفقهاء لها علاقة مباشرة بحرب المسلمين مع المشركين والكفار، لأن مفهوم الأسر والسبايا يتحقق مع المشركين، واما الحروب بين فئات المسلمين أو بين دولتين مسلمتين فإن عناوين الأسر والسبي تختلف كليا، فليس هناك أسرى أو سبايا بالمفهوم الشرعي، وهذا ما كان عليه نهج الإمام علي(ع) في حروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين، وإن كانوا قد بغوا على إمام زمانهم وولي أمرهم، وأما في الوقت الحاضر فإن أسرى الحروب يخضعون لقوانين تبنتها الدول، ومثلما جاء في مقدمة الناشر: (شهد القرن العشرون الميلادي إبرام عدة اتفاقات دولية بيّنت أهم ملامح معاملتهم، وكيفية معالجة أوضاعهم، مثل اتفاقية جنيف لعام 1929م، وقد اختتم القانون الدولي بتطوره في شأن معالجة أوضاع أسرى الحرب بالإتفاقية الثالثة من اتفاقيات جنيف المنعقدة سنة 1949م، ثم جاء البروتوكول الإضافي الأول سنة 1977م، وبموجب هذه النصوص القانونية يتمتع أسرى الحرب بحماية كبيرة)، وإذا ما احتلت دولة بلدًا آخر، فإن حماية البلد وشعبه وممتلكاته من مسؤولية الدولة المحتلة، كما نصت عليها بنود الأمم المتحدة.
إن هذه الكراس الذي يمثل الكتيب رقم 63 الصادر حتى الآن، من مجموع ألف عنوان تم تنضيد اكثر من 700 منها، هو جهد فقهي ومعرفي (يستحق الشكر والتقدير، وفيه جانب استفادة علمية واسعة) كما يؤكد الفقيه الغديري عند تقديمه له، وهو باب يرجو طارقه أن تستفيد منه البشرية على طريق إشاعة السلام والحرية تحت ظلال القانون واحترامه.
الرأي الآخر للدراسات- لندن
وسوم: العدد 799