كلمة أخيرة حول سيد قطب
مقدمة
القرضاوي: لا أريد أن أحول هذه المذكرات إلى مناقشة علمية تدور حول أشخاص أو أفكار، فهذا ليس من شأن السيرة الذاتية، وإذا تكرر ذلك واتسع فربما أفسدها.
ولم أكن أقصد أن أخوض هذه المعركة التي دخلتها على كره مني، فليس بيني وبين سيد قطب إلا كل مودة ومحبة واحترام، بل أكن له ما أكنه لأئمة الدعوة مثل حسن البنا، والمودودي، والسباعي، والغزالي وغيرهم. وأنا لست من أقران سيد قطب حتى يتصور البعض أن يكون بيني وبينه من التغاير ما بين الأقران بعضهم وبعض. على أنّا -وإن جمعتنا ساحة الدعوة- يظل لكل منا ميدانه وحلبته التي يصول فيها ويجول، فبيننا عموم وخصوص من وجه كما يقول المناطقة.
ولكني فوجئت بما أثارته مذكراتي من (وقفة مع سيد قطب) وما ذكرته عما تحمله في المرحلة الأخيرة من حياته الفكرية من ميل إلى (تكفير مسلمي اليوم) -مع محاولتي التخفيف من عباراتي ما استطعت- مما جعل كثيرا من قراء المذكرات يطالبونني بالأدلة التي تثبت هذه الدعوى. ولم يسعني إلا أن أنقل من ثلاثة كتب (نصوصا صريحة) تصرح بتكفير مسلمي اليوم.
واكتفى معظم القراء بهذه الشواهد الناطقة، ولكن عددا من الإخوان المتحمسين – الذين لا أشك في إخلاصهم –، مثل جمال سلطان وأحمد عبد المجيد ومحمود عزت وغيرهم – عز عليهم أن يتصف سيد بتلك الصفة (تكفير المسلمين) وأنا والله يعز علي ذلك، ولكن ما حيلتي والشواهد تدمغني، والنصوص الواضحة المتكررة لا تدع لي مجالا. وليست الأمور بالتمني!
على أن هذا الفكر لم يكن مجرد فكر نظري تجريدي معلق في الهواء، بل هو فكر موصول بالواقع بنى صاحبه على أساسه جدرانا وسقوفا، ورتب عليه نتائج وآثارا كررها وأكدها في كتبه.
ومن ذلك: أنه رأى التركيز على وجوب الدعوة إلى اعتناق هذه العقيدة، لا على عرض التشريع أو النظام الإسلامي السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. فإنما يتأتى ذلك بعد وجود الجماعة المسلمة.
ومن ذلك السخرية بدعوى إحياء الفقه الإسلامي وتطويره وفق حاجات العصر، وتجديد الاجتهاد، ونحو ذلك، مع غيبة المجتمع المسلم، بل مع انقطاع الوجود الإسلامي منذ زمن بعيد!
وأذكر أن الأخ الفاضل عادل الصلاحي – مترجم (الظلال) إلى الإنجليزية – طلب لقائي في لندن، وأخبرني بأنه فوجئ بما كتبت عن سيد، وأنه لقي سيدا قبل استشهاده، وعلم منه: أنه يركز قبل كل شيء على التربية.
قلت له: وهذا صحيح، ولكن على أي شيء يربي من انضم إليه؟ هنا مربط الفرس كما يقولون.
ثم قلت له: كيف تترجم العبارات التي تحمل دلالة واضحة على تكفير مسلمي اليوم؟
قال: بصراحة أنا لا أترجمها حرفيا، بل أذكر معنى عاما يقرب من مدلولها إلى القارئ، وإن لم ينقل إليه المعنى المراد!
قلت له: وهل ترى أنك بهذا تكون قد أديت أمانة الترجمة؟ وماذا تصنع لو جاء معقب عليك، وقال: إن المترجم تعمد تحريف الترجمة؟!
فسكت الرجل، ثم قال: وما الحل؟
قلت: ولا حل عندي إلى الصدق، ومواجهة الحقائق مكشوفة، وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
على أن الذي يهون من هذه القضية عدة أمور:
- أن هذا الفكر نتيجة اجتهاد من قائله، أسسه على ظواهر واعتبارات شرعية وعقلية، وهو اجتهاد يعذر صاحبه، بل يؤجر عليه أجرا واحدا، وإن كان في القضايا الأصولية والعلمية كما حقق شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من علماء الأمة.
- أن الظرف الذي ظهر فيه هذا الفكر، وصاحبه في سجن الطغاة، ودعاة الإسلام يشنقون ويعذبون ويشردون، والشيوعيون يمكن لهم: يجعل لمتبنيه عذرا أكبر.
- أن صاحب هذا الفكر لم يكن من المتاجرين بالدين، أو المتزيين بزي أهله، بل كان رجلا صادقا مخلصا فنى عن نفسه، وعاش لهذا الدين حتى قدم رقبته رخيصة في سبيل الله.
وعلى كره مني سأضطر أن أقول بعض كلمات أعقب بها على الذين ناقشوا هذه القضية على موقع إسلام أون لاين.نت، وبعضهم من إخواني وبعضهم من تلاميذي، وليس في العلم كبير "وفوق كل ذي علم عليم" ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
بعض الإخوة لم يعترضوا على الموضوع، ولكنهم اعترضوا على "التوقيت"، قائلين: ليس هذا أوان إثارة هذا الأمر، وقد قلت: إني دُفعت إليه دفعا، ثم ماذا الوقت المناسب لإثارة ذلك وقد مضى على الشهيد قطب ثلث قرن أو يزيد؟ ثم إن الأمانة العلمية، وما أخذه الله على العلماء من البيان وعدم الكتمان: يوجب علي أن أقول الحق لأمة الإسلام، وأنا هنا أقول ما قاله الحافظ الذهبي في ابن تيمية: شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه.
وتمنى بعضهم لو أني استمررت في نهجي الذي عرفت به، وهو نهج تجميعي يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرق، فلماذا أثير هذه القضية وأفرق الصفوف اليوم؟
ومعاذ الله أن أكون داعي فتنة أو مفرق صف، وقد علم الجميع: أني أدعو إلى التقريب بين المذاهب والفرق الإسلامية من سنة وشيعة وزيدية وإباضية فكيف أفرق بين أهل السنة – بل أهل الدعوة – بعضهم وبعض؟!
ومما أذهلني وآذاني ما ذكره الأخ أحمد عبد المجيد – تعريضا – أن إلصاق تهمة التكفير بسيد قُصد بها الإساءة إلى الرموز الإسلامية.
ويعلم الله كم كنت حريصا ألا أدخل هذا المعترك، وكم أجلته وأجلته، ولكن متى كان الأشخاص مقدسين عندنا؟
لقد كنت مترددا بين الإبقاء على سمعة الشهيد من ناحية، وبيان الحقيقة الشرعية من ناحية أخرى، فترجحت الثانية على الأولى، لأن البيان فريضة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وخطأ سيد لا ينقص من منزلته ولا من مثوبته عند الله، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
ومما ذكره الأخ عبد المجيد بحق قوله: حدث تغير في أفكار سيد قطب، فعندما كان في مستشفى ليمان طره، طلب من أسرته كتب الشهيد حسن البنا والأستاذ المودودي، فبدأ يتنبه إلى أمور كانت غائبة عنه وخصوصا في ضرورة التركيز على موضوع العقيدة، ثم بدأ يطلب كتب ابن تيمية وابن القيم، وبدأ التغير في تفكيره وكتاباته، وظهر ذلك جليا في الطبعة الثانية من الظلال، والأجزاء الأخيرة منه بدءا من الجزء 13، وكتاب: خصائص التصور الإسلامي و(مقوماته) و(معالم في الطريق)، ولو فرضنا أن هناك أخطاء عند سيد قطب -وهو بشر- فإن التقييم العادل أن نأخذ الأفكار الراشدة ونترك غيرها ولا نرفض المنهج بأكمله) انتهى.
وهذا كلام منصف متزن، وهو العدل الذي أمرنا به (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) [الأنعام: 152]، وأنا لا أقول غير ذلك، فلم أقل يوما: اعدموا تراث سيد قطب، أو احرقوا كتبه كما أحرقت كتب الإمام الغزالي وغيره قديما، ففي هذا التراث كنوز لا ينبغي أن تهمل إلى جوار (المطبات) التي يجب أن نحذر. وهذا ما أدين الله تعالى به.
ومما دهشت له: إن أكثر المعلقين دفعهم الحماس بعيدا عن لب الموضوع، فتحدثوا في أشياء جانبية، وتركوا الجوهر، وهو (النصوص الصريحة) المنقولة من كتب سيد رحمه الله.
ومما قاله بعضهم: إن الناس قرءوا (الظلال) ولم يفهموا ما فهمته من فكرة (التكفير)
وهذا الكلام غير صحيح، فقد أثار جدلا طويلا داخل الإخوان في السجون، ومن آثاره بحث قضية: هل نحن جماعة المسلمين؟ أو نحن جماعة من المسلمين؟ حتى أن مكتب الإرشاد أرسل إلى سيد الأخ عبد الرءوف أبو الوفا: يسأله عن هذه المسألة، ومن ذلك سؤال الأستاذ عمر التلمساني له وسؤال الحاجة زينب الغزالي له.
وقد رأينا تجمعات في أقطار مختلفة يسمون (القطبيين)، يتبنون فكرة التكفير، وقد رأيت من آثار ذلك: من سألوني عن الصلاة في البيوت، وترك المساجد باعتبارها معابد الجاهلية، وهو مما فهموه من الظلال في تفسير قوله تعالى "واجعلوا بيوتكم قبلة"، وقد رددت عليهم في الجزء الأول من كتابي (فتاوى معاصرة).
ومن قرأ أدبيات جماعات التكفير يجد آثار هذا الفكر وعباراته المعروفة في صلب هذا الفكر، وإن لم يصرحوا بالنقل عنه.
وأنبه هنا على مسألة مهمة، وهي: إن أكثر الإخوان قرءوا الظلال، ولم يفهموا منه أمر التكفير، لأنهم قرءوه وهم يحملون فكر البنا، فلم يتأثروا بالفكر الجديد، وحملوه على ما في رءوسهم من أفكار سابقة غرستها فيهم تربية البنا، حتى أكثر الذين كانوا في تنظيم 1965 -وسيد على رأسه- لم يكونوا يحملون مبدأ التكفير.
على أن هؤلاء -عادة- لا يقرءون الظلال، وإنما يقرءون فقرات منه على فترات، ربما كانت متباعدة، وقلما يربطون بين الفقرات بعضها وبعض.
على أن الذين لم يأخذوا فكرة التكفير لم تخطئهم رشحات من تأثير هذا الفكر الثائر الرافض على مفاهيمهم وعلاقاتهم بالآخر، ورفض الانفتاح والحوار، والمفاصلة الشعورية مع المجتمع، وإعلان الحرب على العالم كله، حتى المسالمين، والسخرية بدعاة الاجتهاد وتطوير الفقه، وغير ذلك، واتهام دعاة التسامح والموسعين بالهزيمة النفسية والسذاجة الفكرية... إلخ.
قد ينطبق حكم سيد قطب على بعض الأنظمة الحاكمة التي تتبنى (التطرف العلماني) الذي يجاهر بالعداوة لشريعة الإسلام، ويحارب دعاته، ويعمل على تجفيف منابع التدين في الحياة من التعليم والإعلام والثقافة. وهم الذين تحدثت عنهم في كتابي (التطرف العلماني في مواجهة الإسلام)، هؤلاء فئة قليلة مبغوضة من الأمة وموالية لأعدائها.
أما تكفير الجماهير من مسلمي اليوم، كما تنطق بذلك ظواهر نصوص سيد قطب، فلا نوافقه عليها بحال من الأحوال والله يغفر له.
نقطة "الأدبية" و"الفقهية"
ومما أثاره عدد من الإخوة المعقبين: ما تعلق بـ (أدبية) سيد رحمه الله لا (فقهيته)، وأنه كان (أديبا)، ولم يكن (فقيها)، وأنه أعلن ذلك مرارا. فلا ينبغي أن نحاسبه بما يحاسب به الفقهاء بعضهم بعضا إذ لم يكن واحدا منهم.
وأود أن أقول لهؤلاء الإخوة: إنني أحترم النزعة أو الملكة الأدبية عند سيد، وأراه من أعظم أدباء العصر، ومن أجل هذا لا أطالبه بتدقيق الفقهاء، ولا بتعمق الأصوليين، وهذا ما أوافق فيه الإخوة المعقبين، ولا اعتراض لي عليه.
ولكن الذي أخالفهم فيه هو اعتبارهم الأدب أو التعبير الأدبي سببا في غموض الكاتب، وضبابية ما يكتب، والتباسه على قارئه، فالأمر عندي بالعكس تماما، فالكاتب الأديب الأصيل إذا كتب في أي علم: أضفى عليه من إشراق يراعه ومن نصاعة بيانه ما يجليه ويقربه إلى القارئ، ويزيح عنه أي لون من الغموض، وهو ما يسمونه (الأسلوب العلمي المتأدب).
وقد رأينا هذا في كتابات العلماء الأدباء، مثل: محمد عبده، ود. محمد عبد الله دراز، وحسن البنا، ومحمد الغزالي، وعلي الطنطاوي، ومصطفى السباعي، والبهي الخولي وغيرهم.
وسيد قطب يأتي في مقدمة هؤلاء، فلم أر أديبا هو أنصع منه بيانا ولا أوضح أسلوبا في كل ما يكتبه، في التفسير وفي غيره، وقد يقال إنه لم يكتب (تفسيرا) بالمعنى الحرفي للكلمة، وهذا صحيح بالنسبة للنصف الأول من الطبعة الأولى من الظلال، ولكنه في الأجزاء الثلاثة عشر الأخيرة، وفي الأجزاء الأولى من الطبعة الثانية، اجتهد أن يكون مفسرا، ويكاد يكون أفرغ تفسير ابن كثير – أو خلاصته – في الظلال.
ولم يكن الرجل من دعاة الرمزية أو السريالية أو غيرها من المذاهب الأدبية التي تعمد إلى الغموض وتغلف مقولاتها وأفكارها بأغلفة تحجب معانيها عن جماهير القراء، ولم يكن سيد كذلك من دعاة الباطنية الذين يقولون القول، ولا يريدون به ما يفهمه سائر الناس. بل كان رجلا صريحا بينا لا يحب الظلام ولا الضبابية فيما يقول ولا فيما يفعل.
والقضية التي نتحدث عنها – قضية تكفير مسلمي اليوم – ليست قضية فقهية بعيدة عن اختصاص سيد كما يتصور أو يصور بعض الإخوة المتحمسين، بل هي قضية فكرية محورية أساسية، أو قل هي: قضية أو أصولية اعتقادية، هي ألصق بعلم العقائد والكلام منها بعلم الفقه والفروع؛ ولأنها قضية فكرية محورية مركزية عند سيد، رأيناه يلح عليها، ويكررها ويؤكدها بأساليبه البيانية الرائقة والرائعة حتى تتضح كالشمس في رابعة النهار.
شهود النفي في القضية
ومما آلمني كثيرا: دخول بعض الإخوة في هذا الميدان، وبضاعتهم مزجاة من العلم الشرعي، وحتى من المنطق العقلي، وظنوا أن الحماس ورص الكلام يغني شيئا في القضايا العلمية الكبيرة.
لقد جاءوا بمن يمكن أن يسموا (شهود النفي) في القضية، ليقولوا: إنهم لقوا سيدا رحمه الله ولم يجدوه يكفر المسلمين، أو سألوه: هل تكفر المسلمين؟ فنفى ذلك، وقال من قال: يجب أن نضم أفعال سيد إلى أقواله حتى نكون منصفين معه.
ونسي هؤلاء ما قرره علماؤنا من (قواعد علمية) تحكم الأمور وتضبطها، من هذه القواعد: إن المثبت مقدم على النافي، وأن من حفظ حجة على من لم يحفظ.
فإذا جاء عشرة ثقات وقالوا: لم نسمع فلانا يشتم فلانا، وجاء رجل ثقة، وقال: إنه سمعه يشتمه، وكان من أهل العدالة والضبط، أخذ بقول هذا الواحد؛ لأنه علم ما لم يعلموا، فهم حدثوا بما يعلمون وهو حدث بما يعلم، وحفظ ما لم يحفظوا، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
وما ذكره الإخوة من تعارض فعل سيد مع أقواله: قد غفلوا عن أصل مهم، وهو: إن الذي يحكم على العالِم ويعبر عن رأيه هو: قوله لا فعله؛ لأنه فعل امرئ غير معصوم، فلا غرابة أن يناقض فعله قوله، وسلوكه عمله، ما دام لا عصمة له، وقد قال بعض الأئمة:
اعمل بقولي ولا تركن إلى عملي *** ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
وإن كنت أحي -على وجه الخصوص- مقالة الأخ معتز الخطيب التي ناقشت الموضوع مناقشة علمية مستنيرة وموضوعية، كذلك أحيي مقالات أخرى جيدة مثل مقالة العالم الأزهري المتمكن الدكتور يحيى هاشم فرغلي، على ما فيها من تمحل، وإن كان يبدو لي أن بعض هذه المقالات لم تكتب تعليقا على كلامي.
وأريد أن أؤكد للمعلقين جميعا: أني لم أدعِ على الرجل دعوى من كيسي بل من كيسه هو، وما آخذته إلا بكلامه البين الجلي المفهوم، فإن كان رجع عن مضمون هذا الكلام الجلي في أواخر حياته رحمه الله فلُيقَل هذا ولا حرج، إنه تراجع عن هذا الفكر ولم يعد يلتزمه أو يؤمن به.
وحبذا أن يقول ذلك أولى الناس به: شقيقه الكاتب الكبير الأستاذ محمد قطب حفظه الله، فليت صديقنا العزيز يفعلها فيريح ويستريح، فيعلق على الأقوال التي نقلتها من الظلال ومن غيره وأمثالها بسطر واحد يضع الأمور في نصابها.
لقد درسنا على شيوخنا في الأزهر علما يسمونه (أدب البحث والمناظرة) ومن قواعده المقررة: إن كنت ناقلا فالصحة، وإن كنت مدعيا فالدليل، فلا يطلب من ناقل قول إلا أن يكون نقله صحيحا ثابتا عمن نقله عنه، ولا يطلب من صاحب دعوى إلا أن يقيم الدليل على ثبوتها.
وأنا ادعيت دعوى أقمت الدليل عليها بنقول صحيحة، ولا يشكك أحد في صحة النقول، وإنما يشكك المشككون في ثبوت الدليل، وأنا لا أدري وجها للتشكيك فيه بحال، وقد قيل: توضيح الواضحات من المشكلات، وقال الشاعر:
وليس يصح في الأذهان شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل
ومن قال: إن سيد قطب غير قادر على الإفهام؛ لأنه أديب وليس بفقيه فقد أساء إلى سيد وأساء إلى الأدب والأدباء.
ولا يفوتني هنا أن أنبه على حقيقة لا ريب فيها وهي: أنني -وحاشا لله- لا أكفر سيد قطب، ولا أؤثمه ولا أضلله، بل أخطئه في اجتهاده، فلا يخلط الإخوة بيني وبين من اتهموا سيدا بالكفر والضلال ومن رموه بالقول بوحدة الوجود، أخذا من متشابه كلامه في سورة "الحديد" وسورة "الإخلاص"، ولم يردوا المتشابه إلى المحكم الذي امتلأت به كتبه كلها، وهي تكذِّب هذه الدعوى التي لا تقوم على رجلين.
بين حسن البنا وسيد قطب
ويحلو لبعض الإخوة أن يعقدوا مقارنة بين حسن البنا وسيد قطب محاولين أن يثبتوا أنهما كانا على خط واحد، ونهج واحد، وأن سيدا لم يتجاوز خط البنا ورحم الله الرجلين.
وأنا أقول: إن سيدا أشاد بالبنا في كتاباته القديمة التي جمعها في كتاب (دراسات إسلامية) فكتب عن حسن البنا وعبقرية البناء. ولكنه لم يتحدث -فيما علمت- عن فكر البنا ومقاصده، ولم ينقل عنه في كتبه كما نقل عن المودودي والندوي، وإن كان يجمعه بحسن البنا الاتجاه العام لنصرة الإسلام، والذود عن حماه.
أما المنهج فكان لكل منهما شخصيته وتميزه، من حيث المنطلق، ومن حيث الغاية، ومن حيث الوسيلة ومن حيث الروح العامة.
فأما المنطلق -وإن كان إسلاميا لكليهما- نجده مختلفا كثيرا بينهما، فحسن البنا ينطلق من أن الأمة الإسلامية موجودة، وأن المسلمين موجودون، ولكنهم يحتاجون – إلى عمل كبير لتفقيههم بالإسلام، وتربيتهم عليه، بدءا بالفرد المسلم، فالبيت المسلم، فالشعب المسلم، فالحكومة المسلمة، فالأمة المسلمة.
وسيد قطب ينطلق من أن الأمة المسلمة قد انقطع وجودها منذ زمن، ولا بد من إعادتها من جديد، وكل الموجودين اليوم من سلالات أقوام كانوا مسلمين، وأوطانهم كانت من قبل دارا للإسلام، ولم تعد اليوم دارا للإسلام، وإذا لم يكونوا مسلمين، فعلينا أن ندعوهم إلى اعتناق العقيدة الإسلامية، وأن يدخلوا في الإسلام من جديد.
حسن البنا يرى أن الإسلام -باعتباره دينا- قائم وموجود، وأن هناك أمة تؤمن به من المحيط إلى المحيط، وأن الأمة المسلمة من أشد الأمم في الأرض تمسكا بدينها، وأن الإنسان العاصي أو المفرط من عامة المسلمين نجد أصل الإيمان مغروسا في أعماقه، ولكنه إيمان نائم أو مخدر، وهو في حاجة إلى إيقاظ وبعث وتنبيه، وهذه مهمة الدعوة الإسلامية ورجالها.
نجد حسن البنا يقول في رسائله: يا قومنا -وكل المسلمين قومنا- ندعوكم إلى كذا وكذا.
بخلاف سيد قطب، فهو يرى أن الإسلام قد انقطع وجوده من الأرض، فلا توجد أمة مسلمة، ولا يوجد مجتمع مسلم، بل لا يوجد أفراد مسلمون، لا بمعنى أنهم ارتدوا عن الإسلام، بل لأنهم لم يدخلوا أصلا في الإسلام؛ لأن دخول الإسلام لا يتحقق إلا بشهادة أن (لا إله إلا الله)، بما تتضمنه من إفراد الله تعالى بالحاكمية، وهم لم ينطقوا بالشهادة بهذا المدلول.
وهذا هو المفهوم الذي أنكره العلامة الندوي على سيد وعلى المودودي من قبله، وسماه (التفسير السياسي للإسلام).
حسن البنا يشعر بوجود الإسلام وأمته، ويتعاطف معها، ويعيش بهمومها، وسيد قطب لا يحس للإسلام ولا لأمته بوجود من حوله، بل يقول: قومنا على ملة، ونحن على ملة وهم على دين ونحن على دين آخر.
غاية حسن البنا أن يصحح فهم المسلمين للإسلام الذي يعتنقونه بحيث لا يقتصر على المعنى اللاهوتي أو التعبدي الشعائري، بل يجب أن يفهموه بشموله وتكامله وتوازنه: عبادة وجهادا، ودينا ودولة، خلقا وقوة، ثروة وغنى، تربية وتشريعا، وبعد تصحيح الفهم تبدأ عملية تجديد الإيمان وغرس المعاني الربانية والأخلاقية.
وغاية سيد قطب: أن يعلن رفض هذا المجتمع كله من حوله، فهو مجتمع جاهلي، لم يدخل بعد في الإسلام المطلوب: أن ندخل الناس في الإسلام من جديد، وندعوهم إلى اعتناق عقيدته، كما دعاهم الرسول وأصحابه وأن نشعرهم بأنهم شيء ونحن شيء وأن نصارحهم بذلك بلا وجل ولا خجل حتى يعرفوا حقيقة أنفسهم.
وسيلة حسن البنا: هي الدعوة والحوار والتربية والتغلغل في المجتمع، والعناية به بحل مشاكله وأخذه بالرفق والتدرج والانفتاح على المخالفين، والتسامح معهم دون تفريط في حقوق الأمة.
وسيلة سيد قطب: هي الدعوة والتربية أيضا مع غرس الشعور في العصبة المؤمنة القليلة -التي هي المسلمة دون من عداها- بالعزلة الشعورية من المجتمع، ورفض الانفتاح والتحاور مع الآخر، بل وتجب التعبئة الفكرية والشعورية ضده، وتقديم سوء الظن بهؤلاء الذين لا يضمرون إلا الشر والعداوة لمسلمين.
الروح العامة في منهج حسن البنا هي: التسامح والانفتاح والحكمة والتدرج.
والروح العامة في منهج قطب هي: التشدد والصرامة وإغلاق الأبواب.
ومن أجمل ما عبر عن اختلاف المنهجين: المفكر المؤرخ المستشار طارق البشري حين قال: "إن سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن البنا -رحمهما الله- ولكن الأمر لا يقوم بالمقارنة بموازين مطلقة، إنما يجري وصف كل فكر وظروف إعماله، وفكر حسن البنا -لمن يطالعه- فكر انتشار وذيوع وارتباط بالناس عامة وهو فكر تجميع وتوثيق للعرى، وفكر سيد قطب فكر مجانبة ومفاصلة، وفكر امتناع عن الآخرين.
فكر البنا: يزرع أرضا وينثر حبا، ويسقي شجرا وينتشر مع الشمس والهواء.
وفكر قطب: يحفر خندقا ويبني قلاعا ممتنعة عالية الأسوار، والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب.
موقف الإخوان في معتقل 1965
وقد حاول بعض الإخوة المحبين لسيد، والمعظمين له: أن يؤولوا كلماته هذه الظاهرة في دلالاتها على ما نقول. وقال أحدهم – الأخ د. إبراهيم عبيد – في تعقيب له: أليست هذه العبارات التي قالها سيد، مثل ما قاله الإمام حسن البنا في بعض الناس: ليسوا إخوانا، وليسوا مسلمين!
ونقول: إن هذه العبارة التي صدرت من حسن البنا – برغم شدتها وقسوتها حتى أن بعضهم أنكر صدورها عنه، وبعضهم زعم أنه أكره عليها – لا يمكن أن تحمل على ظاهرها؛ لأنها ضد منهج حسن البنا، ضد كتاباته كلها، وضد الأصل العشرين الذي ختم به الأصول إلى وضعها لفهم الإسلام في إطارها وفي حدودها. فلهذا يجب أن تؤول لتتفق مع الاتجاه الفكري والعقدي العام لحسن البنا، فهي كلمة متشابهة، يجب أن ترد إلى سائر كلامه المحكم.
وهذا بخلاف ما نقلناه عن سيد قطب، فهي ليست كلمة ولا كلمتين، وعبارة ولا عبارتين، قيلت في موضع أو موضعين، بل هي فكرة تجري في كتبه الأخيرة مجرى الدم في العروق، ولا نجد في كلامه الآخر ما ينقضها إلا كلامه القديم.
وقد نقلها كثيرون عنه ممن لقوه وسمعوا منه في مستشفى طره، كما حكى ذلك الأخ إبراهيم عبده نفسه حين قال: لما دخلنا المعتقلات سنة 1965 فوجئت -كما فوجئ كثيرون غيري من الإخوان- بفتنة عارمة، تقول بتكفير المسلمين جميعا! وتزعم أن هذا القول مرجعه الأستاذ سيد قطب، أوحى به إلى الذين التقوه في مستشفى طره. وكانت فتنة مزلزلة، رفضناها جميعا. واستبعدنا أن تصدر من الأستاذ سيد. وكانت فتنة هددت المجتمع الإخواني داخل السجن بالانقسام، حتى وصل فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي، فحسم هذه القضية، وقف -كعهدنا به- وقفته الصلبة المنضبطة، وأصدر دراسته تحت عنوان (دعاة لا قضاة). وانتهت الفتنة وألتزم الإخوان إلا قليلا.
وقد بدأت الدراسة التي أملاها الأستاذ الهضيبي أو أقرها بنقد بعض كلمات الأستاذ المودودي في تفسير (لا إله إلا الله) وهو بهذا يرد -ضمنيا- على سيد قطب؛ لأن سيد أخذ كلام المودودي وعمقه وفصله، ورتب عليه آثارا وأحكاما، لم يرتبها المودودي نفسه.
وأعتقد اعتقادا جازما أن الأستاذ الهضيبي لم يقرأ ما كتبه سيد، ولا أحد من إخوانه في ذلك الوقت، وإلا لرد عليه. إذ لم تكن كتاباته الجديدة قد انتشرت في ذلك الوقت، ولذلك كانت كل المحاورات والمجالات حول ما سمعه بعض الأشخاص من سيد مشافهة.
وهذا باستثناء جماعة (القطبيين) الذين قرءوا ودققوا وعرفوا وآمنوا بما دعوا، والتزموا به وتحمسوا له، ودافعوا عنه، ودخلوا السجون في سبيله.
موقف سيد قطب من جمهور المسلمين
كما لاحظت أن الإخوة الذين عقبوا علي كلهم -إلا واحدا- أغفلوا شيئا مهما، هو محور القضية، وهو ما نقلته عن سيد رحمه الله من كتبه. فقد تناسوا هذا تماما، وظلوا يركضون بعيدا: يبحثون عمن لقي سيدا، من سأله فأجابه. ومن سمع منه كذا وكذا، وأنا لا دخل لي بهذا كله. أنا أحكم على فكر الرجل من خلال نصوصه المكتوبة. والنص المكتوب هو أدل شيء على فكر الإنسان. بخلاف ما يقوله شفهيا، مما قد لا ينقل بنصه تماما، وما قد ينقل حسب فهم السامع، وما ينقل بعيدا عن سياقه وملابساته.
كنت أود من الإخوة المعقبين -ماداموا يحترمون المنطق العلمي، والبحث الموضوعي- أن يقفوا عند النصوص التي نقلتها -وهي ليست كل ما قاله الشهيد رحمه الله- ويبينوا لنا المراد منها نصا نصا. لينظر القارئ في تفسيرهم لها: أهو مقبول أم مرفوض؟ طبيعي أم متكلف ولكنهم –للأسف- لم يجشموا أنفسهم مشقة هذا الجهد.
وعندي رأي في تفسير الموقف العلمي لسيد، وهو ما شهده الناس منه، وسمعوه منه، في الفترة التي خرج فيها من ضيق السجن على باحة المجتمع، فقد واجه الجمهور الأعظم من الناس -التي شهدت نصوصه بأنه لم يدخل في الإسلام بعد، ولم يفهم (لا إله إلا الله) بمدلولها الحقيقي الذي حدده- فوجد هذا الجمهور يستقبله في كل مكان بالفرحة والترحاب، ويتعاطف معه، من كان منهم من الإخوان ومن لم يكن، ووجدهم في المساجد مقبلين على الله، تالين لكتاب الله، أو مستمعين له، متأثرين به، فلم يكن من السهل عليه أن يحكم على هؤلاء الناس بالكفر. حقيقة الناس في الواقع الذي يراه أوضح وأكبر مما سطره في الكتب. فلهذا سمعوا منه ما سمعوا، ورأوا منه ما رأوه، وأجابهم حين سئل بما أجاب. مما قد يعتبر تراجعا عما قرره في كتبه.
ولكن ما في الكتب من نصوص، ناصعة البيان، ظاهرة الدلالة، يبقى كما هو، لا نملك أن نغيره، أو نسقط منه حرفا، أو نزيف دلالته. فالحقيقة لا تقبل هذا، والشهيد سيد قطب نفسه لا يرضى هذا التزييف.
وأعتقد -والعلم عند الله- أن الشهيد، لو قدر الله أن ينسأ في أجله، ويعايش الناس في حياة طبيعية، ويتحدث إليهم ويسمع لهم، ويناقشهم ويناقشوه لغير رأيه فيهم، وعدل مما كتبه من قبل. فقد عرفنا من خلائقه: أنه كان رجلا صلبا في دين الله شجاعا في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يبالي أن يقول: أخطأت، فيما أخطأ فيه.
ولا يسعني إلا أن أدعو الله له بواسع المغفرة والرحمة، وأن يجزيه بنيته وبذله لدينه، وأن يأجره الأجرين فيما أصاب فيه من اجتهاد، ولا يجزيه الأجر الواحد فيما أخطأ فيه ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
وسوم: العدد 889