الزَّواجُ والطَّلاقُ في الإسلام 2

الزَّواجُ والطَّلاقُ في الإسلام

مسَائِلٌ وأحكام

2

عبد المنعم مصطفى حليمة

"أبو بصير الطرطوسي"

www.abubaseer.bizland.com

[email protected]

ـ صور إنهاء الحياة الزوجية بين الزوجين. 

من خلال ما تقدم ندرك أن الإسلام حريص على إقامة حياة زوجية مثالية راقية جداً، تملؤها المحبة والرحمة، ويسودها الود والاحترام .. وحريص على استدامتها ما أمكن لذلك سبيلاً .. لكن أحياناً لا يرقى الزوجان ـ أو أحدهما ـ إلى هذا المستوى من الرقي الذي يريده ويحرص عليه الإسلام .. فحينئذٍ تجد المشاكل طريقها إلى عشّهما وحياتهما .. لتعكر عليهما صفو ما بينهما من الود والاحترام والرحمة!

ومع ذلك حاول الإسلام ـ قبل اللجوء إلى التفريق والطلاق ـ علاج الأمر وفق الخطوات المشار إليها آنفاً .. وكعلاج أخير للموقف .. فإن لم تُجْدِ نفعاً .. وسُكرت أبواب الإصلاح كلها .. وكان لا بد من الجنوح إلى الطلاق أو التفريق بينهما .. عُمِلَ به؛ فكما أن الزواج من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك الطلاق فهو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم .. ومن يرغب عن سنته صلى الله عليه وسلم فليس منه، قال تعالى:) فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (البقرة:231.
وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن من سُنتي أن أصلي وأنامَ، وأصومَ وأَطعَم، وأنكِحَ وأطلِّقَ، فمن رَغِب عن سُنتي فليس مني "[[1]]. 
وقال صلى الله عليه وسلم:" ثلاثة يدعون الله U فلا يُستجاب لهم ـ منهم ـ: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يُطلقها "[[2]].

  لكن يُكرَه اللجوء إلى الطلاق من غير سببٍ شرعي يستدعيه، فقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على التَّماسك والترابط، والحفاظ على دوام العشرة الزوجية عند أهل الكتاب، كما في الحديث عن المقدام بن معدي كرب، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قامَ في الناسٍ فحمدَ اللهَ وأثنى عليه، ثم قال:" إن اللهَ يوصيكم بالنساء خيراً، إن اللهَ يوصيكم بالنساء خيراً؛ فإنهنَّ أمهاتُكم، وبناتُكُم وخالاتُكم، إن الرجلَ من أهلِ الكتابِ يتزوجُ المرأةَ وما يعلُقُ يَداها الخيطَ، فما يرغبُ واحدٌ منهما عن صاحبه حتى يموتا هَرَماً "[[3]].

  وقال صلى الله عليه وسلم:" لا يَفْرَكُ مؤمن مؤمنةً، إن كَرِه منها خُلُقاً رضي منها آخر " مسلم. وقوله " لا يفرك "؛ أي لا يبغضها إلى حد الطلاق.

  وقال تعالى:) وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (النساء:19.

فالطلاق خيار صعب .. لكنه شُرِع لدفع ما هو أشد منه صعوبة .. ودفع ما هو أشد منه ضرراً على الزوجين لو بقيا معاً؛ إذ يستحيل إلزامهما بالرابطة الزوجية وهما لا يراعيان ـ ولا يقدران على أن يراعيا ـ حدود الله تعالى في حياتهما .. ولا يعرف أحدهما ما للآخر من حق عليه .. فالزواج شُرِع ـ كما تقدم ـ لرسالة عظيمة .. ولأغراض عدة نبيلة .. فإذا انتفت الرسالة منه .. وتعطلت أغراضه .. حينئذٍ يكون من الظلم والعبث ـ والحال كما ذُكِر ـ أن يلزم الطرفان بالعلاقة الزوجية على ما بينهما من تنافر، وتباغض، وتفريط بالحقوق الزوجية .. لذا كان اللجوء في هذه الحالة إلى الطلاق أو التفريق بين الزوجين هو الخيار الشرعي الأمثل .. والأقل ضرراً وحرجاً .. عسى الله تعالى أن يُغني كلاً منهما من فضله .. ويستبدله بحياة زوجية أفضل وأكثر سعادة مما سبق، كما قال تعالى:) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً (النساء:130. وقال تعالى:) وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (البقرة:216.

  ـ الرجل بين خيارين لا ثالث لهما: إما أنه يُمسك ويُعاشر زوجته بمعروف وإحسان، أو أنه يُطلق ويُسرِّح بمعروف وإحسان؛ من غير فجور ولا ظلم .. أما أنه لا يفعل هذا ولا ذاك؛ فلا هو يُمسك بمعروف وإحسان، ولا هو يسرّح ويطلق بمعروف وإحسان، وإنما يُبقي زوجته في ذمته ضراراً، وللتشفي والانتقام؛ فلا هو يُعاشرها معاشرة الأزواج، ويعرف لها حقوقها الزوجية .. ولا هو يُطلقها ويسرحها سراحاً جميلاً .. فهذا ليس له، ولا لغيره .. وهو ظلم وعدوان لا يجوز اللجوء إليه، كما قال تعالى:) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (الطلاق:2. هذا أو ذاك، وليس شيئاً آخر بعدهما إلا الإضرار، وهو ما لا يجوز اللجوء إليه، كما قال تعالى:) فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (البقرة:231. وقال تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (الأحزاب:28. وقال تعالى:) فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (الأحزاب:49. هذا فعل المؤمنين الأكابر الأخيار .. أما فعل الأصاغر الفجّار؛ فهم يمسكون ضراراً، ويُسرّحون ضِراراً؛ فلا هم يُمسكون بمعروف، ولا هم يُسرّحون بمعروف .. وإنما يتركونها كالمعلّقة؛ لا هي ذات زوج ولا هي مطلّقة؛ لتجد لنفسها سبيلاً .. ولو وجدوا القدرة على الهروب من عين القضاء العادل .. لما ترددوا أن يُمسكوا نساءهم طيلة حياتهم ضراراً وأذى .. وما أكثر من يفعل ذلك في بلداننا المسماة بالعربية والإسلامية!

  فإن عُلِم ذلك .. ننتقل ـ بإذن الله تعالى ـ لبيان الحالات التي تنتهي بها الحياة الزوجية بين الزوجين:

  1- الطَّلاق: وهو حقٌّ للرجل، وصيغته أن يتلفظ الرجل حراً مختاراً بعبارة الطلاق لزوجته، أو ما يُماثلها من الكلمات والمعاني، سواء كان ذلك بالكتابة أو النطق؛ كأن يقول لها: أنت طالق أو مطلقة .. أو إن فعلتِ كذا وكذا أفارقك وأسرحك ويعني بذلك الحياة الزوجية .. وهذه صيغ كلها قد وردت في القرآن الكريم، كما قال تعالى:) وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (الأحزاب:49. وقال تعالى:) فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ (الطلاق:1. وقال تعالى:) أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (الطلاق:2.

أمَّا إن أتى بعبارة متشابهة حمّالة أوجه، تعني من وجه الطلاق، ومن وجه آخر تعني غير ذلك، كقول الرجل لامرأته: لن أساكنك بعد اليوم .. فقد يكون مراده الطلاق .. وقد يكون مراده أنه لن يُساكنها بعد اليوم في بيت محدد أو بلدة محددة، ونحو ذلك .. أو كأن يقول لها: الحقي بأهلِك .. فقد يكون مراده الطلاق، وقد يكون مراده الحقي بهم في سفر أو سُكْنَةٍ أو نحو ذلك .. كذلك لو قال: لا حاجة لي فيكِ .. أو ما أنت بامرأتي .. ونحو هذه الاطلاقات حمالة الأوجه والمعاني .. ففي مثل هذه الحالات والاطلاقات ينبغي أن يُراعى قصد ومراد الرجل، ويُسأل عن قصده من إطلاقه، فإن قال: أراد منه الطلاق فقد وقع الطلاق، وإن قال: أنه لم يرد منه الطلاق .. فالطلاق لا يقع، لأن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، والله تعالى أعلم.

  ـ طلاق المكرَه، والغضبان، والسَّكران: طلاق المكره لا يقع، وصورته أن يُحمَل الرجل بالقوة على أن يتلفّظ بالطلاق، فإن لم يفعل هُدِّد بالقتل أو الضرب أو السجن، وكان المهدِّد المُكرِه له قادراً على إنزال تهديده فيه، لقوله تعالى:) مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ (النحل:106. فإذا كان الإكراه مانعاً من موانع لحوق الكفر وتبعاته بصاحبه، فمن باب أولى أن يكون مانعاً من موانع لحوق الطلاق وتبعاته بصاحبه.

وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنَّ اللهَ وضَعَ عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرهوا عليه "[[4]].

أما طلاقُ الغضبان: فإن كان الرجل يعي ويعني ما يقول في حالة غضبه .. فطلاقه يَقع، فالغضب بهذه الصورة لا يمنع من وقوع الطلاق، كما لا يمنع من لحوق الوعيد أو المسؤولية في كل ما يصدر عن صاحبه من أقوال أو أعمال بسببه، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة t أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال صلى الله عليه وسلم:" لا تغضَب "، فردَّد مراراً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له:" لا تغضَب ".

أما إن كان الغضب يرقى إلى درجة الإغلاق؛ بحيث أن صاحبه لم يعد يعي ويريد ما يقول .. فلو وقع الطلاق في هذه الحالة .. فالطلاق لا يَقع؛ لأن هذه الحالة هي أقرب للجنون منها إلى التعقل، وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" رُفِع القلم عن ثلاثة ـ منهم ـ: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق .. "[[5]].

وقال صلى الله عليه وسلم:" لا طلاقَ ولا عتاق في إغلاق "[[6]]. والإغلاق أعلى درجات الغضَب؛ يُغلَق فيه على ذهن وعقل صاحبه بحيث لم يعد يدري ويعي ما يقول وما يبدر منه.

وفي الأثر عن علي t قال:" كل طلاق جائز إلا طلاق المغلوب على عقله ". وفي رواية عن البخاري:" كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه ".

وفي البخاري أيضاً، عن عُقبة بن عامر:" لا يجوز طلاقُ الموسوِسِ "، وطلاق الموسوس هو ما يقتصر على حديث النفس وحسب، ومن الوسوسة أن يُخيل للمرء أنه طلق زوجته، وفي الحقيقة أنه لم يُطلقها، فهذا طلاقه لا يقع، كما في الحديث المتفق عليه:" إنّ الله تجاوز لأمتي ما توسوس به صدورُها ما لم تعمل به أو تكلَّم ".

ونحوه الذي يبدر منه الطلاق كزلّة وسَبق لسان .. صاحبه لا يريده ولا يقصده .. فهذا من الخطأ الذي لا يُؤاخَذ عليه المرء، ولا يترتب عليه أحكام وتبعات، كما قال تعالى:) وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (الأحزاب:5. وهذا النوع من الخطأ هو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم الآنف الذكر:" وضِعَ عن أمتي الخطأ "، والله تعالى أعلم.

أما طلاق السّكران: فيه نزاع قوي، والراجح أنه لا يقع[[7]]؛ لأنه يكون في حالة السكر أشبه بالمعتوه أو المجنون الذي لا يعقل ما يقول، ولصحة الأثر عن عثمان t أنه لا يرى طلاق السكران، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفان t أنه قال:" ليس لمجنون ولا سكران طلاق ". وفي رواية عند البيهقي:" كل الطلاق جائز إلا طلاق النَّشوان، وطلاق المجنون "[[8]].

وقال ابن عباس:" طلاق السكران والمستكره ليس بجائز " البخاري.

قال ابن حجر في الفتح 9/303: ذهب إلى عدم وقوع طلاق السكران أيضاً أبو الشعثاء، وعطاء، وطاوس، وعكرمة، والقاسم، وعمر بن عبد العزيز، ذكره ابن شيبة عنهم بأسانيد صحيحة، وبه قال ربيعة، والليث، وإسحاق، والمزنيُّ، واختاره الطحاوي واحتج على أن طلاق المعتوه لا يقع، قال: والسكران معتوه بسكره ا- هـ.

وأضاف البيهقي فقال: وبه قال أُبانُ بنُ عثمان، وأبو ثور.

فإن قيل: ما حد السكر الذي لا يجوز معه الطلاق؟

أقول: السكر الذي لا يعي معه المرء ما يقول، كما قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ (النساء:43. قال ابن حجر في الفتح: فإن فيها دلالة على أن من علم ما يقول لا يكون سكراناً ا- هـ.

وفي الحديث:" رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ ".

قال ابن كثير في إرشاد الفقيه 2/191: قال الشافعي: والسكران، فما لم يكن واحداً من هؤلاء الثلاثة وقع طلاقه، وهو قولُ أكثر من لقيت من المفتين ا- هـ. فالشافعي رحمه الله يرى السكر الذي لا يجوز معه الطلاق؛ هو السكر الذي يرقى بصاحبه إلى درجة العتَه والجنون، المفقد للوعي والإدراك، والله تعالى أعلم. 

ـ طلاق الهازِل: طلاقُ الهازِل يقع، لورود النص، كما في الحديث:" ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌ، وهزلهنَّ جِد: النكاحُ، والطّلاقُ، والرَّجعةُ "[[9]].

قال ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين 3/124: وأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور، وكذلك نكاحه صحيح، كما صرّح به النص، وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين، وهو قول الجمهور ا- هـ. 

ـ الطلاق الصوري الذي يحصل أمام المحاكم الوضعية: كأن يُظهِر الرجل أمام المحاكم الوضعية أنه قد طلّق زوجته، وأن زوجته بائنة منه .. أو أن التي معه ليست زوجته .. وهو في الحقيقة غير ذلك؟

أقول: إن كان مكرهاً على التظاهر بذلك، لكي يدفع عن نفسه أو عن أهله شراً محققاً، كالسجن أو القتل أو التسفير إلى بلد الفتنة والتعذيب الذي هاجر منه .. ونحو ذلك .. فطلاقه لا يقع .. وهو معذور بالإكره .. ولا حرج عليه لو فعل، ومما يُستدل به على هذه المسألة، حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن إبراهيم u، قال صلى الله عليه وسلم:" لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ـ منها ـ: بينما هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبّار من الجبابرة، فقيل له: إنّ ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسَلَ إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال إبراهيم u: أختي ـ ولو قال له زوجته ربما لهم بقتله ليغلبه عليها ـ فأتى سارة، فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرِك، وإن هذا سألني فأخبرته أنكِ أختي، فلا تكذبينني ... " البخاري.

وفي رواية عند مسلم:" فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إنّ هذا الجبار إن يعلم أنَّكِ امرأتي يغلبني عليكِ، فإن سألكِ فأخبريه أنَّكِ أختي؛ فإنَّك أُختي في الإسلام، فإني لا أعلمُ في الأرض مسلماً غيري وغيرِكِ ... ".

أما إن كان السبب الذي يحمل الرجل على التظاهر بالطلاق .. وأن التي معه لم تعد زوجته .. من أجل أمور مادية، كتحصيل بيت إضافي أو راتبٍ إضافي .. أو لكي يتهرَّب من النفقة على أهله وأطفاله .. كما يحصل في بعض البلاد الأوربية وللأسف .. حيث أن الرجل تراه يُقدم على طلاق زوجته ـ طلاقاً صورياً غير حقيقي ـ في محاكمهم من أجل أن يحصل على بيت إضافي؛ بيت لزوجته وأبنائها، وبيت له .. ليؤجّره فيما بعد ويستفيد منه مادياً .. أو لكي يحصل على نفقات إضافية ومضاعفة لزوجته المطلقة طلاقاً صورياً، ولأبنائه!!

أقول: أولاً هذا الفعل لا يجوز الإقدام عليه؛ لأنه يدخل في خانة الكذب، والغش، والاحتيال، والغدر .. كما فيه اقتطاع لحق صادق محتاج .. ينتظر أشهراً لكي يحصل على سكن يستحقه، وهذا من الظلم.

ثانياً: فإن الطلاق الصوري الذي يقع على هذا الوجه .. ومن أجل هذه الأساب .. يقع حقيقة .. ويتحمل الرجل تبعات طلاقه كما لو طلق حقيقة، والدليل على ذلك هو الحديث الآنف الذكر:" ثلاثٌ جِدُّهنَّ جِد، وهزلهنَّ جِد: النكاح، والطلاق، والرجعة "، والله تعالى أعلم.

وكذلك يُقال فيمن يتزوج من نصرانية زواجاً صورياً ـ مستوفي الشروط والأركان الشرعية ـ أمام المحاكم الوضعية لكي يحصل على جنسية بلدها .. وغير ذلك من الخصائص المادية .. فإن زواجه يقع على الحقيقة .. وتلزمه تبعاته .. فهذه الأمور ـ وبخاصة منها التي تتعلق بالأعراض والأنساب والنسل ـ لا تقبل الهزل ولا الكذب، ولا التلاعب .. فالهزل فيها جِد .. ولا أرى شافعاً يبرر للمرء الوقوع في مثل هذه الأعمال سوى الإكراه المحقَّق، أو الراجح التحقيق، والله تعالى أعلم.

ـ الطلاقُ السُّني: يجب أن يكون الطلاق على السنة؛ وصفته أن يُقدِم الرجل على طلاق زوجته وهي في حالة طهر من الحيض، أو النفاس إن كانت نفساء، وقبل أن يقربها بجماع، فإن طلقها وهي حائض، أو طلقها بعد طهرها من دورتها، وبعد أن يكون قد اقتربها بجماع، فقد خالف السنة في الطلاق، وبالتالي فعليه أن يُراجعها .. وينتظر إلى أن تحيض، ثم تطهر من حيضتها .. وقبل أن يقتربها بجماع يُعطيها الطلاق إن شاء أن يُمضي الطلاق، لتُحسِن المرأة عدَّ العدة من غير زيادة ولا نقصان، وهي عبارة عن ثلاثة قروء، أي ثلاث دورات شهرية، وهو المراد من قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ (؛ أي مستقبلات العدة، والمرأة تكون مستقبلة العدة بعد طهر من حيض أو نفاس، وقبل أن تُمَسَّ بجماع ) وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ (الطلاق:1.

قال ابن حجر في الفتح 9/259: والمراد الأمر بحفظ ابتداء وقت العدة لئلا يلتبس الأمر بطول العدة فتتأذى بذلك المرأة ا- هـ. 

وفي الحديث، عن نافع، عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، في عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فسألَ عمرُ بنُ الخطاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" مُرْهُ فليراجعُها، ثم ليتركها حتى تطهرَ، ثم تحيضَ، ثم تطهُرَ، ثم إن شاء أمسَكَ بعدُ، وإن شاء طلَّقَ قبلَ أن يمسَّ، فتلك العِدَّة التي أمرَ الله U أن يُطلَّقَ لها النساء " مسلم. وفي رواية:" مُرْه فليُراجعها، ثم ليدَعَها حتى تطهرَ، ثم تحيضَ حيضةً اُخرى، فإذا طهرت فليُطلقها قَبل أن يُجامعها، أو يُمسِكها؛ فإنها العدةُ التي أمرَ الله أن يُطلَّقَ لها النساء "، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم:) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( " مسلم.

وفي رواية: فتغيَّظَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:" مُرهُ فليُراجعها، حتى تحيضَ حيضةً أخرى مُستَقْبَلَةً سوى حيضتها التي طلقها فيها، فإن بدا له أن يُطلقها، فليُطلقها طاهراً من حيضتها قبل أن يمسها، فذلك الطلاق للعدة كما أمرَ الله " مسلم.

وفي رواية: " مُرْه فليُراجعها ثم ليُطلقها طاهراً أو حاملاً " مسلم. 

ـ مسألة: فإن قيل: إن وقع الطلاق على خلاف السنة، هل يقع وتُحسب على صاحبها طلقة واحدة .. أم أنها لا تقع، لكونه طلاقاً بدعياً مخالفاً للسنة؟

أقول: في المسألة خلاف، والراجح الذي دلّ عليه النص أن الرجل الذي يطلق زوجته وهي حائض أو في طهر بعد جماع أن طلاقه يقع، وتُحسَب عليه طلقة واحدة .. فهو حالف السنة من جهة كيفية وقوع الطلاق، ومخالفته هذه لا تمنع عنه احتساب الطلقة، وتحمل تبعاتها.

كما في الحديث، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال:" طلقت امرأتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض ... قال عُبيد الله: قلتُ لنافع: ما صُنِعَت التطليقةُ؟ قال: واحدة اعتُدَّ بها " مسلم.

وعن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، قال: فراجعتها، وحُسِبَت لها التطليقةُ التي طلَّقتها " مسلم.

وعن سالم بن عبد الله قال: وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحُسِبَت من طلاقها، وراجعها عبد الله كما أمرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. مسلم

وعن يونُس بن جُبير قال: قلت لابن عمر: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض، أيعتد بتلك التطليقة؟ فقال: فمَه أو إن عَجَزَ واستحمَق؟ مسلم.

وفي رواية عنه: قلت لابن عمر افتُحسَبُ بها؟ فقال: ما يمنَعُهُ، أرأيت إن عجَزَ واستحمَقَ؟" مسلم.

وعن أنس بن سيرين، قال: سألت ابن عمر عن امرأته التي طلَّق .. قلت: فاعتدَدْت بتلك التطليقةِ التي طلَّقتَ وهي حائضٌ؟ قال: ما لي لا أعتدّ بها؟ وإن كنت عجَزْتُ واستحمَقت. مسلم.

وفي رواية عند البخاري ـ تحت عنوان:" إذا طُلّقَت الحائض تعتدُّ بذلك الطلاق " عن أنس بن سيرين، قلتُ: تُحتَسَب؟ قال ابن عمر: فمَه؟"[[10]].

قلتُ ـ يونس بن جبير ـ فهل عدَّ ذلك طلاقاً؟ قال: أرأيتَ إن عجَزَ أو استحمق؟!

وفي رواية: تحت عنوان باب " مراجعة الحائض " قلت ـ يُونس بن جبير ـ: فتعتدُّ بتلك التطليقة؟ قال: أرأيتَ إن عجَزَ واستحمَقَ . البخاري.

وعن سعيد بن جُبير، عن ابن عمر قال:" حُسِبَت عليَّ بتطليقةٍ " البخاري.

قال ابن حجر في الفتح 9/266: وعند الدارقطني في رواية شعبة عن أنس بن سيرين، عن ابن عمر في القصة، فقال عمر: يا رسولَ الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال:" نعم ". ورجاله إلى شعبة ثقات.

وأخرج الدارقطني من طريق يزيد بن هارون عن أبي ذئب، وابن إسحق جميعاً عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" هي واحدة ". وهذا نص في موضع الخلاف فيجب المصير إليه ا- هـ.

ومما يدل على وقوع الطلاق في حالة الحيض، أن ابن عمر إذا سُئل عن ذلك، قال لأحدهم:" أما أنت ـ أي إن كنت أنت ـ طلقت امرأتك مرةً أو مرتين، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، وإن كنت طلقتها ثلاثاً فقد حُرّمت عليك حتى تنكح زوجاً غيرَك، وعصيتَ الله فيما أمرَكَ من طلاق امرأتك " مسلم. أي قد عصيت الله تعالى في طريقة الطلاق التي أمرك الله بها .. فلم تراع السنة في طلاقك .. وطلاقك لامرأتك قد وقع، وهي بائنة منك، محرمة عليك حتى تنكح زوجاً غيرك.

فالمسألة كما ترى ـ أيها القارئ ـ مردها للنص .. ولا اجتهاد ولا قياس في مورد النص.

فإن قيل: كيف يُجَاب عن دليل المخالفين الذي رواه أبو داود، وفيه:" قال عبد الله: فردها عليّ ولم يرَها شيئاً .."؟[[11]]

أقول: يُجاب عنه من وجهين:

أولهما: من حيث السند، فيُقال: اتفاق البخاري ومسلم على رواية مقدم على رواية غيرهما في حال المخالفة واستحالة التوفيق.

ويُقال كذلك: راوي هذه العبارة " ولم يرها شيئاً " عن ابن عمر هو أبو الزبير محمد بن مسلم المكي .. ورواية نافع عن ابن عمر التي تُفيد وقوع الطلاق، واحتسابه طلقة واحدة أقوى وأثبت من حيث السند .. فكيف إذا أُضيف إلى نافع، رواية يونس بن جبير، وسعيد بن جبير، وأنس بن سيرين، والزهري، وسالم بن عبد الله عن ابن عمر .. كما تقدم بيانها .. لا شك أن رواية هؤلاء مجتمعين من حيث السند أقوى بكثير من رواية أبي الزبير منفرداً.

قال ابن حجر في الفتح 9/266: قال أبو داود: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة، وأحاديثهم كلها على خلاف ما قال أبو الزبير. وقال ابن عبد البَر: قوله " ولم يرها شيئاً " منكر لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه. وقال الخطابي: قال أهل الحديث: لم يروِ أبو الزبير حديثاً أنكَرَ من هذا.

ونقل البيهقي في " المعرفة " عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير، فقال: نافع أثبت من ابي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يُؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافع غيره من أهل الثبت ا- هـ.

ثانياً: من حيث المعنى والدلالة، فقوله " ولم يرها شيئاً "؛ يمكن تأويله وحمله على معنى لا يتعارض مع النصوص والروايات الأخرى التي تفيد وقوع الطلاق طلقة واحدة .. وهو المطلوب في حال القدرة على التوفيق قبل اللجوء إلى اسقاط أحد القولين أو إحدى الروايتين، دفعاً للتعارض.

فقوله " ولم يرها شيئاً "؛ أي لم يرها شيئاً صحيحاً تبتدئ المرأة به احتساب عدتها، أو يجوز اللجوء إليه؛ لاحتمال وقوع الخطأ أو الظلم في احتساب العدة .. فالنهي الوارد يعني النهي عن الفعل واللجوء إليه، لا النهي عما يترتب عليه من أحكام.

قال ابن حجر في الفتح 9/266: قال ابن عبد البَر: ولو صحّ فمعناه عندي والله أعلم: ولم يرها شيئاً مستقيماً لكونها لم تقع على السنة. وقال الخطابي: يُحتمَل أن يكون معناه: ولم يرها شيئاً تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئاً جائزاً في السنة ماضياً في الاختيار، وإن كان لازماً له مع الكراهة.

وقال الشافعي:" لم يرها شيئاً "؛ لم يعدها شيئاً صواباً غير خطأ، بل يُؤمر صاحبه أن لا يُقيم عليه لأنه أمره بالمراجعة، ولو كان طلقها طاهراً لم يُؤمر بذلك، فهو كما يُقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه لم يصنع شيئاً؛ أي لم يصنع شيئاً صواباً ا- هـ.

ويُقال كذلك: من لوازم القول بأن الطلاق البدعي لا يقع، القول بأن طلاق الهازل لا يقع، وهذا مخالف للنص الدال على أن طلاق الهزل يقع.

فالهازل في طلاقه لا يمكن أن يقع على السنّة ثم يُسمى في طلاقه أنه هازل أو طلاق هزل، فالطلاق السني لا يصدر عن صاحبه إلا بعد طول تأمل، ومراجعة للنفس، وطول انتظار وترقّب لحال المرأة، وطهرها .. وأنَّى للهازل وطلاقه .. أن يقع على هذا الوجه والصفة .. ومع ذلك دل النص على أن طلاقه يقع، والله تعالى أعلم.

ـ خطأ يقع به المخالفون: من الأخطاء الشائعة التي يقع بها بعض المخالفين المعاصرين في المسألة .. أنهم يُفتون من طلّق طلاقاً بدعياً .. ويكون قد مضى على طلاقه عدة أشهر .. أن يُراجع زوجته .. من دون أن تُحسَب له طلقة .. وأن يُعاود ـ إن شاء ـ فيُطلق طلاقاً سنياً .. ويبتدئ العد للعدّة من جديد .. وهذا مخالف للنص وللسنة .. وللقصد من العمل بالطلاق السني، وهو عدم ظلم المرأة باعتدادها العدة لفترة أطول مما هو مقرر عليها في الكتاب والسنة.

فالأمر بالمراجعة يكون في الأيام الأولى من وقوع الطلاق البدعي؛ والمرأة لا تزال في حيضتها .. أو قبل أن تحيض، وتستقبل طهراً جديداً .. أما إن حاضت وطهرت .. ثم حاضت وطهرت .. فحينئذٍ لا يجوز أن يُقال لها ارجعي إلى الوراء .. وابتدئي العد للعدة من جديد .. بعد أن يُطلقك زوجك ـ من جديد ـ طلاقاً سنياً .. فتكون المرأة حينئذٍ وكأنها حقل تجارب لجهل الرجل .. وما أكثر الجهال والفساق المتهاونين بأحكام في زماننا .. فهذا لا يجوز لما فيه من ظلم للمرأة، ومخالفة للنص الذي أمر بإحصاء العدة، والله تعالى أعلم.

قال ابن حجر في الفتح 9/261: فلو تمادى الذي طلق في الحيض حتى طهرت، قال مالك وأصحابه: يُجبَر على الرجعة أيضاً، وقال أشهب منهم: إذا طهرت انتهى الأمر بالرجعة، واتفقوا على أنها إذا انقضت عدتها أن لا رجعة ا- هـ.

فتأمل قول أهل العلم وخلافهم في تحديد الفترة التي يُؤمَر فيها الرجلُ بالمراجعة .. فهو يدور حول أيام من طهر المرأة من حيضتها الأولى من زمن الطلاق .. وليس بعد أشهر من زمن وقوع الطلاق!

فإن قيل: ما هي الغاية من الطلاق السني، وأمر الرجل بأن يُراجع زوجته ويُطلقها طلاقاً سنياً؟

أقول: أمر الرجل بأن يُرجِع زوجته ويطلقها طلاقاً سنياً .. له أغراض عدة:

منها: إحصاء العدة، وتحديد ابتداؤها من غير زيادة ولا نقصان، كما قال تعالى:) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ (البقرة:228. أي ثلاث دورات شهرية يبتدئ عدها من حين بدئ الطلاق.

ومنها: التأكد من براءة الرحم من الحمل، وحتى لا تختلط الأنساب.

ومنها: أن الأمر بالرجعة وموافقة السنة في الطلاق .. فيه إعطاء فرصة كافية للرجل لمراجعة نفسه، وتقدير العواقب، والمصالح من المفاسد .. قبل أن يُصدر قراره بالإمساك أو الطلاق.

ومنها: أن الأمر بالرجعة وموافقة السنة في الطلاق .. هو أمر بإمساك الزوجة فترة عدتها .. عسى أن يرى فيها خلال هذه الفترة من طهرها ما يحمله على مراجعتها .. لذا فإن الحديث قدّم الإمساك على الطلاق، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:" ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمس "؛ فهي إذاً فرصة أخيرة للإمساك، والمحافظة على الحياة الزوجية، والله تعالى أعلم.

ـ طلاق الثلاثة في وقت واحدٍ ومجلس واحد: كأن يتلفظ الرجل بالطلاق ثلاثاً، أو أن يقول لزوجته أنت طالق بالثلاثة .. فهذا النوع من الطلاق خطأ .. لا يجوز .. وهو مخالف للسنة .. لكنه من حيث الاحتساب يُحسب طلقة واحدة فقط، كما في الحديث، عن ابن عباس قال: كان الطلاقُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمرَ، طلاقُ الثلاثة واحدةً، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم " مسلم. فأمضاه عليهم تأديباً وزجراً لهم، على استخفافهم بالأحكام الشرعية، وبالسعة التي منحهم إياها الشارع[[12]].

وفي مسند الإمام أحمد، عن ابن عباس قال: طلَّق رُكانةُ بنُ يزيد أخو بني مُطَّلِب امرأتَه ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، قال: فسأله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" كيف طلَّقتها؟" قال: طلقتها ثلاثاً، قال: فقال:" في مجلسٍ واحدٍ؟" قال: نعم. قال:" فإنما تلك واحدةٌ، فارجِعْها إن شئت "، قال: فرَجَعَها، فكان ابن عباس يرى أنّما الطلاق عند كل طهرٍ[[13]].

ـ طلاق الحامل، أو المرأة التي لا تحيض: لا يُشترط في طلاق المرأة الحامل أو المرأة التي لا تحيض، ما يُشترط في طلاق المرأة التي تحيض .. لأن احتساب العدة للمرأة الحامل أو المرأة التي لا تحيض يختلف عن احتسابها عند المرأة التي تحيض .. وبالتالي فإن طلاق المرأة الحامل أو المرأة التي لا تحيض يَقع ويُحتسب في أي وقت يقع الطلاق باتفاق جميع أهل العلم، لقوله صلى الله عليه وسلم:" " مُرْه فليُراجعها ثم ليُطلقها طاهراً أو حاملاً " مسلم.

وعِدّة المرأة الحامل إلى أن تضع حملها .. سواء استغرق ذلك منها ثمانية أشهر .. أو عدة أسابيع أو أيام من حين طلاقها، أما المرأة التي لا تحيض أو يأست من المحيض فعدتها ثلاثة أشهر من حين طلاقها، كما قال تعالى:)  وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (الطلاق:4.

فلو كرر الرجل الطلاق خلال الحمل أو خلال عدتها .. قبل أن يُراجعها ويُعيدها إلى ذمته .. فطلاقه الثاني والثالث والعاشر لا يُحتَسب؛ وهو مثله مثل من يطلق ثلاثاً في وقت ومجلس واحد؛ لأنه يُطلق من ليس في ذمته وما لا يملك .. وقبل أن يُعيدها إلى ذمته .. وقبل أن تُنهي المرأة عدتها من الطلقة الأولى، إذ لا يجوز إدخال عدة على عدة قبل أن تنتهي عدة الطلقة الأولى إما بالمراجعة وإما بانقضاء الأجَل .. وقد تقدم معنا قول ابن عباس:" أنما الطّلاق عند كل طهرٍ ". وفي الحديث:" لا طلاق فيما لا يملك "[[14]]. وفي رواية:" لا طلاق قبل نكاح ". أي قبل عقد نكاح يجعل المرأة في ذمة زوجها. 

فمثلاً: لو طلق الرجل زوجته الحامل ـ أو المعتدة لثلاثة أشهر ـ ثم بعد أيام راجعها وأعادها إلى ذمته .. ثم بعد أن راجعها بأيام أو بساعات عاد فطلقها .. فطلاقه الثاني يقع .. ثم هو بعد أيام لو راجعها وأعادها إلى ذمته .. ثم بعد أن راجعها بأيام أو بساعات عاد فطلقها .. فطلاقه الثالث يقع .. وحينئذٍ تبين منه زوجته بينونة كبرى؛ إذ لم يعد يحق له أن يراجعها .. كما لا يكون للمرأة حينئذٍ عدة تعتدها من أجل المراجعة .. ولا أن يعقد عليها ثانية إلا بعد أن تتزوج من رجل آخر .. ثم أن الآخر يُطلقها على غير ميعاد أو اتفاق بينه وبين الزوج الأول، كما قال تعالى:) الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (البقرة:229. فهاتان الطلقتان هما اللتان تجوز فيهما المراجعة، والإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ) فَإِن طَلَّقَهَا ( في الثالثة ) فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ( فيذوق عُسيلَتها وتذوق عُسيلَته؛ إذ لا يجوز أن يكون عقد النكاح صورياً، كما في الحديث:"لا تحلُّ للأول حتى تذوقَ عُسَيْلَةَ الآخر، ويذوق عُسَيْلَتَها " متفق عليه. ) فَإِن طَلَّقَهَا ( أي الزوج الثاني ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ( فترجع المرأة إلى زوجها الأول بعقد جديد ) إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (البقرة:230.

ـ طلاق المرأة التي لم يُدخَل بها: وهي المرأة التي يُعقَد عليها ثم تُطلّق قبل أن تنتقل للبيت الزوجية مع زوجها، وقبل الدخول بها .. فهذه ليست عليها عدة تعتد بها .. وبالتالي لا يحق للرجل مراجعتها إلا بعقدٍ جديد .. وحقها من مهرها المتفق عليه النصف، إلا أن تعفو المرأة فتتنازل عن حقها، أو يعفو الرجل الذي بيده عقدة النكاح؛ فيعطيها كامل المهر، متنازلاً لها عن النصف الذي يستحقه  .. والذي يعفو منهما يكون السبَّاق إلى الخير، وهو الأقرب للتقوى، كما قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (الأحزاب:49.

وقال تعالى:) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( هذا هو الواجب؛ نصف المهر ) إَلاَّ أَن يَعْفُونَ ( أي النساء أو المرأة فتتنازل عن نصف المهر الذي تستحقه ) أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ( وهو الزوج فيعفو عن حقه؛ فلا يسترد النصف الآخر من المهر ) وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( وهذا لمن سبق منهما للعفو ) وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (البقرة:237. 

وهذه حالة تختلف عن حالة المرأة التي يتوفى عنها زوجها من غير طلاق ولا دخول بها .. فهذه لها الصداق كاملاً، ولها الميراث، وعليها العدة، كما في الحديث عن عبد الله بن مسعود t أنه سُئل عن رجل تزوّج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها. قال: فقال عبد الله: لها الصداق، ولها الميراث، وعليها العدة. فقال معقل بن سنان الأشْجَعيُّ: شهدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى في بِرْوَع بنتِ واشِقٍ بمثل ذلك[[15]].

ـ أين تُقضَى العِدَّة: المطلقة تقضي عدتها في بيت زوجها، لا يجوز إخراجها منه، كما يفعل كثير من العوام؛ لمجرد أن يتلفظ أحدهم بالطلاق، يرسل امرأته إلى بيت أبيها لتقضي عدتها فيه، وهذا خطأ كبير يتنافى مع غايات ومقاصد العِدّة، والتي منها إعطاء فرصة أخيرة للزوج في أن يُراجع نفسه وقراره، عسَاه أن يُراجع زوجته، قال تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ ( فلا يجوز للرجل أن يُخرج امرأته من بيتها فترة العدة ) وَلَا يَخْرُجْنَ (؛ ولا هي أيضاً تخرج من بيتها لاحتمال أن يعود إليها زوجها فيراجعها ) إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ( كالنشوز والعصيان والتطاول الذي تستحيل معه المراجعة، وقيل: خروجها من بيتها في العدة ـ من تلقاء نفسها ـ بغير حق .. قال القرطبي في التفسير: وعن ابن عمر أيضا والسدي: الفاحشة خروجها من بيتها في العدة. وتقدير الآية: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن بغير حق؛ أي لو خرجت كانت عاصية ... قال ابن العربي: وأما من قال ـ أي فسر الفاحشة ـ: إنه الخروج بغير حق؛ فهو صحيح. وتقدير الكلام: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعاً إلا أن يخرجن تعدياً ا- هـ.

) وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً(الطلاق:1. أي لعل الله يُقدِّر أن يراجع الرجل امرأته، فتلتئم بمراجعته لها الحياة الزوجية من جديد.

ومن حديث ابن عمر المتفق عليه:" مُرْهُ فليُراجعها، ثم ليُمْسِكْها حتى تطهُر ". وهذا دليل في وجوب بقاء المرأة في بيتها؛ بيت الزوجية طيلة فترة عدة الطلاق.

ـ وجوب النفقة: ثم كما تجب لها السكنى، كذلك تجب لها النفقة، وهي ترث زوجها لو مات عنها في فترة العدة قبل انقضائها، وهذا باتفاق جميع أهل العلم .. وهذه النفقة هي بمثابة دين في رقبة الرجل من ساعة بدئ الطلاق إلى ساعة انقضاء العدة، لا يسقطها قضاء قاضٍ، كما لا تسقط بالتقادم وطول الزمن.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنما النفقة والسُّكنى للمرأة، إذا كان لزوجها عليها الرجعَةُ "[[16]]. أما إن كان زوجها ليس له عليها رجعة؛ فطلقها ثلاثاً، وبانت منه بينونة كبرى، فليس عليها عدة المطلقة طلاقاً رجعياً، وبالتالي ليس لها عليه نفقة ولا سكنى، كما في الحديث عن فاطمة بنت قيس:" أن زوجها طلقها ثلاثاً، فلم يجعل لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى "[[17]].

وفي رواية: فانطلق خالد بن الوليد في نفرٍ من بني مخزوم إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله إن أبا عمرو بن حفص طلّق فاطمة ثلاثاً، فهل لها نفقة؟ فقال:" ليس لها نفقة، ولا سُكنى "[[18]]. إلا إذا كانت حاملاً، فحينئذٍ تجب لها النفقة إلى أن تضع حملها، كما قال تعالى:) فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (الطلاق:6.

قال ابن كثير في التفسير: قال كثير من العلماء منهم ابن عباس وطائفة من السلف وجماعات من الخلف: هذه في البائن إن كانت حاملاً أنفق عليها حتى تضع حملها، قالوا بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء كانت حاملاً أو حائلاً ا- هـ.

ـ كيف تقضي المطلقة عدتها في بيتها؟

قيل في المسألة كلام كثير؛ فمن أهل العلم ـ كالمالكية ـ مَن منع من الخلوة بها، وأن لا يدخل عليها إلا بإذنها، ولا أن ينظر إلى شعرها، وأن لا يبيت معها في بيت، وينتقل عنها وغير ذلك .. والحق أن هذا القول ليس عليه دليل، وهو يتنافى مع الحكمة من الإمساك، والترغيب بالمراجعة والإصلاح .. ومن أهل العلم من ارتأى أن تبقى المرأة على عادتها من اللباس، والتزين .. من غير تكلف ولا تهتك .. والرجل كذلك يبقى كعادته في الدخول والخروج والمبيت .. إلا أنه لا يبيت معها في غرفة واحدة، ولا على فراش واحد ولا يقربها بوطئٍ أو نحوه إلا إذا شاء أن يُرجعها إلى ذمته .. ولعل هذا القول هو الأقرب إلى الحق والصواب، والموافق لدلالات ومعنى قوله تعالى:) لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (الطلاق:1. ومعنى قوله تعالى:) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم (الطلاق:6. ولمعنى وغايات " الإمساك " الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم.

قال القرطبي في التفسير: قال سعيد بن المسيب: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة فإنه يستأذن عليها، وتلبس ما شاءت من الثياب والحلي، فإن لم يكن لهما إلا بيت واحد فليجعلا بينهما ستراً، ويسلم إذا دخل، ونحوه عن قتادة، ويشعرها إذا دخل بالتنخم والتنحنح ا- هـ.

ـ كيف تتم مراجعة الرجل لامرأته؟

للزوج حق مراجعة امرأته إلى ذمته، لقوله تعالى:) وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً (البقرة:228. ويتم الإرجاع بما ينكسر به الطلاق ويلغيه، ولا ينكسر الطلاق الرجعي إلا بتعبير صريح يُضاده، كقوله: راجعتك أو أرجعتك إلى ذمتي كزوجة، أو عودي إلي كزوجة، فقد تراجعت عن طلاقي، ونحو ذلك من العبارات المتقاربة في المعنى والدلالة. أو بالوطئ والجماع .. فإن حصل واحد من الأمرين ـ قبل انقضاء العدة ـ انكسر الطلاق، وتمَّت المراجعة، وعادت المرأة إلى زوجها، ليستأنفا معاً حياة زوجية من جديد.

وفي الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره، عن عمران بن حُصين، سُئل عن الرجل يُطلّق امرأته، ثم يقع بها، ولم يُشهِد على طلاقها، ولا على رجعتها، فقال: طلَّقت لغير سنَّة، وراجعتَ لغير سنَّة، أشهِد على طلاقها، وعلى رجعتها، ولا تَعُدْ [[19]]. فتأمل قوله " ثم يقع بها " كيف اعتبره بمثابة إرجاع لها .. حيث أن الصحابي عمران بن حصين t لم يقل أن مجرد الوقوع بها لا يُعد ولا يُعتبر إرجاعاً لها إلى زوجها.  

وقوله تعالى:) إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً (؛ شرط يفيد أن حق الرد للرجل مقيد ومشروط بإرادة الإصلاح؛ ومن الإصلاح أن ترجع إليه امرأته كزوجة يعرف لها حقوقها الشرعية .. أما إن أراد من الإرجاع الأذى والضرر والإعضال .. ويجعلها كالمعلَّقة؛ فلا هي زوجة، ولا هي مُطلَّقة .. فهذا ليس ممن أرادوا إصلاحاً .. وبالتالي لا يحق له أن يُرجع زوجته على هذه النية وهذا القصد؛ قصد الإضرار والإعضال، ولو أرجعها على هذا القصد، وعُرِف عنه ذلك لا يُقبل منه، وطُلِّقَت منه رغماً عن أنفه، لقوله تعالى:) وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (البقرة:231. ولقوله تعالى:) وَلَا تُضَارُّوهُنَّ (الطلاق:6. ولقوله تعالى:) وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ (النساء:19.

قال ابن كثير في التفسير:) إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً (؛ أي زوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها، إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير ا- هـ.

وقال الشوكاني:) إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً (؛ أي بالمراجعة: أي إصلاح حاله معها، وحالها معه، فإن قصد الإضرار بها فهي محرمة لقوله تعالى:) وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ (.ا- هـ.

وقال البغوي:) إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً (؛ أي إن أرادوا بالرجعة الصلاح وحسن العشرة، لا الإضرار كما كانوا يفعلونه في الجاهلية ا- هـ.

وقال عبد الرحمن السعدي في التفسير:) إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً (؛ أي رغبة وإلفة ومودة، ومفهوم الآية أنهم إن لم يريدوا الإصلاح، فليسوا بأحق بردهنّ؛ فلا يحل لهم ان يُراجعوهن لقضاء المضرة لها، وتطويل العدة عليها.

وهل يملك ذلك مع هذا القصد؟ فيه قولان: الجمهور على أنه يملك ذلك مع التحريم، والصحيح أنه إذا لم يرد الإصلاح لا يملك ذلك، كما هو ظاهر الآية الكريمة ا- هـ.

قلت: والصحيح ما رجحه وصححه الشيخ السعدي رحمه الله؛ لأن ليس الغرض من الإرجاع مجرد الإرجاع وعلى أي وصف كان .. فهكذا إرجاع لا تُحَل به مشكلة .. ولا يتحقق منه المراد الشرعي من الإرجاع؛ وهو استئناف حياة زوجية جديدة صالحة، قائمة على الود والإلفة والخير، وخالية من المشاكل التي أوصلت الزوجين إلى مرحلة الطلاق ومن ثم مرحلة الإرجاع .. بل هو يُفاقم المشاكل ويُكثرها .. ويُطيل من أمدها .. ويزيدها تعقيداً .. والله I لا يرضى بهكذا إرجاع قائم على الضرر والظلم .. ثم هو مع ذلك لا يؤدي الغرض المرجو منه .. وفي الحديث القدسي:" يا عبادي إني حرَّمت الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا " مسلم.

ـ تنبيه: إذا جحد الرجل طلاقه، وأنه لم يُطلّق امرأته .. فهذا لا حق له في الإرجاع؛ لأن الإرجاع يكون بعد طلاق، وبعد الاعتراف بالطلاق .. وهذا يُنكر أنه قد طلّق .. فكيف يُرجِع من لم يطلّق .. ولا يعترف بأنه طلَّقَ .. وبالتالي لا تُجرى عليه أحكام الإرجاع، الواردة أعلاه!

ـ الإشهاد على الطلاق، وعلى الرجعة: يجب الإشهاد على الطلاق، وعلى الرجعة بشاهدي عَدلٍ، لألاّ يجحد الرجل طلاقه إذا طلق، أو إذا بلغت عدد طلقاته ثلاث طلقات، أو يجحد إرجاعه لزوجته في حال أرجعها .. فتضيع بذلك الحقوق، ويختلط النسل، وبخاصة أننا في الزمان الذي فُقِدت فيه الأمانة ومنذ أمدٍ بعيد، كما قال تعالى:) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ (الطلاق:2. أي على الطلاق أو الإمساك والإرجاع.

وقد تقدم معنا حديث عمران بن حُصين، عندما سُئل عن الرجل يُطلّق امرأته، ثم يقع بها، ولم يُشهِد على طلاقها، ولا على رجعتها، فقال: طلَّقت لغير سنَّة، وراجعتَ لغير سنَّة، أشهِد على طلاقها، وعلى رجعتها، ولا تَعُدْ [[20]].

قال القرطبي في التفسير: قال المهلب: وكل من راجع في العدة فإنه لا يلزمه شيء من أحكام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط، وهذا إجماع من العلماء، لقوله تعالى:) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ (. فقال مالك: وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد، وبه قال إسحاق ا- هـ.

وقال ابن كثير: ومن ههنا ذهب الشافعي في أحد قوليه إلى وجوب الإشهاد في الرجعة كما يجب عنده في ابتداء النكاح، وقد قال بهذا طائفة من العلماء ومن قال بهذا يقول: إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها ا- هـ.

ـ الوكالة والتفويض في الطلاق:  يجوز للرجل أن يكل أمر طلاقه إلى غيره، كما يجوز له أن يخير زوجته ويجعل خيار الطلاق بيدها إن شاءته، كما قال تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً . وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (الأحزاب:29. فخيرهن النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الأمر إليهن، فاخترنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقالت عائشة رضي الله عنها:" بل أريدُ الله، ورسولَه، والدار الآخرة. قالت: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت " البخاري. فكلهنّ اخترن الله ورسولَه، والدار الآخرة.

وقالت رضي الله عنها:" خيَّرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاخترناهُ، فلم يعدَّهُ طلاقاً " مسلم.

قال محمد صديق خان في الروضة الندية 2/119: وقد سُئل أبو هريرة، وابن عباس، وعمرو بن العاص عن رجلٍ جعل أمر امرأته بيد أبيه فأجازوا طلاقه، كما أخرجه أبو بكر البرقاني في كتابه المخرّج على الصحيحين ا- هـ.

ـ في حال انتهاء العدة: إذا انتهت العدة من غير مراجعة انتهت العلاقة الزوجية بين الزوجين، وفُرِّق بينهما، واحتجبت المرأة عن الرجل كلياً، وأصبح كل منهما أجنبياً على الآخر، ولا يتوارثان، ولا يحل أحدهما للآخر إلا بعقد جديد مستوفي الشروط والأركان، كما قال تعالى:) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ (أي اقتربن من إنهاء عدتهنّ ) فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( فراجعوهن وعاشروهن بمعروف من غير إضرار ) أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (؛ أي اتركوهنّ بانقضاء نهاية العدة، من غير أذى ولا ضرر، ولا فجور في خصام، ليغني الله كلاً من سعته وفضله، إذ لم يعد لكم عليهن ـ بعد انقضاء العدة ـ سلطاناً ولا حقاً، لذلك قال بعد ذلك:) وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (البقرة:231.

قال ابن كثير في التفسير: هذا أمر من الله U للرجال، إذا طلق أحدهم المرأة طلاقاً له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها؛ أي يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروفٍ وهو أن يشهد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها؛ أي يتركها حتى تنقضي عدتها ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن من غير شقاقٍ ولا مخاصمة ولا تقابح ا- هـ.

ـ تمتيع المطلّقة: يجب أن تُمتَّع المرأة المطلقة بمالٍ غير المهر المستحق، جبراً لخاطرها، وعوناً لها على مرحلة ما بعد الطلاق، كما قال تعالى:) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (البقرة:241. أي فرضاً واجباً على المؤمنين.

قال ابن كثير: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما نزل قوله تعالى:) مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (، قال رجل: إن شئت أحسنت ففعلت، وإن شئت لم أفعل، فأنزل الله هذه الاَية ) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (. وقد استدل بهذه الاَية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة سواء كانت مفوضة، أو مفروضاً لها، أو مطلقة قبل المسيس، أو مدخولاً بها وهو قول عن الشافعي رحمه الله، وإليه ذهب سعيد بن جبير، وغيره من السلف، واختاره ابن جرير ا- هـ.

قال ابن حزم في المحلى 10/3: المتعة فرض على كل مُطلِّق واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً، أو آخر ثلاث، وطئها أو لم يطأها، فرَض لها صداقها أو لم يفرض لها شيئاً، أن يمتعها، وكذلك المفتدية أيضاً، ويجبره الحاكم على ذلك، أحبَّ أم كره ا- هـ.

فإن قيل: كم قدر هذا المبلغ أو المال الذي تُمتَّع به المرأة المطلّقة؟

أقول: لم تحدده الشريعة، وإنما تركته بحسب قدرة واستطاعة الرجل؛ إن كان غنياً زاد بما يتناسب مع غناه، وإن كان فقيراً متَّع على قدر طاقته، كما قال تعالى:) وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (البقرة:236.

قلت: وما أقل الرجال في زماننا الذين يلتزمون بهذا الواجب " نفقة المتعة " .. إذ ترى أحدهم ـ شحاً، وحباً من عند نفسه بالتشفي والانتقام من مطلقته ـ يتهرب من كل نفقة تفرضها عليه الشريعة، وهو إذا نظر إلى ما توجب له الشريعة من حق .. قال: الشريعة تحكم لي بكذا وكذا .. وأنا أريد حكم الشريعة .. وإذا نظر إلى ما توجب عليه الشريعة من حق لمطلقته .. نأى وأعرض .. وخَنَس .. وتهرَّب .. وكأنه غير معني من الخطاب الشرعي، وهؤلاء لا يحسبنَّ أنفسهم على خير، قال تعالى:) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (النساء:65.

ـ التحريم: وصيغته أن يقول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ حرامٌ. أو أن يقول: كما هو دارج عند العوام " تحرَمين عليّ " فهذا ليس بطلاق، وإنما هو يمين، كفارته كفارة يمن.

قال تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (التحريم:1-2. فعدَّ التحريم يميناً كفارته كفارة يمين.

وعن ابن عباس، قال:" إذا حرَّم الرجلُ عليه امرأتَهُ فهي يمينٌ يُكفِّرها، وقال:) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب:21. مسلم.

وفي رواية عند البخاري: عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يقول: إذا حرَّمَ امرأتَهُ ليس بشيءٍ، وقال:) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب:21. أي كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كفَّرَ عن تحريمه بكفّارة يمين .. فأنتم لكم فيه أسوة حسنة.

فإن قيل: فما هي كفَّارة اليمين ..؟

أقول: كفارة اليمين بالتسلسل: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، كما قال تعالى:) لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ (المائدة:89.

ـ الإيلاء: نوع من الهجر؛ وصفته أن يحلف الرجل أن لا يقترب من زوجته بنكاح .. فهذا إن وقّت هجره واعتزاله بأربعة أشهر فما دون اعتزَل حتى ينقضي التوقيت الذي وقّته .. فإن زاد على أربعة أشهر مُنِعَ ـ وكفَّر عن يمينه ـ وخُيّر بين أن يعود إلى زوجته، ليعاشرها معاشرة الأزواج لنسائهم .. أو يُطلِّق، وليس له خيار ثالث، كما قال تعالى:) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة:226-227. فهو ـ بعد أربعة أشهر ـ بين خيارين: إما أن يفيء، وإما أن يعزم الطلاق.

قال ابن كثير في التفسير: إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر إما أن يفيء؛ أي يجامع، وإما أن يطلق فيجبره الحاكم على هذا، وهذا لئلا يضر بها ا- هـ. 

أخرج البخاري في صحيحه، أن ابن عمر كان يقول في الإيلاء الذي سمَّى الله: لا يحلُّ لأحدٍ بعدَ الأجل إلا أن يُمْسِك بالمعروف أو يعزِم الطلاق كما أمرَ الله عزَّ وجَل.

وفي رواية عنه ـ عند البخاري كذلك ـ: إذا مضت أربعةُ أشهرٍ يُوقَفُ حتى يُطلِّق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يُطلّق. قال البخاري: ويُذكَر ذلك عن عثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعائشة، واثني عشرَ رجلاً من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

قلت: أين هؤلاء الرجال الذين يهجرون نساءهم لأكثر من أربعة أشهر ـ بل ربما يمتد هجرهم لسنة وأكثر ـ من هذه التعاليم الشرعية العظيمة .. مستغلين ما لهم من حقٍّ استغلالاً خاطئاً، وما أكثرهم في زماننا وللأسف؛ فلا هم يُعاشرون نساءهم بمعروف .. ولا هم يُطلّقون ويسرحون بمعروف .. وإنما يقفون بين المنزلتين .. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ فيذرونها كالمعلّقة؛ فلا هي تُحسَب كزوجة .. فتعيش حياة المتزوجات .. ولا هي تُحسَب كمطلقة لتنظر في نفسها .. عسى الله تعالى أن يغنيها من فضله .. وبما هو خير لها من ظالمها ومعضِلها!

فإن قيل: فإن عزم على الهجر من غير يمين ..؟

أقول: لا يختلف حكمه عمن يهجر بيمين .. سوى أن الذي يهجر بيمين يكفّر عن يمينه إن لم يوفِّ به .. فمناط الحكم على الهجر ومدته .. وعلى النظر في مصلحة المرأة ومدى حصول الضرر عليها من جراء الهجر .. وليس على اليمين، والله تعالى أعلم.

ـ الظِّهار: صفته أن يقول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي!، وهذا خطأ كبير لا يجوز الإقدام عليه، كفارته عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فيُطعم ستين مسكيناً، وذلك قبل أن يعود فيُقارب زوجته بجماع، كما قال تعالى:) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ . فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المجادلة:3-4.

وفي الحديث عن سلمان بن صخر الأنصاري أنه جعل امرأته عليه كظهر أمه حتى يمضي رمضان، فلما مضى نصفٌ من رمضان وقع عليها ليلاً. فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"  أعتِق رقبةً "، قال: لا أجدها، قال:" فصُم شهرين مُتَتابعَين "، قال: لا أستطيع، قال:" أطعم ستِّيَن مسكيناً "، قال: لا أجد. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لفروة بن عمرو: أعطِه ذلك العَرَق ـ وهو مكتلٌ يأخذ خمسة عشر صاعاً أو ستة عشر صاعاً ـ إطعامَ ستينَ مسكيناً "[[21]].  

2- الخلْعُ: هو الحالة الثانية ـ غير الطلاق ـ التي بها تنتهي الحياة الزوجية بين الزوجين، وهو حق خالص للمرأة، إذا وُجِدَت مبرراته الشرعية، وخشيت على نفسها الفتنة في دينها، وعدم قدرتها على القيام بالحقوق الزوجية، وبما يتعين عليها نحو زوجها .. فلها حينئذٍ أن تخلع زوجها وتفدي نفسها منه ببعض المهر الذي أخذته منه، أو بكله من دون أن تزيد عليه.

والأصل في المخالعة أن تتم برضا الزوجين .. فإن أبى الزوج، وحصل الشقاق والخلاف بين الزوجين، واشتدت مبررات المخالعة، ودعت الضرورة والحاجة إليه .. وبخاصة إن ظهرت من الرجل قرائن تدل على رغبته في إعضال المرأة والإضرار بها .. وأنه لا يمكن أن يُمسكها بمعروف .. خلعها القضاء الإسلامي منه رغماً عنه، سواء وافق على المخالعة أم لم يوافق .. هذا إيجاز .. وإليك تفصيله بأدلته:

ـ الدليل على جواز المخالعة عند حصول دواعيه: قال تعالى:) وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ( أي من المهر ) إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ( فلا يقوم كل منهما ما للآخر عليه من حقوق شرعها الله تعالى ) فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ( من مال المهر )تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (البقرة:229.

قال ابن كثير في التفسير: وأما إذا تشاقق الزوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها له، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها ا- هـ.

وقال السعدي: وهي المخالعة بالمعروف؛ بأن كرهت الزوجة زوجها لخلقه أو خُلقه أو نقص دينه، وخافت أن لا تطيع الله فيه ا- هـ.

وقال تعالى:) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً (النساء:35. وقد تقدم معنا أن الحكمين من صلاحيتهما أن يجمعا بين الزوجين، أو أن يفرقا بينهما بطلاق، أو بمخالعة .. وأن يقدرا حجم مسؤولية المرأة ودورها في حصول الشّقاق .. وبالتالي تقدير كم تفتدي نفسها منه .. هل بكامل مهرها أم ببعضه .. وذلك بحسب ما يظهر ويرجح لهما.

قال البخاري في صحيحه:" وأجاز عمر الخلع دونَ السلطان ".

وفي الحديث، أن امرأةَ ثابت بن قيسٍ أتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله، ثابتُ بنُ قيسٍ ما أعتب عليه في خُلُقٍ ولا دين، ولكني أكره الكفرَ في الإسلام ـ وفي رواية: إلا أني أخافُ الكفرَ ـ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" أتردين عليه حديقتَهُ ؟" ـ وهو مهرها ـ قالت: نعم، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" اقبل الحديقةَ، وطلقها تطليقةً " البخاري.

وفي رواية:" فقالت: يا رسولَ الله، إني لا أعتبُ على ثابت في دينٍ ولا خُلُق، ولكني لا أُطيقُهُ " البخاري.

وفي رواية عن ابن ماجة:" فقالت: ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضاً، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتَردِّين عليه حديقتَهُ؟ قالت: نعم، فأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته، ولا يزداد ". أي أن لا يزداد فيأخذ منها أكثر مما أعطاها إياه كمهر وهو " الحديقة "[[22]]. 

وقولها: لا أطيقه بغضاً "؛ أي لا أطيقُ العيش معه بغضاً له، وأنا أخشى بسبب ذلك أن لا أقوم بحقوقه علي .. فأقع بسبب ذلك في الكفر .. وأنا أكره الكفر بعد أن هداني الله إلى الإسلام.

وفي رواية عند النسائي: أنَّ ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسرَ يدَها، فأتى أخوها يشتكيه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت، فقال:" خُذ الذي لها عليك وخلّ سبيلها "، قال: نعم، فأمرها رسولُ الله أن تتربصَ حيضةً واحدةً، فتلحق بأهلها "[[23]].

وفي رواية عند مالك في الموطأ:" قالت: يا رسولَ الله، كل ما أعطاني عندي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت: خذ منها، فأخذ، وجلست في أهلها ".

وعن رُبَيع بنت معَوِّذ قالت: اختلعتُ من زوجي، ثم جئتُ عثمان، فسألته، ماذا عليَّ من العدّة؟ قال: لا عِدَّة عليكِ، إلا أن تكوني حديثة عهد به فتمكثي حتى تحيضي حيضةً، قال: وأنا متبع في ذلك قضاء رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغَلِيَّة كانت تحت ثابت بن قيس بن شمَّاس، فاختَلَعَتْ منه[[24]].

ـ يُستفاد مما تقدم التالي:

1- أن الخلع حق للمرأة، لا يُشترط فيه رضا وموافقة الزوج، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع امرأة ثابت بن قيس من دون أن يستأذن زوجها.

2- من مبررات الخلع بغض المرأة لزوجها البغض الذي تخشى معه عدم القدرة على الوفاء بحقوقه عليها، بدليل قولها:" ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضاً ... ولكني لا أطيقه ".

كذلك لو تعرّضت من قبل زوجها للمعاملة العنيفة؛ فكسر شيئاً من أعضائها، أو قام بتشويه شيء من جسدها .. فلها الحق حينئذٍ أن تخلع زوجها، بدليل قوله:" ضرب امرأته فكسرَ يدَها ".

3- لا يجوز للرجل عند الافتداء أن يأخذ من المرأة أكثر مما أعطاها إياه كمهر، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:" ولا يزداد " وقوله:" خُذ الذي لها عليك وخلّ سبيلها ".

قال ابن القيم في الزَّاد 5/194: ذكر عبد الرزاق بسنده، عن علي بن أبي طالب t:" لا يأخذُ منها أكثر مما أعطاها ". وقال طاووس: لا يحلُّ أن يأخذَ منها أكثر مما أعطاها، وقال عطاء: إن أخذ زيادة على صداقها فالزيادة مردودة إليها. وقال الزهري: لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. وقال ميمون بن مهران: إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يُسَرِّح بإحسان. وقال الأوزاعي: كانت القضاةُ لا تُجيز أن يأخذ منها شيئاً إلا ما ساق إليها ا- هـ.  

ثم لو فُتح الباب للزيادة .. فحينئذٍ يُفتح باب للابتزاز والاستغلال .. والظلم .. والمغالات في الافتداء .. لا يمكن غلقه .. بما تعجز المرأة معه عن افتداء نفسها .. وبخاصة أننا نعيش في زمن فُقدت فيه الأمانة .. وساد فيه الظلم والطمع، وحب الاستغناء بالحرام!

4- عدَّة المرأة المختلعة حيضة واحدة إن كانت ممن يحضن، أو شهراً واحداً إن كانت ممن لا يحضن .. تستبرئ فيه رحمها، بدليل، قوله:" فأمرها رسولُ الله أن تتربصَ حيضةً واحدةً ".

فإن كانت مفارقة له ولسكنه منذ أشهر .. ثم بعد ذلك وقعت المخالعة .. فليس عليها أن تعتد بشيء، بدليل قوله:" إلا أن تكوني حديثة عهد به فتمكثي حتى تحيضي حيضةً ". فدل أن الاعتداد بحيضة أو بشهر لمن تكون حديثة عهد بزوجها وفراشه، لتستبرئ رحمها وتعلم هل هي حامل أم لا، أما إن كانت مفارقة له ولسكنه وفراشه منذ أشهر أو أكثر من شهر .. فهي ليست بحاجة لهذا الاستبراء، ولا هي مضطرة له. 

5- ليس للمختلعة في عدتها حيضة أو شهراً نفقة على زوجها .. لأنه ليس له عليها عدة يستطيع أن يُراجعها فيها .. إلا إذا كانت حاملاً، فحينئذٍ يجب عليه أن ينفق عليها إلى أن تضع حملها من أجل الجنين؛ لأنه ولده، كما قال تعالى:) فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (الطلاق:6.

6- يجوز الخلع في أي وقت من الأوقات؛ سواء كانت المرأة في طهر أم حائضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خالع امرأة ثابت بن قيس من دون أن يلزمها تحري الطهر بعد الحيض .. ثم تحري الطهر في الطلاق يكون من أجل احتساب العدة .. واحتمال الرجعة .. والمختلعة ليس عليها عدة تعتدها كالمطلقة.

7- الخلع ليس طلاقاً، ولا يُحسب من عدد الطلقات إلا إذا أضاف الرجل من عند نفسه طلقة، أو ألزمه الحاكم بأن يُسرّح ويُطلق طلقة واحدة .. فحينئذٍ تُحسَب عليه طلقة واحدة، بدليل قوله:" اقبل الحديقةَ، وطلقها تطليقةً ".

أما إن سرَّح وخالع من غير طلاق أو من دون أن يعطيها الطلاق .. فحينئذٍ تتم المخالعة، ولا تُحسب طلقة، ويكون الخلع فسخاً وليس طلاقاً، بدليل قوله:" خذ منها "، ولم يذكر طلاقاً. وكذلك قوله:" خُذ الذي لها عليك وخلّ سبيلها "، فلم يذكر طلاقاً. 

ومما يُستدل به على أن الخلع ليس طلاقاً، قوله تعالى:) الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . فَإِن طَلَّقَهَا ( بعد الافتداء، طلقة ثالثة:) فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (البقرة:229-230.

قال أهل العلم: لو كان الافتداء طلاقاً لكانت الطلقة التي بعده هي طلقة رابعة .. وليست ثالثة .. وهذا لا يجوز المآل إلى القول به لمخالفته للنص المحكم الدال على أن الطلاق الذي به تبين المرأة من زوجها بينونة كبرى، والذي به لا تحل له ثانية إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره هي الطلقة الثالثة .. مما دل أن الافتداء في الاختلاع ليس طلاقاً، والله تعالى أعلم.

8- إن تمت المخالعة يُفرَّق بين الزوجين مباشرة في السَّكن؛ لأنه ليس للرجل عليها عدة يستطيع أن يراجعها فيها، وبدليل قوله:" فتلحق بأهلها " وقوله:" وجلست في أهلها ".

ـ احتيال بعض الرجال: من الرجال من يَكرَه زوجته، ويُريد طلاقها والخلاص منها .. لكنه ما إن يَعْلَم ـ أو يُعَلَّم ـ شيئاً عن الخلع وقوانينه، وأن من قوانينه أن تفتدي المرأة نفسها منه بتنازلها عن مهرها المقدم منه والمؤجّل، أو بإعادة ما أعطاها إياه أو بعضه .. توقَّف عن طلاقها .. وانتهج معها سياسة التضييق والأذى والإضرار .. والإعضال .. حتى تقوم هي بطلب خلعه .. ومن ثمَّ تُلزَم بأن تُعيد له ما أخذت منه كمهر .. أو تتنازل له عن مهرها المقدم والمؤجَّل .. وهذا ظلم عظيم لا يجوز .. وما يأخذه الرجل من امرأته عن هذا الطريق .. ومن هذا الوجه .. فهو سحت وبهتان وحرام، لا يُبارَك له فيه، قال تعالى:) وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً . وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (النساء :20-21. وقال تعالى:) وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ (؛ ومن العدوان عليهن استرداد ما أخذن من رجالهن كمهر ) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (البقرة:231. ولقوله تعالى:) وَلَا تُضَارُّوهُنَّ (الطلاق:6. ولقوله تعالى:) وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ (النساء:19. وقال تعالى:) وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً (البقرة:229.

فإن عُرِف عن الرجل هذا الخلق الدنيء، وهذا القصد الخبيث، وأنه يمسك زوجته ضراراً لتتنازل له عن مهرها وحقها .. طُلِّقت منه زوجته من دون أن تدفع له قرشاً واحداً .. وعلى القاضي أو الحكمين الذَين يتدخلان للفصل بين الزوجين .. أن يتنبها لهذا المعنى، وهذا الأمر؛ وبخاصة في هذا الزمان الذي أصبح المال وتحصيله غاية عظمى ترخص في سبيلها الغايات عند كثير من الناس .. لا يأبه صاحبه من أي وجه اكتسبه! 

ـ الاختلاع من غير سبب: وإن كان الخلع حقاً للمرأة كما تقدم .. إلا أنه لا يجوز لها أن تلجأ إليه من غير ضرورة أو سببٍ شرعي يقتضيه، لقوله صلى الله عليه وسلم:" المختلعات هنَّ المنافقات "[[25]]. وفي رواية:" إنَّ المختلعات والمنتزعات هنَّ المنافقات "[[26]]. وقوله " المنتزعات "؛ أي التي تنتزع نفسها من زوجها ومن الرابطة الزوجية بغير وجه حق.  

وقال صلى الله عليه وسلم:" أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأسٍ، فحرامٌ عليها رائحة الجنة "[[27]]. وقوله " من غير بأس "؛ دل أن الحرج والإثم يطال المرأة في حال طلقت وخالعت من غير بأس .. أما من تطلب الطلاق أو الخلع من بأس يبرر ويستدعي الطلاق أو الخلع .. فلا حرج فيه إن شاء الله، هذا ما يقتضيه التوفيق بين مجموع النصوص والأدلة ذات العلاقة بالمسألة، والعمل بمجموعها من دون رد أو إهمال بعضها، والله تعالى أعلم. 

3- الفسخ والتفريق: وهذه الصورة الثالثة التي بها تنتهي العلاقة الزوجية بين الزوجية، ولها أسباب عدة:

منها: إذا تبين بعد العقد أن الزوجين محرمان على بعضهما البعض من جهة الرضاعة، يُفسَخ العقد مباشرة، وفي الحال، لقوله تعالى:) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ (النساء:23.

وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الرضاعة تُحرِّمُ ما تُحرِّمُ الولادَةُ " متفق عليه.

وقالت عائشة رضي الله عنها:" يحرمُ من الرَّضَاعة ما يَحْرُمُ من الوِلادَةِ " البخاري.

وفي رواية عند ابن ماجه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَحرُمُ من الرَّضاع ما يحرُمُ من النَّسَب "[[28]

ومنها: التغرير، والغش، والكذب: كأن يقول الرجل للمرأة وأهلها: أنه غني يملك العقارات والملايين .. فيُزوَّج على هذا الأساس .. ثم بعد الزواج يُعلَم أنه صعلوك لا يملك مما ذكر شيئاً .. وأنه قد كذب عليهم .. فمن حق المرأة وأوليائها حينئذٍ ـ إن شاؤوا ـ أن يفسخوا عقد الزواج مباشرة .. سواء رضي الرجل أم لم يرض!

أو أن يقول الرجل عن نفسه: أنه عالم، وفقيه، ومن أهل العلم .. أو أنه يحفظ كتاب الله غيباً .. وأن المرأة التي ستنتقل إليه ستنتقل إلى بيت فقه وعلمٍ وأدَب .. فيُصدَّق ويُزوَّج على هذا الأساس .. ثم بعد الزواج يُعلَم أنه جاهل .. وأن بينه وبين العلم وأهله كما بين السماء والأرض .. وأنه قد كذب عليهم فيما زعم عن نفسه .. وتبين أن المرأة لم تنتقل إلى بيت علم وأدب وفقه وإنما انتقلت إلى بيت جهل .. وظلم .. وفجور .. فمن حق المرأة وأوليائها حينئذٍ ـ إن شاؤوا ـ أن يفسخوا عقد الزواج مباشرة .. سواء رضي الرجل أم لم يرض! 

أو أن يقول عنه نفسه: أنه تقي وملتزم في نفسه بأحكام الشريعة .. فلا يُقارِع الكبائر من المنكرات والذنوب .. وأنه ممن يُراعون الحلال والحرام .. فيُزوَّج على هذا الأساس .. ثم بعد الزواج يُعلم عنه خلاف ذلك .. وأنه فاسق .. وأنه شديد والكذب .. لا يتورّع عن ارتكاب الموبقات كالسرقة، وشرب الخمر وغير ذلك .. وأنه لا يُحافظ على الصلاة كما ينبغي .. وأنه ممن إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى .. وبعد فوات وقتها .. فمن حق المرأة وأوليائها حينئذٍ ـ إن شاؤوا ـ أن يفسخوا عقد الزواج مباشرة .. سواء رضي الرجل أم لم يرض!  

أو أن يقول عن نفسه: أنه من ذوي الشهادات العليا .. فيُزوَّج على هذا الأساس .. ثم بعد الزواج يُعلَم أنه من ذوي الشهادات الدنيا .. وأنه قد كذب عليهم فيما قال عن نفسه .. فمن حق المرأة وأوليائها حينئذٍ ـ إن شاؤوا ـ أن يفسخوا عقد الزواج مباشرة .. سواء رضي الرجل أم لم يرض!

كذلك لو كانت فيه عِلة أو مرض منفّر .. كأن يكون عنِّيناً .. أو عقيماً .. أو مصاباً ببرص أو سرطان .. أو بمرضٍ جنسي كالإيدز ونحوه .. فأخفى ذلك على المرأة وأهلها .. ثم بعد الزواج عَلموا عنه ما قد أخفاه عنهم وكتمه .. فمن حق المرأة وأوليائها حينئذٍ ـ إن شاؤوا ـ أن يفسخوا عقد الزواج مباشرة .. سواء رضي الرجل أم لم يرض! 

فإن قيل: ماذا يُفعَل بالمهر الذي قدمه لها ..؟

أقول: إن عُرِف عنه كذبه وغشه وغدره بعد الدخول لا يُرَد له من المهر شيئاً .. فيبقى المهر للمرأة بما أصاب منها .. فإن لم يكن قد دفع لها شيئاً من المهر أو بقي منه متأخر أُخِذ منه .. وإن كان قبل الدخول يُرد عليه نصف المهر، كما قال تعالى:) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ (البقرة:237.

وكذلك يُقال في المرأة التي تغش وتكذب على الرجل .. فإن زعمت له مثلاً: أنها بِكر ثم بان له أنها غير ذلك .. أو أنها خالية من الأمراض والعاهات المنفّرة .. ثم بعد ذلك وعند إنكشاف المستور ظهر له المخبوء، المنفِّر .. فله حينئذٍ أن يُطلّق أو يفسخ العقد إن شاء .. فإن حصل ذلك بعد الدخول ترك لها المهر بما أصاب منها .. وعوضه أولياؤها ما كان قد دفعه لها إن كانوا هم السبب في التدليس والتغرير أما إن كانت المرأة هي السبب، رُدّ منها ما كانت قد أخذته منه .. وإن علم ذلك عنها قبل الدخول فسخ العقد ولم يدفع لها شيئاً.

فإن قيل: أين الدليل على جميع ما تقدم؟

أقول: أيما عقد ناتج عن غَرَرِ وجَهلٍ بما تم التعاقد عليه فهو عقد باطل لا نفاذ له، فمن شروط صحة البيع العلم بالمباع على صفته وحقيقته، فإن حصل فيه الغرَر والغش والخداع .. ثم عُلمت عيوبه بعد إتمام الصفقة والبيع .. بطل البيع، ورُدت السلعة إلى صاحبها الأول .. ومنه جاء تحريم بيع الملامسة، والمنابذة، لما في ذلك من الغرر والغش، والخداع وصفته أن ينبذ البائع سلعته للمشتري من دون أن يسمح له أن يراها أو يطلع عليها .. أو يأذن له بمجرد اللمس " أو الملامسة "، والتي لا تكفي لمعرفة حقيقة الشيء المباع، فإذا ما كشف عنه بان له ما لم يبن بالملامسة، كما في الحديث:" نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين: الملامسة، والمنابذة في البيع " البخاري.

وفي رواية عن أنس بن مالك، قال:" نهى رسولُ الله عن المحاقَلَة، والمُخاضَرة، والملامَسة، والمنابَذة، والمُزابَنَة "[[29]]البخاري. لأنها بيوع غرَر؛ فيها تغرير وتضليل وخداع للمشتري بحقيقة ما يشتريه!

وإذا كان الغرَر لا يجوز في عقود البيع فمن باب أولى أن لا يجوز في عقود النكاح التي بها تعمر الحياة .. وتسكن النفوس بعضها إلى بعض.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من حمَل علينا السلاح فليس منّا، ومن غشَّنا فليس منَّا " مسلم. فجعل من يغش المسلمين بمثابة من يحمل عليهم السلاح .. وإذا كان هذا الحديث يُحمَل على من يغش في بيع الثَّمَر فمن باب أولى أن يُحمَل على من يغش في عقود النكاح!

وقال صلى الله عليه وسلم:" من غَشَّنا فليس مِنَّا، والمكرُ والخِداع في النَّار "[[30]].

وقال صلى الله عليه وسلم:" المكر، والخديعة، والخيانة في النار "[[31]]. 

وقال صلى الله عليه وسلم:" يُطبَع المؤمنُ على كل خِلَّةٍ غير الخيانة والكذب "[[32]].

وتحت عنوان:" باب ما جاء في الخيانة والغِش "، أخرج الترمذي بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مَنْ ضارَّ ضارَّ الله به، ومن شَاقَّ شَقَّ الله عليه "[[33]].

وقال صلى الله عليه وسلم:" المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَي زورٍ " متفق عليه. والمتشبع بما لم يُعط؛ هو الذي يتظاهر بما ليس فيه ولا عنده، فيكون بذلك كمن يشهد شهادة الزور.

وفي رواية عند الترمذي:" ومن تحلَّى بما لم يُعْطَهُ كان كلابس ثوبَي زورٍ "[[34]]. وفي رواية:" ومن تحلَّى بباطلٍ؛ فهو كلابِس ثوبي زُور "[[35]]. 

قال ابن القيم في كتابه الماتع الزاد 5/180: وفي الموطأ عن عمر أنه قال:" أيما امرأة غرَّ بها رجلٌ؛ بها جنونٌ أو جذام أو برَصٌ، فلها المهرُ بما أصاب منها، وصداق الرجلِ على من غرَّه "[[36]]. أي على من كان سبباً في غشه وتغريره بها.

وعن سعيد بن المسيّب، قال: قال عمر:" أيما امرأة زُوّجَت وبها جنون أو جُذام أو برَصٌ فدخلَ بها ثم اطَّلَعَ على ذلك، فلها مهرها بمسيسه إياها، وعلى الولي الصِّداق بما دلَّس كما غرَّه ".

وعن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب t بعث رجلاً على بعض السِّعاية، فتزوَّج امرأة وكان عقيماً، فقال له عمر: أعلمتَها أنَّك عقيم؟ قال: لا، قال: فانطلِق فأعلمها، ثم خيِّرْها [[37]].

وعن ابن سيرين: خاصم رجلٌ إلى شُرَيح، فقال: إنَّ هؤلاء قالوا لي: إنَّا نزوجك بأحسَن الناس، فجاؤوني بامرأة عمْشاءَ، فقال شُرَيح:" إن كان دلَّس لك بعيبٍ لم يَجُزْ "، فتأمل هذا القضاء، وقوله: إن كان دلِّس لك بعيب، كيف يقتضي أن كل عيب دلست به المرأة، فللزوج الردُّ به؟ وقال الزهري يُرد النكاح من كل داءٍ عُضال. ومن تأمل فتاوي الصحابة والسلف، علم أنهم لا يخصُّوا الرد بعيب دون عيب ..

وقال: والقياس: أن كل عيب ينفِرُ الزوج الآخر منه، ولا يحصُل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يُوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط المشترطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع، وما ألزم الله ورسولُه مغروراً قط، ولا مغبوناً بما غُرَّ به وغُبِنَ به، ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح لم يخفَ عليه رجحانُ هذا القول، وقربه من قواعد الشريعة.

وقال: والذي يقتضيه مذهبه وقواعده ـ أي مذهب وقواعد الإمام أحمد ـ أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها، بل إثبات الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى، لأنها لا تتمكن من المفارقة بالطلاق، فإذا جاز له الفسخ مع تمكنه من الفراق بغيره، فلأن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى، وإذا جاز لها الفسخ إذا ظهر الزوج ذا صناعة دنيئة لا تشينه في دينه ولا في عرضه، وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به، فإذا شرطته شاباً جميلاً صحيحاً، فبان شيخاً مشوهاً أعمى أطرش أخرس أسود، فكيف تلزم به، وتمنع من الفسخ؟ هذا في غاية الامتناع والتناقض، والبعدِ عن القياس، وقواعد الشرع، وبالله التوفيق.

وكيف يمكَّن أحدُ الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص، ولا يمكن منه بالجرب المستحكم المتمكن وهو أشدُّ إعداء من ذلك البرص اليسير وكذلك غيره من أنواع الداء العُضال؟

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم على البائع كِتمان عيب سلعته، وحرَّم على مَنْ علمه أن يكتمَه من المشتري، فكيف بالعيوب في النكاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس حين استشارته في نكاح معاوية، أو أبي الجهم:" أما معاوية، فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه "، فعلم أن بيان العيب في النكاح أولى وأوجب، فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به سبباً للزومه، وجعل ذا العيب غُلاً لازماً في عُنِق صاحبه مع شدة نُفرته عنه، ولا سيما مع شروط السلامة منه، وشرط خلافه، وهذا مما يُعلم يقيناً أن تصرفاتِ الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه والله أعلم. انتهى الاقتباس من كلامه وكتابه رحمه الله.

ومنها: عدم الالتزام بشروط العقد: فإن اشترط أحد طرفي النكاح شروطاً شرعية لا تُخالف الكتاب والسنة، لمضي عقد النكاح، ثم وافق الطرف الآخر على هذه الشروط، فإنه يتعين عليه الوفاء بها .. فإن نقضها وامتنع عن الوفاء بها جاز للطرف المقابل أن يفسخ عقد النكاح .. سواء وافق الطرف الذي يُقابله أم لم يوافق.

فلو اشترطت المرأة ـ أو وليها ـ على الرجل[[38]]: أن لا يعصي الله فيها .. وأن لا يجبرها على معصية .. فإن فعل جاز لها فسخ عقد الزواج .. أو اشترطت عليه أن لا يمنعها من طلب العلم الشرعي .. وأن يكون عوناً لها على طلب العلم .. والدعوة إلى الله .. أو أن لا يكون مانعاً لها من إتمام مرحلة من مراحل التعليم الأكاديمي تكون هامة بالنسبة لها .. أو أن لا يقطعها عن رحمها ممن يتعين عليها وصلهم .. أو أن لا يتزوج عليها[[39]] .. أو أن لا يشتمها ولا يحقرها، ولا يقبحها، ولا يلعنها .. فإن فعل شيئاً من ذلك .. فهي في حل من أمرها .. ولها ـ إن شاءت ـ أن تفسخ عقد النكاح.

أو اشترطت عليه إن عُرِف عنه بعد عقد النكاح أنه يتعاطى كبيرة من كبائر الذنوب؛ كشرب الخمر، أو تعاطي المخدرات، أو الزنى، أو التعامل بالربى، أو السرقة، أو اللعب بالميسِر .. فإن فعل شيئاً من ذلك .. فهي في حل من أمرها .. ولها ـ إن شاءت ـ أن تفسخ عقد النكاح.

أو اشترطت عليه أن لا يأخذ شيئاً من مالها الخاص إن كانت من ذوي المال إلا بإذنها ورضاها .. أو أن لا يجبرها على العمل عند الناس خارج المنزل لتنفق على نفسها وعلى بيته وأبنائه .. أو أن لا يُؤذي أبناءها إن كان لها أبناء من زوج آخر .. فإن فعل شيئاً من ذلك .. فهي في حل من أمرها .. ولها ـ إن شاءت ـ أن تفسخ عقد النكاح.

فهذه شروط شرعية .. لا تُخالف الكتاب والسنة .. فإن وافق الرجل عليها .. ثم أخلّ بها أو ببعضها .. فللمرأة الحق في أن تفسخ عقد الزواج .. ولا أثر حينئذٍ ـ في إنهاء العلاقة الزوجية ـ لموافقة الزوج أو عدم موافقته.

فإن قيل: أين الدليل على ما تقدم؟

أقول: قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ (المائدة:1.

وقوله تعالى:) وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (الإسراء:34.

وقوله تعالى:) وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ (البقرة:177. 

وقوله تعالى:) وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (النحل:91.

وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنَّ أحقَّ الشروط أن يُوفَّى به، ما استحللتم به الفروج " متفق عليه. وفي رواية:" أحقُّ ما أوفيتم من الشروط أن توفّوا به ما استحللتم به الفروج " البخاري. وهذا عام وشامل لكل شرط تشترطه المرأة لنفسها ودينها لا يُخالف شرعَ الله تعالى.

وقال صلى الله عليه وسلم:" المسلمون عند شروطهم "[[40]]. وفي رواية:" المسلمون على شروطهم "[[41]]. أي ملتزمون بشروطهم التي اشترطوها على أنفسهم.

قال أبو عيسى الترمذي في كتابه السنن: قال عمر بن الخطاب t:" إذا تزوَّج رجل امرأة، وشرَط لها أن لا يخرجها من مصرها، فليس له أن يخرجها ". وهو قول بعض أهل العلم، وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق ا- هـ.

وقد عد الإسلام الغدر بالعهد، وعدم الوفاء بالوعد من خصال النفاق والمنافقين، كما في الحديث الصحيح:" أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ـ منها ـ: وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف " متفق عليه.

أما إن اشترطت شروطاً ليست في كتاب الله تعالى، ولا سنّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .. فهذا ليس لها ولا لغيرها .. كما لا يجوز الوفاء لها على ما تشترطه من شروط باطلة تتعارض مع شرع الله تعالى؛ تُحل حراماً، أو تُحرم حلالاً، أو تُحق باطلاً، أو تُبطِل حقاً، كما في الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" المسلمون على شروطهم ما وافق الحق من ذلك "[[42]]. وقال صلى الله عليه وسلم:" المسلمون على شروطهم فيما أحلَّ "[[43]]. وقال صلى الله عليه وسلم:" المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرّم حلالاً أو أحل حراماً "[[44]]. فلا يجوز اشتراطه، ولا إمضاؤه ولا الوفاء به إن اشتُرِط .. كما لا يترتب على عدم الوفاء به شيء؛ لأنه باطل.

وقال صلى الله عليه وسلم:" ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرطٍ، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق " البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم:" ما بالُ أقوامٍ يَشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط " البخاري. 

ومنها: أن يطرأ على الزوجين وحياتهما ما يُفسِد ويُبطل عقد الزواج بينهما: كالردة؛ فإذا وقع أحد الزوجين في الردة فُسِخ عقد النكاح الذي يجمعهما .. وفُرّق بينهما مباشرة، وفي الحال، ومن صور الردة: شتم الله والدين، أو شتم الرسول صلى الله عليه وسلم والتهكم به، وكذلك الاعتقاد بالعلمانية والقول بها؛ لتضمنها جحود ما أنزل الله تعالى، ورد حكم الكتاب والسنة، وكذلك ترك الصلاة، ومظاهرة وموالاة المشركين الكافرين على المسلمين، ومن ذلك التجسس لصالح العدو والطغاة المجرمين على الإسلام والمسلمين .. فمن وقع من الزوجين بواحدة من هذه الأعمال فقد وقع في الردة، والكفر البواح، وخرج بذلك من دائرة الإسلام .. وفُرِّق بينه وبين الطرف الآخر الذي يُقابله سواء كان هذا الطرف زوجاً أم زوجة .. وفُسِخ العقد الذي جمعهما باسم الله؛ لإتيان أحدهما بما يُبطله.

فإن قيل: أين الدليل على ما تقدم؟

أقول: الأدلة كثيرة منها، قوله تعالى:) وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ (البقرة:221.

وقال تعالى:) فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ (الممتحنة:10.

وقال تعالى:) وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ (الممتحنة:10.

وقال ابن كثير: قوله تعالى:) وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ( تحريم من الله عز وجل على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن ا- هـ. فالآية دليل على فسخ عقد الزواج من الكوافر المشركات؛ سواء كان كفرهن أصلياً، أم كان طارئاً من جهة الردة.

وقال تعالى:) وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (النساء:141. والإقرار بأن تبقى المرأة المسلمة تحت ذمة الرجل الكافر المرتد؛ هو إقرار بأن يكون للكافر المرتد على المؤمنة سبيلاً، هذا إذا علمنا أن القوامة في البيت هي للرجل كما تقدم!

وعن أنس قال: خطبَ أبو طلحة أمَّ سليم، فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يُرَد، ولكنَّك رجل كافرٌ، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحلّ لي أن أتزوّجَك، فإن تُسلِم فذاك مهري، وما أسألك غيره، فأسلَم فكان ذلك مهرها[[45]].

أخرج عبد الرزاق في مصنفه 7/161: عن الحسن قال: إذا ارتدَّ المرتد عن الإسلام فقد انقطَع ما بينه وبين امرأته، فقال الثوري: والرجل والمرأة سواء.

قال سيد سابق في كتابه فقه السنة: أجمع العلماء على أنه لا يحل للمسلمة أن تتزوج غير المسلم؛ سواء كان مشركاً، أم من أهل الكتاب ا- هـ.

ونحو ذلك، إذا كان الزوجان كافرين، فأسلمت المرأة من دون الرجل .. يُفسخ عقد الزواج بينهما في الحال، والدليل على ذلك ما تقدم ذكره من أدلة أعلاه.

ونضيف هنا فنقول: أخرج الطحاوي بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس، في اليهودية أو النصرانية تكون تحت اليهودي أو النصراني فتُسلِم؟ فقال:" يُفَرَّق بينهما؛ الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه "[[46]].

وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه قال:" إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حَرُمَت عليه ".

وكذلك إذا أسلم الرجل وبقيت المرأة على كفرها وشركها، يُفسخ العقد ويُفرَّق بينهما .. باستثناء ما إذا كانت المرأة كتابية؛ يهودية أو نصرانية .. فالزواج يبقى بينهما من دون فسخ ولا نقض، ولا تجديد؛ لأن النص دل على جواز زواج المسلم من كتابية، كما قال تعالى:) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ (المائدة:5.

ومنها: الامتناع عن النفقة: فإن امتنع الرجل عن النفقة مع القدرة عليها ـ وانتفت السبل على إجباره على النفقة أو أخذ النفقة منه ـ أو كان عاجزاً عن مطلَق النفقة[[47]]، فللمرأة حينئذٍ ـ إن شاءت ـ أن تُطالب بفسخ العقد إن أبى الرجل تسريحها وطلاقها .. أو أبى النفقة عليها .. فالباءة والنفقة شرط في صحة استمرار الزواج، كما قال تعالى:) وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ (النساء:34. وقال تعالى:) وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ (؛ أي الوالد الذي يُولَد له ) رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (البقرة:233. وقال تعالى:) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (الطلاق:7.

وفي الحديث، فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ولهنّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " مسلم.

ولما في الامتناع عن النفقة ـ أو التوقف عنها كلياً بسبب العجز ـ من إضرار بليغ بالمرأة، وربما يُؤدي إلى الهلكة، وهو يتنافى مع الأمر الإلهي بالإمساك بمعروف أو التسريح بمعروف، كما قال تعالى:) فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً (البقرة:231. وفي الحديث:" لا ضرَرَ، ولا ضِرار ". وقال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ ضارَّ ضارَّ الله به، ومن شَاقَّ شَقَّ الله عليه "[[48]].

وقال صلى الله عليه وسلم:" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنَّه له وِجاء " متفق عليه. والباءة تشمل القدرة على القيام بتكاليف ونفقات ما قبل النكاح كالمهر، ونفقات ما بعد عقد النكاح كالطعام، والكسوة، والمسكن .. ومفهوم المخالفة يقتضي أن من لا يستطيع الباءة ولا يجدها لا يتزوج، ولا يجوز له أن يتزوج؛ لأنه فاقد لشروط الزواج وحقوقه .. لذا كان توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لمن لا يملك الباءة ولا يقدر عليها أن يصوم؛ فإنَّ الصوم له وجاء.

أخرج البخاري في صحيحه ـ تحت باب: وجوب النفقة على الأهل والعيال ـ عن أبي هريرة أنه قال:" تقول المرأة: إما أن تُطعمني، وإمَّا أن تُطلقني ".

ومنها: الإمساك بالزوجة على نيّة وقصد الإضرار والإعضال: فلا هو يُمسكها بمعروف ولا هو يسرحها بمعروف وإحسان .. فالمرأة حينئذٍ ليست مضطرة للجوء إلى المخالعة، ودفع الفدية للرجل لكي تتحرر من ظلمه وعدوانه .. لأن العمل بالمخالعة في هذه الحالة وفي هذا الموضع، فيه تشجيع لذوي النفوس الضعيفة من الرجال على الظلم والعدوان والإضرار، وهو كذلك من قبيل أكل المال بالباطل، وأخذه بغير وجه حق، كما قال تعالى:) فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (النساء:20. وقال تعالى:) فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (البقرة:231. وإنما حقها هنا فسخ عقد النكاح، وأن يُفرَّق بينها وبين زوجها من دون أن ترد له شيئاً من مهرها.

ـ مسألة: فإن قيل: ما هي العدة على المرأة في حالة الفسخ والتفريق، وفي جميع الحالات الآنفة الذكر؟

أقول: عدتها عدة المختلعة؛ حيضة واحدة إن كانت من ذوات الحيض، فإن لم تكن من ذوات الحيض، فشهر واحد .. وذلك لاستبراء الرحم من الحمل .. فإن كانت حاملة؛ فعدتها حتى تضع حملها طالت فترة الحمل أم قصرت، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من كان يُؤمن بالله واليومِ الآخر فلا يسقِ ماءهُ ولدَ غيره "[[49]]. وذلك عندما تكون المرأة حاملة فلا يجوز لها أن تستشرف الزواج والنكاح من آخر حتى تضع حملها. 

وقال صلى الله عليه وسلم:" لا يحل لامريءٍ يُؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأةٍ من السبي حتى يستبرئها "[[50]]. وعن أبي سعيد الخدري، أنه قال في سبايا أوطَاس:" لا تُوطَأ حامل حتى تضَع، ولا غيرُ ذات حملٍ حتى تحيضَ حيضةً "[[51]].

واختُلِف في عدة المرأة التي تُسلِم ويبقى زوجها على الكفر؛ هل هي حيضةً واحدة أم ثلاثة قروء .. والراجح أنها حيضةً واحدةً .. تستبرئ فيها رحمها .. ثم تتزوج إن شاءت رجلاً من المسلمين؛ لأنها ليست مطلقة طلاقاً رجعياً حتى يُقال عدتها ثلاثة قروء، كما قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (الممتحنة:10.  فذكر لهن المهر، ولم يذكر لهن عدة كالمطلقة طلاقاً رجعياً، كما لا يوجد دليل من قول النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن أن عدتهن ثلاثة قروء كالمطلقة طلاقاً رجعياً .. وإنما ورد الأمر النبوي صلوات ربي وسلامه عليه بالتحقق من استبراء الرحم من الحمل قبل النكاح الجديد وحسب، فله السمع والطاعة، وهذا يتحقق بحيضة واحدة، كما تقدم، والله تعالى أعلم.

قال الطبري في التفسير: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله:) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (؛ ولها زوج ثَمَّ؛ لأنه فرق بينهما الإسلام، إذا استبرأتنَّ أرحامهنّ ا- هـ. فاشترط استبراء الرحم فقط، وذلك يتحقق بحيضة واحدة.

  قال ابن حزم في المحلى 9/375: لا عدة في شيء من وجوه الفسخ الذي ذكرنا إلا في الوفاة، وفي المعتقة التي تختار فراق زوجها، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما بالعدة، ولم يأمر غيرهما بعدة ولا يجوز أمرها بذلك لأنه شرع لم يأذن به الله تعالى.

  ولا يجوز قياس الفسخ على الطلاق؛ لأنهما مختلفان، لأن الطلاق لا يكون إلا بلفظ المُطلِّق واختياره، والفسخ يقع بغير لفظ الزوج أحب أم كره .. وروينا من طريق البخاري عن ابن جريج، قال: قال عطاء عن ابن عباس: كانوا إذا هاجرت امرأة من دار الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حلَّ لها النكاح.

  فهذا ابن عباس يحكي أن هذا فعل الصحابة جملة، فلا يجوز خلافه، وبذلك جاء النص، قال الله تعالى:) :) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ( الممتحنة:10. فلم يوجب U عليهن عدة في انفساخ نكاحهن من أزواجهنّ الكفار بإسلامهن ا- هـ.

حلَّ لها النكاح .. لكن إن لم تتزوج .. وشاءت أن تُرجئ زواجها، وأن تُعطي زوجها الكافر فرصة عساه أن يُسلِم .. ثم أن زوجها الكافر قد أسلم فيما بعد .. قبل انقضاء ثلاثة قروء .. فله أن يرجعها إلى ذمته من غير عقد جديد .. قياساً على عِدة المطلقة طلاقاً رجعياً، ولدخول الرجل بعد إسلامه في معنى قوله تعالى:) وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ (البقرة:228. أي في فترة قضاء العدة؛ وهي ثلاثة قروء كما تقدم .. فإذا انقضت وتعدَّت، ثم أسلم الرجل بعد ذلك، وأراد إرجاعها، فهو يحتاج إلى عقد نكاح جديد.

دليلنا ما أخرج البخاري في صحيحه ـ تحت باب: نكاح من أسلم من المشركات وعدَّتهنَّ ـ عن ابن عباس قال:" كان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تُخْطَب حتى تحيضَ وتطهُرَ، فإذا طهرت حلَّ لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح رُدَّت إليه ".

قلت: جعل الحد الذي به يحل لها الزواج من آخر مقدار أن تحيض حيضة واحدة وتطهر منها، فإذا طهرت من حيضتها فقد حل لها النكاح لو شاءت .. فإن لم تنكح أو تأخر نكاحها .. ثم جاء زوجها الأول مسلماً وأراد إرجاعها خلال ذلك " رُدَّت إليه ".

وفي مصنف عبد الرزاق، عن عبد الله بن يزيد الخطمي:" أن نصرانياً أسلمت امرأته فخيَّرها عمر إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت عليه "[[52]].

لكن " قبل أن تنكح " كم هي المدة قبل أن تنكح والتي لو راجعها فيها " رُدت إليه "، وقول عمر:" أقامت عليه "؛ أي تنتظره .. لكن إلى متى تنتظره، ويحق لها أن تنتظره ثم يعود إليها من غير عقد جديد؟

الذي عليه جمهور أهل العلم: أنه لو أسلم ثم راجعها خلال ثلاثة قروء، أو ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض .. فتعود إليه من غير عقد جديد، فإن تأخر إسلامه عن هذه المدة ثم أراد أن يعيدها إليه، لزمه عقد نكاح جديد مستوفي الشروط والأركان.

أخرج البخاري في صحيحه عن مجاهد أنه قال:" إذا أسلمَ في العِدة يتزوجها ". أي يردها إلى ذمته من غير عقد جديد. 

قال ابن حجر في الفتح 9/331: وبقول مجاهد، قال قتادة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحق، وأبو عبيد. واحتج الشافعي بقصة أبي سفيان لما أسلم عام الفتح بمر الظهران في ليلة دخول المسلمين مكة في الفتح كما تقدم في المغازي، فإنه لما دخلَ مكة أخذت امرأته هند بنت عقبة بلحيته، وأنكرت عليه إسلامه، فأشار عليها بالإسلام، فأسلمت بعد، ولم يُفرَّق بينهما ولا ذُكِر تجديد عقد، وكذا وقع لجماعة من الصحابة أسلمت نساؤهم قبلهم: كحكيم بن حزام، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ولم يُنقَل أنه جُددَت عقود أنكحتهم، وذلك مشهور عند أهل المغازي لا اختلاف بينهم في ذلك، إلا أنه محمول عند الأكثر على أن إسلام الرجل وقع قبل انقضاء عدة المرأة التي أسلمت قبله ا- هـ. 

وفي مصنف عبد الرزاق بسنده عن عكرمة بن خالد أن عكرمة بن أبي جهل فرَّ يوم الفتح، فكتبت إليه امرأته فردته، فأسلَمَ، وكانت قد أسلمت قبل ذلك، فأقرهما النبيُّ صلى الله عليه وسلم على نكاحهما[[53]].

قال  الترمذي في كتابه السنن: المرأة إذا أسلمت قبل زوجها ثم أسلم زوجها وهي في العدة أن زوجها أحق بها ما كانت في العدة، وهو قول مالك بن أنس، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق ا- هـ.  

ويُقال ذلك، كذلك في المرتد ـ عملاً بالقياس على الكافر الأصلي ـ أنه لو تاب ورجع إلى إسلامه، له أن يراجع زوجته ـ من غير عقدٍ جديد ـ ما لم تنته عدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر إن كانت المرأة لا تحيض .. وإن كانت هي أصلاً في حِلٍّ منه، ولها الرخصة ـ إن شاءت ـ بالزواج من غيره بمجرد انقضاء حيضة واحدة تستبرئ فيها رحمها من الحمل، كما تقدم، هذا الذي يقتضيه التوفيق والعمل بمجموع الأدلة والآثار ذات العلاقة بالمسألة.

أخرج عبد الرزاق في مصنفه 7/161:" عن عمر بن عبد العزيز، قال في الرجل يُؤْسَر فيتنصَّر، قال: إذا عُلم بذلك برئت منه امرأته، واعتدَّت ثلاثة قروء ".

ـ ملخّص في العِدَّة:

1- عدة المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً: ثلاث حيضات، أو ثلاثة شهور إن لم تكن من ذوات الحيض .. فإن كانت حاملة، عدتها حتى تضع حملها، طال الحمل أم قصر.  

2- عدة المرأة المطلقة طلاقاً بائناً بينونة كبرى " المطلقة ثلاثاً ": حيضة واحدة، أو شهر واحد إن لم تكن من ذوات الحيض، تستبرئ فيه رحمها .. ثم تنكح زوجاً آخر .. فإن كانت حاملة، عدتها حتى تضع حملها، طال الحمل أم قصر.

3- عدة المرأة التي تخالع زوجها: حيضة واحدة، أو شهر واحد إن لم تكن من ذوات الحيض، تستبرئ فيه رحمها .. فإن كانت حاملة، عدتها حتى تضع حملها، طال الحمل أم قصر.

4- عدة التفريق وفسخ العقد على اختلاف صوره وأسبابه: حيضة واحدة، أو شهر واحد إن لم تكن من ذوات الحيض، تستبرئ المرأة فيه رحمها .. فإن كانت حاملة، عدتها حتى تضع حملها، طال الحمل أم قصر.

5- عدة المرأة المطلقة قبل الدخول بها: ليس عليها عدة تعتدها.

6- عدة المرأة التي يتوفى عنها زوجها؛ سواء توفى عنها قبل الدخول بها أم بعد الدخول بها: أربعة أشهر وعشرة أيام .. فإن كانت حاملة، عدتها حتى تضع حملها، طال الحمل أم قصر.

ـ نظرة الناس والمجتمع للطلاق والمُطلَّقة: من المظاهر السلبية التي تزيد من معاناة المرأة في كثير من المجتمعات العربية والأسوية، تلك النظرة السلبية التشاؤمية للمرأة المطلّقة .. لمجرد كونها مطلقة بغض النظر هل هي محقة أو مظلومة في طلاقها .. أو محقوقة ظالمة .. وهذا ـ في الغالب ـ ما يحمل المرأة على أن تتحمل مزيداً من ظلم الرجل لها ولا أن تصل إلى مرحلة الطلاق .. لأنه خُيِّل إليها أن الطلاق ـ بحكم العادات والأعراف الخاطئة السائدة من حولها ـ يعني نهايتها .. ودمارها .. ونهاية كل حلم سعيد لها في هذه الحياة!

وهذا خطأ كبير .. وهو من الشيطان .. فالطلاق كما قدمنا ـ إن توفرت دواعيه وأسبابه الشرعية ـ مما شرَعه الله تعالى، وسنَّه لنا النبي صلى الله عليه وسلم .. وما كان مشروعاً ومسنوناً لا ينبغي أن يُنظَر إليه بهذه النظرة التشاؤمية المقيتة.

فالصحابة رضي الله عنهم طلَّقوا وتزوجوا من مطلقات .. والنبي صلوات ربي وسلامه عليه طلَّق وتزوج من مطلقات .. منهن أمنا زينب بنت جحش رضي الله عنها كنت تحت زيد بن ثابت t فطلقها ثم تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:) فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ( الأحزاب:37. وكانت زينب رضي الله عنها تُفاخر على بقية النساء، فتقول:" زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات " البخاري. 

ثم يُقال: لو اطلعتم على الغيب لرضيتم بالواقع .. فكم من شرٍّ ترتب عليه خير .. وكم من خيرٍ ترتب عليه شر، وأنتم لا تعلمون، كما قال تعالى:) وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (البقرة:216.

وقال تعالى:) وَإِن يَتَفَرَّقَا ( أي الزوجان بالطلاق أو غيره من أسباب الفراق والتفريق ) يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ ( من الزوجين المطلقين عن صاحبه ) مِّن سَعَتِهِ ( أي من فضله ونعمه فيرزق المرأة زوجاً قد يكون خيراً لها ممن سبق، ويرزق الرجل زوجة قد تكون خيراً له ممن سبقتها ) وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً ( أي في الفضل، والعلم، والرزق ) حَكِيماً (النساء:130. فيما يُدبر ويُقدر للعباد.

وهذا يستدعي من المرء أن يُحسّن الظن بالله تعالى .. ويُحسن التوكل عليه .. ) وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (الطلاق:3.

* * * * *

ـ الحضانة: يُراعى في الحضانة أمران عليهما مدار أحكام الحضانة:

أولهما: مصلحة الطفل، وسلامة نشأته وتربيته التربية الصالحة، الراشدة.

ثانياً: أولى أقارب الطفل بحضانته .. وهم بالترتيب: الأم، ثم الخالة، ثم الجدة والدة الأم، ثم الأب[[54]].

أما الدليل على أن الحضانة للأم بلا منازِع، فهو للحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره، عن عبد الله بن عمرو: أنَّ امرأة قالت: يا رسولَ الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سِقاء، وحجري له حِواء، وإنَّ أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني؟!

فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" أنتِ أحقُّ به ما لم تنْكِحي "[[55]].

وقال صلى الله عليه وسلم:" مَن فرَّق بين والدةٍ وولدها فرَّقَ اللهُ بينه وبين أحبته يومَ القيامة "[[56]].

قال تعالى:) لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا (البقرة:233. ومن الإضرار الوالدة بولدها انتزاعه منها بغير وجه حق .. والتضييق عليها وعلى ولدها في النفقة من أجل أن تتخلى عن ولدها للآخرين.

وعن أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله من أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال:" أمُّكَ ". قال: ثم مَن؟ قال:" أمُّكَ ". قال: ثم مَن؟ قال:" أمُّكَ ". قال: ثم مَن؟ قال:" ثم أبوك " متفق عليه. دل الحديث أن الأم هي المقدمة في حسن الصحبة والحضانة على الأب ومن  سواه من الأرحام .. فأولى الناس بحسن صحبة الولد وملازمته هي أمه .. كما أن الأم هي أولى الناس بحضانته ورعايته يوم أن كان صغيراً .. فالجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى:) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (الإسراء:24.

وأخرج عبد الرزاق في مصنفه 7/154: عن الثوري، عن عاصم، عن عكرمة قال:" خاصمت امرأة عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما، وكان طلَّقها، فقال: هي أعطَف، وألطَف، وأرحم، وأحنَا، وأرأف، وهي أحق بولدها ما لم تزوَّج ".

فتأمل كيف أن أبا بكر الصديق t اعتبر العلة التي جعلت المرأة أولى بالحضانة من الرجل .. والتي بها تتحقق مصلحة الطفل .. وهي كونها " أعطَف، وألطَف، وأرحم، وأحنَا، وأرأف ".

وفي رواية قال له:" ريحها، وحجرها، وفراشها خير له منك، حتى يَشِبَّ ويختار لنفْسِه ".

قال محمد صديق خان في كتابه الروضة الندية: وقد أجمع العلماء على أن الأم أولى بالطفل من الأب ا- هـ.

أما الدليل على أن الذي يلي الأم هي الخالة، فهو للحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره، عن علي بن أبي طالب t قال: خرجَ زيد بن حارثة إلى مكة، فقدم بابنة حمزة، فقال جعفر: أنا آخذها، أنا أحق بها؛ ابنة عمي، وعندي خالتها، وإنما الخالة أم. فقال علي: أنا أحق بها، ابنة عمي، وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أحق بها. فقال زيد: أنا أحق بها؛ أنا خرجتُ إليها، وسافرت، وقدمت بها. فخرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قال:" وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها؛ وإنما الخالة أم "[[57]].

وفي رواية:" فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: الخالة بمنزلة الأم "[[58]].  

قال صاحب الروضة 2/185: الحق أن الحضانة للأم ثم للخالة للدليل الذي قدمنا، ولا حضانة للأب ولا لغيره من الرجال والنساء إلا بعد بلوغ الصبي سن التمييز، فإن بلغ إليه ثبت تخييره بين الأم والأب ا- هـ.

وأما الدليل على أن الذي يلي الخالة هي الجدة أم الأم، فهو للأثر الذي رواه الإمام مالك في " الموطأ " 2/767: عن يحيى بن سعيد، أنه قال:" سمعتُ القاسم بن محمد يقول: كانت عند عمر بن الخطاب امرأةٌ من الأنصار، فولدت له عاصم بن عمر، ثم إنه فارقها، فجاء عمر قُباء، فوجد ابنه عاصماً يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعضُدِه، فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدَّةُ الغلام، فنازعته إياه، حتى أتيا أبا بكرٍ الصديق، فقال عمر: ابني، وقالت المرأةُ: ابني، فقال أبو بكرٍ: خَلِّ بينها وبينَه. قال: فما راجعَهُ عمرُ الكلامَ.

قال: وسمعت مالكاً يقول: وهذا الأمرُ الذي آخذُ به في ذلك "ا- هـ. أي أفتي وأقضي به.

قال محمد صديق خان في الروضة: قال في المسوى ـ أي قال ولي الله الدهلوي في كتابه المسوى شرح الموطأ ـ: إذا فارق الرجل امرأته وبينهما ولد صغير فالأم، وأم الأم أولى بالحضانة من الأب لرواية مالك " ا- هـ. أعلاه.

وفي رواية في المصنف لعبد الرزاق، عن القاسم بن محمد قال: أبصرَ عمر عاصماً ابنه مع جدته أُمِّ أُمِّه، فكأنه جاذبها إياه، فلما رآه أبو بكرٍ مقبلاً، قال أبو بكر: هي أحقُّ به، قال: فما راجعه الكلام.

قلت: عمل اتفق عليه الشيخان لا ينبغي ولا يجوز الحيدة عنه أو مخالفته، لقوله صلى الله عليه وسلم:" اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر "[[59]]. وفي رواية:" إنِّي لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذينِ من بعدي "؛ وأشارَ إلى أبي بكرٍ وعمر "[[60]].

قال ابن حزم في المحلى 10/143: الأم أحق بحضانة الولد الصغير والابنة الصغيرة حتى يبلغا المحيض أو الاحتلام، أو الإنبات مع التمييز، وصحة الجسم، سواء كانت أمَة أو حرة، تزوَّجَت أم لم تتزوّج، رحلَ الأب عن ذلك البلد أو لم يرحَل، والجدَّة أم ا- هـ.

فإن شَبَّ الولَدُ وبلغ سنَّ التمييز خُيِّر بين والديه، أيهما اختار ذهب معه، للحديث الذي أخرجه النسائي وغيره، عن أبي هريرة قال: إنَّ امرأة جاءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: فداكَ أبي وأمي، إن زوجي يريدُ أن يُذهب بابني، وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عِنَبَة، فجاء زوجها، وقال: من يُخاصمني في ابني؟ فقال صلى الله عليه وسلم:" يا غُلام! هذا أبوك، وهذه أمُّكَ، فخذ بيدِ أيهما شئتَ ". فأخذَ بيدِ أمه، فانطلقت به[[61]].

وعن عبد الحميد بن سلمة الأنصاري، عن أبيه، عن جده: أنه أسلمَ وأبت امرأته أن تُسلِم، فجاء ابن لهما صغير؛ لم يبلغ الحلم، فأجلسَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأب ههنا، والأم ههنا ثم خيره، فقال:" اللهمَّ اهدِهِ " فذهب إلى أبيه[[62]]. والحديث فيه أن الولد يُخير بين أبويه حتى لو كانت أمه غير مسلمة ـ ما أُمِنَت الفتنة على الولد في دينه وأخلاقه ـ وما ذلك إلا لما لحضانة الأم من مزيّة عظيمة .. ولما لها من حقٍّ مغلّظ على ولدها.

فإن قيل: كيف نفسر قوله صلى الله عليه وسلم:" صلى الله عليه وسلم:" أنتِ أحقُّ به ما لم تنْكِحي "؟

أقول: يُفسر كالتالي: أي أن هذا الحق محفوظ لكِ .. فإذا نكحتي وتزوجتي .. لم يعد هذا الحق خالصاً لكِ .. وإنما يُنظَر في أمرِك ومدى عطائك لطفلك في ظل زواجك الثاني .. فإن وجِد أن حضانتك لطفلك ستتأثر سلباً بسبب زواجك .. وكان زوجك غير مأمون على أبنائك .. انتقلت الحضانة إلى غيرك بحسب التسلسل الوارد أعلاه .. لأن الجانب الأهم في الحضانة هو اعتبار مصلحة الطفل قبل غيره.

وهذا لا يعني بالضرورة أن تنتقل الحضانة مباشرة إلى الأب مهما كانت النتائج والآثار[[63]] .. بدليل أن الحضانة بعد الأم للخالة، وإن كانت ذات زوج، كما في قصة ابنة حمزة؛ فقد قضى لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون عند خالتها، علماً أن خالتها لها زوج، وزوجها هو جعفر بن أبي طالب t. وأنس ابن مالك ـ خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كان في حضانة أمه، وهي زوجة لأبي طلحة، ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم.  

قال صاحب الروضة 2/185: حديث " أنتِ أحقُّ به ما لم تنْكِحي " يُفيد ثبوت أصل الحق في الحضانة للأب بعد الأم ومن هو بمنزلتها؛ وهي الخالة، فتكون أهل الحضانة الأم ثم الخالة ثم الأب ا- هـ.

قال ابن حزم في المحلى 10/153:" ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن أجلح: أن شريحاً قضى بالصبي للجدّة إذا تزوجت أمه ". 

قلت: المهم في الحاضن ـ إضافة إلى مراعاة من له الأولوية في الحضانة ـ أن يكون مأمون الجانب في دينه وأخلاقه، كفأ لمهمة الحضانة، أما إن كان غير مأمون الجانب في دينه وأخلاقه، وكان ممن يقترف الفواحش والمنكرات، ويتعاطى المسكرات والمخدرات، وخُشي على الطفل من سوء دينه وأخلاقه .. انتقلت الحضانة منه ـ مهما علا كعبه وشأنه حتى لو كانت الحاضنة هي الأم أو الأب ـ إلى من يليه من أولي الأرحام بحسب الأولوية، بشرط أن يكون مأموناً في دينه وأخلاقه .. ويُرجى منه الخير للطفل أكثر من غيره .. لأن الغرض الأساس من الحضانة ـ كما ذكرنا من قبل ـ هي سلامة الطفل ومصلحته الدينية والدنيوية سواء.

قال تعالى:) وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (المائدة:2. فوضع الطفل في حضانة ضارة غير مأمونة النتائج والعواقب هو من التعاون على الإثم والعدوان، والعكس إذا وضع الطفل في حضانة سليمة مأمونة النتائج والعواقب فإن ذلك يُعد من التعاون على البر والتقوى.

كذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للغلام بأن يهديه الله لاختيار والده المسلم على والدته غير المسلمة .. علماً أن أولوية الحضانة هي للأم كما تقدم .. ولكن هنا رُوعيت مصلحة الطفل؛ التي تتحقق في حضانة المسلم أكثر مما هي في حضانة غير المسلم .. وإن كان هذا الغير هي الأم!

قال ابن حزم في المحلّى 10/145: اختصمَ خال وعم إلى شريح في صبي فقضى به للعم، فقال الخال: أنا أنفق عليه من مالي؟ فدفعه إليه شريح. وهذا نص قولنا ا- هـ. 

والشاهد أن القاضي العادل شريح لما لمس أن الخال أقدر على تمتيع ورعاية الطفل مادياً ودنيوياً من العم أوكل إليه مهمة الحضانة .. بعد أن كان قراره الأول لصالح العم.

قال ابن القيم رحمه الله: فمن قدّمناه بتخيير، أو قرعة، أو بنفسه، فإنما نقدمه إذا حصلت به مصلحة الولد. ولو كانت الأم أصوَن من الأب، وأغير منه، قُدّمت عليه، ولا التفات إلى قرعة، ولا اختيار للصبي في هذه الحالة؛ فإنه ضعيف العقل، يُؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك لم يُلتفَت إلى اختياره، وكان عنده من هو أنفع له، وأخير، ولا تحتمل الشريعة غير هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال:" مُروهم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم على تركها لعشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع ". والله تعالى يقول:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (التحريم:6. وقال الحسن: علموهم وأدبوهم وفقهوهم، فإذا كانت الأم تتركه في المكتب، وتعلمه القرآن، والصبي يُؤثر اللعب، ومعاشرة أقرانه، وأبوه يمكنه من ذلك، فإنها أحق به بلا تخيير، ولا قرعة، وكذلك العكس، ومتى أخلّ أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطّله، والآخر مُراعٍ له فهو أحق وأولى به.

قال: وسمعت شيخنا ـ ابن تيمية رحمه الله ـ يقول: تنازع أبوان صبياً عند بعض الحكام، فخيره بينهما، فاختار أباه، فقالت له أمه: سلْه لأي شيء يختار أباه؟ فسأله؟ فقال: أُمّي تبعثني كل يوم للكتّاب، والفقيه يضربني، وأبي يتركني للعب مع الصبيان. فقضى به للأم، قال: أنتِ أحق به.

قال: قال شيخنا: وإذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي، وأمره الذي أوجبه الله تعالى عليه، فهو عاصٍ، ولا ولاية له عليه، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له، بل إما أن تُرفَع يده عن الولاية، ويُقام من يفعل بالواجب، وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب؛ إذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان[[64]]ا- هـ.

ـ نفقة الحضانة: لا خلاف أن نفقة الحضانة المتضمنة والشاملة للنفقة على الحاضنة " الأم " والأبناء سواء، هي واجبة على الوالد .. وهي تشمل تكاليف السكن، والملبس، والمأكل، والمشرَب. 

كما قال تعالى:) وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا (البقرة:233. ومن إضرار الوالدة بولدها الامتناع عن النفقة عليها وعلى ولدها عساها أن تتخلى عن ولدها للآخرين .. فيتحقق لها الإضرار من وجهين: حرمان حقها وحق ولدها من النفقة .. وانتزاع ولدها منها لعدم وجود النفقة التي تكفيها وولدها .. وهو أشد عليها ضرراً وحرجاً من مجرد قطع النفقة عنها.

وقال تعالى:) وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (النساء:5.

وقال تعالى:) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (الطلاق:6.

وقال تعالى:) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ (الطلاق:7.

وفي الصحيحين: قالت هند أم معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سُفيان رجلٌ شحيحٌ، فهل عليَّ جناحٌ أن آخذَ من ماله سِرّاً؟ قال:" خذي أنتِ وبنوكِ ما يكفيكِ بالمعروف ".

وقال صلى الله عليه وسلم:" كفى بالمرءِ إثماً أن يُضيِّعَ من يَقوت "[[65]].

ـ مشكلة في بلاد الشرق وبلاد الغرب حول الحضانة:

في بلاد الشرق؛ العربية منها والأسوية يتهرب الرجل ـ إلا من رحم الله ـ من حضانة أبنائه؛ لكي لا يلتزم بالنفقة الشرعية لهم، وحتى لا تستفيد الحاضنة " أمهم " من النفقة .. وفي كثير من الأحيان .. يجد من عادات وتقاليد وقوانين بلده ما يُعينه على هذا الظلم والعدوان .. مما يدفع المرأة لفقرها وضعفها أن تتخلى عن حضانة أبنائها لأبيهم ولذوي وقرابة أبيهم .. فيتحقق بذلك الضرر للأم وللأبناء سواء؛ لفقدانهم المحضن الأسلم والأكثر أماناً لهم من غيره .. ثم أن هذا الفصل بين الأبناء وأمهم قد يمتد لسنوات طوال من دون أن يسمح الأب لأبنائه بزيارة أمهم أو التعرف عليها .. وإنّي  لأعلم عن حالات بلغ فيها الأبناء سن الشباب والرجولة .. وهم لا يعرفون شيئاً .. ولا يريدون أن يعرفوا شيئاً عن أمهم!

أمّا في بلاد الغرب " الأوربية "؛ لما تستحقه المرأة المطلقة في قانونهم من نفقة ورعاية كاملتين تشملان نفقات المسكن، والملبس، والمأكل، والمشرب، والتعليم، والعلاج الطبي للأبناء ولحاضنتهم معاً .. فإن من الآباء ـ وللأسف ـ من يزاحم امرأته على هذه الحضانة .. ليس رغبة منه في الحضانة .. أو لأنه الأكفأ في الحضانة .. والرعاية .. وإنما لكي يحصل على تلك النفقات التي تصرفها الحكومة على الأبناء وحاضنتهم .. ويحرم أمهم من هذا الحق .. وهو ما إن يتحقق له ذلك .. يكفيه من شؤون الحضانة أن يأتي لأبنائه بخادمة أجنبية ـ لا تراعي فيهم حقّاً ولا واجباً ـ لكي ترعاهم .. ليضرب هو في الأرض .. ويتمتع ببقية حياته .. ساهياً لاهياً!

أما إن صُرِفت نفقة الحضانة للأم ـ وهي في الغالب تُصرَفَ لها ـ فإن الأب ـ إلا من رحم الله ـ لا يتعرّف على أبنائه في شيء .. وتراه يتهرب من واجباته نحوهم ولتي منها النفقة عليهم وعلى الحاضنة .. بحجة أن الحكومة تنفق عليهم وعلى أمهم .. وهو بعد ذلك .. لا يستحي بأن يُطالب بجميع وكامل حقوق الأبوة على أبنائه .. وعلى كل ما يمت بصلة بأبنائه!

هذا واقع ظالم .. نشاهده .. ونعايشه .. ونكابده .. والمرأة وأبناؤها هم ضحاياه .. وعلاجه أن يتقي الرجالُ اللهَ U فيما استرعاهم إياه، واستأمنهم عليه .. وسائلهم عنه يوم القيامة ) يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (الشعراء:88-89.

* * * * *

ـ مسائل متفرّقة:

ـ المسألة الأولى: مسألة اللعان: رجل يرى رجلاً مع امرأته في فراشه، يقترفان الفاحشة .. ماذا يفعل؟ هل يقتله، أم يقتلها، أم يقتلهما معاً .. أم له حكم آخر؟ 

الجواب: الحمد لله رب العالمين. أخرج البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ عُويمِراً العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري، فقال له: يا عاصم، أرأيتَ رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتلُهُ فتقتلونَهُ، أم كيف يفعل؟ سَلْ لي يا عاصم عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عاصمٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسائِلَ وعابَها، حتى كَبُرَ على عاصم ما سمع من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع عاصم إلى أهله، جاءه عُويمِر، فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير؛ قد كَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها، فقال عُويمر: والله لا أنتهي حتى أسألَه عنها، فأقبل عُويمِر حتى جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وسَطَ الناسِ، فقال: يا رسولَ الله، أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" قد أُنزِلَ فيك وفي صاحبتك فاذهَب فأتِ بها ".

وفي رواية:" فأنزل الله في شأنه ما ذكرَ في القرآن من أمر المتلاعِنَين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" قد قضى الله فيك وفي امرأتك ". قال سهل: فتلاعَنَا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغا من تلاعنهما، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن شهاب راوي الحديث عن سهل: فكانت السنة بعدهما أن يُفرَّق بين المتلاعنين، وكانت حاملاً، وكان ابنها يُدعى لأمه. قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله له. وفي رواية: ما فرض الله لها " والحديث متفق عليه.

وفي رواية عند أبي داود: قال سهل: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنفذه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما صُنِع عند النبي صلى الله عليه وسلم سُنة.

قال سهل: حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضت السنة بعد في المتلاعنين: أن يُفَرَّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدا[[66]].

أما صيغة الملاعنة كيف تتم، فهي كما قال تعالى:) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ( أي بالزنى ) وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ( فيقول: أشهدُ بالله ) إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ . وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذَابَ ( أي الحد، والرجم ) أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ . وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (النور:6-9.

ومن السنَّة أن يُوعَظ المتلاعنان قبل بدئ الملاعنة، كما في الحديث عند النسائي، فوعظهما:" فبدأ بالرجل فوعظه، وذكَّره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: والذي بعثك بالحق ما كذبت، ثم ثنَّى بالمرأة فوعظَها وذكَّرَها، فقالت: والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنَّى بالمرأة ..."[[67]].

كما يُسَن في الخامسة أن توقَف المرأة فيُقال لها:" إنها موجبة " فتُخَوَّف بالله. وكذلك يضع رجلٌ يده على فِيّ الملاعِن في الخامسة، فيقول له:" إنها موجبة "[[68]]. فيخوفه بالله.

فإن قيل: أين المهر .. هل يُرَد شيء منه إلى الرجل؟

أقول: قضت السنة أنه ليس للرجل في اللعان أن يأخذ شيئاً من الصداق، كما في الحديث المتفق عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمتلاعنَين:" حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لكَ عليها "، قال: مالي؟ قال صلى الله عليه وسلم:" لا مالَ لك؛ إن كنتَ صدَقتَ عليها فهو بما استحللتَ من فرجِها، وإن كنتَ كذبتَ عليها فذاكَ أبعدُ لكَ ".

قلت: فتأمَّل قوله صلى الله عليه وسلم:" لا سبيلَ لكَ عليها " أي لاسلطان لك عليها ـ بعد الملاعنة ـ في محاسبتها أو معاقبتها في شيء .. وفي هذا التوجيه النبوي الشريف صلوات ربي وسلامه عليه رد على الذين يرتكبون جرائم قتل الشرف ـ في البلاد العربية والأسوية ـ باسم الانتقام للشرف .. والغيرة المزعومة .. وهم ليس لهم ـ بنص القرآن والسنة ـ أكثر من الملاعنة .. كما هو مبين أعلاه .. ومما زاد الطين بلةً .. والأمر سوءاً أن هذه الجرائم التي تُرتكب في كثير من الأمصار .. في كثير من الأحيان تُلصَق باسم الإسلام .. والإسلام منها براء![[69]].

وفي الحديث عن أبي هريرة، قال: قال سعد بنُ عبادة: يا رسولَ الله لو وجدتُ مع أهلي رجلاً، لم أمَسَّه حتى آتِيَ بأربعةِ شُهداء؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" نعم ". قال: كلا؛ والذي بعثَكَ بالحق إن كنتُ لأُعاجِلُه بالسيف قبل ذلك! قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" اسمعوا إلى ما يقولُ سيدُكم؛ إنه لغيورٌ، وأنا أغيرُ منه، واللهُ أغيرُ مني " مسلم.

فلا ينبغي ولا يجوز أن تُرتَكب الجرائم باسم الغيرة .. والمزاودة بالغيرة .. فلا أحد أغير من الله تعالى، ولا للغيرة إلا فيما أوجب الله تعالى فيه الغيرة، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" لا أحَدَ أغيرَ من الله، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بَطن " البخاري. وبالتالي لا يجوز لعبد أن يُزاود بالغيرة على غيرة الله تعالى؛ فيغار أكثر من المشروع، أو فيما لا تجوز فيه الغيرة.

وعن أنس، قالوا: يا رسولَ الله، ألا تتزوج من نساء الأنصار؟ قال:" إن فيهم لَغَيْرَةً شديدةً "[[70]]. فكان ذلك سبباً مانعاً للنبي صلى الله عليه وسلم من الزواج منهن .. فالغيرة محمودة ما التزمت بحدود وضوابط الشرع، وما زاد أو نقص عن المشروع فهو مذموم، لذا جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:" من الغيرة ما يُحِبُّ الله، ومنها ما يكرَهُ الله؛ فأما ما يُحبُّ اللهُ، فالغيرة في الريبةِ، وأما ما يكرهُ فالغيرة في غير ريبةٍ "[[71]]. وقال صلى الله عليه وسلم:" غَيْرَةُ اللهِ أن يأتِي المؤمنُ ما حرَّمَ اللهُ عليه "[[72]]. 

ـ المسألة الثانية: مسألة الكفاءة في السِّن:  إذ أصبح من الملاحظ في كثير من المجتمعات العربية والأسوية تزويج ابن الستين عاماً من ابنة الخامسة عشرة من عمرها .. مستدلين على زواجهم بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها .. فهل هذا جائز؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين. من الكفاءة التي يجب مراعاتها الكفاءة والتقارب في السن بين الزوجين .. وأعني بذلك الكفاءة الجنسية .. إذ لا ينبغي أن يُزوّج ابن الستين بنت الخامسة عشر عاماً كما يحصل ذلك في كثير من المجتمعات العربية والأسوية مستغلين فقر وحاجة وجهل بعض العوائل .. لأن الضرر حينئذٍ ـ وكذلك الإعضال ـ محقق للمرأة ولا بد .. حيث في الوقت الذي ينطفئ فيه الرجل جنسياً وينتهي عطاؤه تكون المرأة في أقوى مراحل عطائها .. ويكون مثلها مثل من تُزوَّج من عنِّين؛ لا يقدر على الوصال .. فتتشوف الرجال .. وتستشرف النظر إليهم بالحرام .. وهذا لا يجوز .. لما فيه من ضرر وإضرار، والله تعالى يقول:) وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً (البقرة:231. وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا ضرر، ولا ضرار ". ولو عملنا بأدلة قاعدة " سد الذرائع "، لسددنا الطريق على مثل هكذا زواج، ولا بد! 

ومما يحسن الاستدلال به في هذا الشأن ما أخرجه الترمذي في السنن، تحت باب " تُزَوَّجُ المرأةُ مثلُها في السِّنِّ "، عن بُريدة، قال:" خطَبَ أبو بكرٍ، وعمر رضي الله عنهما فاطمة، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" إنها صغيرة، فخطبها عليٌّ فزوَّجها مِنه "[[73]]. وقوله صلى الله عليه وسلم:" إنها صغيرة "؛ أي إنها صغيرة عليكما قياساً لعمركما .. وأبو بكر وعمر هما، هما .. بينما عليٌّ t سنه مكافئ ومتقارب من سنها " فزوَّجها مِنه ".

فإن قيل: كيف نفسّر إذاً زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها ..؟

أقول: قد كثر الاستدلال بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها على ما لا ينبغي ولا يجوز الاستدلال عليه .. فأيّنا كالنبي محمد صلوات ربي وسلامه عليه .. مَن يجرؤ أن يزعم أن رجولته وفحولته كرجولة وفحولة النبي صلى الله عليه وسلم .. فالنبي صلى الله عليه وسلم له المثل الأعلى في جميع خصال وخصائص الإنسان .. بما في ذلك خاصية الرجولة والفحولة .. فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك:" أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذٍ تسع نسوة ". الله أكبر .. تبارَك اللهُ أحسنُ الخالِقين .. فمن من الرجال يُطيق ذلك .. حتى يحسن أن يُشبه نفسه بالنبي صلى الله عليه وسلم .. ويقيس نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم؟!

وفي رواية ـ عند البخاري أيضاً ـ: عن قتادة قال: حدَّثنا أنَس بن مالك قال:" كان النبيُّ يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهنَّ إحدَى عشرةَ " قال: قلت لأنس: أوَكان يُطيقه؟ قال:" كنا نتحدَّثُ أنه أُعطيَ قوَّة ثلاثينَ ". فليتأمَّل عجائز هذا الزمان الذين لا يستحون؛  فيقيسون أنفسهم على النبي صلى الله عليه وسلم .. وإذا ما قيل للرجل: كيف تُزوج وليتك من رجل يزيدها خمسين عاماً .. سرعان ما يبادرك القول والاستدلال بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة .. ساء ما يقولون .. وما يفهمون .. فبئس الفهم فهمهم .. وبئس القول قولهم! 

تقول أُمّنا؛ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:" كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقبّل وهو صائم، ويُباشر وهو صائم، ولكنه كان أملَك لإرْبِه " متفق عليه.

وفي رواية، قالت:" وأيكم كان أملَك لإرْبه من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ".

وفي صحيح ابن خزيمة، عن الأسود، قال: انطلقت أنا ومسروق إلى أم المؤمنين نسألها عن المباشرة ـ أي في الصيام ـ فاستحيينا، قال: قلت: جئنا نسأل حاجةً فاستَحْيَيْنا. فقالت: ما هي؟ سلا عما بدا لكما. قال: قلنا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُباشِر وهو صائم؟ قالت:" قد كان يفعل، ولكنه كان أملَكَ لإرْبِه منكم "[[74]].

وفي صحيح البخاري، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" لا تواصلوا " ـ أي في الصيام؛ فيوصَل الليل بالنهار من غير إفطار ـ قالوا: فإنَّك تواصل يا رسول الله. قال: لست كأحدٍ مِنْكم ـ وفي رواية: إني لستُ مِثلكم ـ إنِّي أُطعَم وأُسقَى ". وفي رواية:" إنيِّ لستُ كهيئتكم، إني أبيتُ لي مُطعِمٌ يُطعمني، وساقٍ يسقين ". وفي رواية:" وأيكم مثلي؛ إنِّي أبيتُ يُطعمني ربي ويَسقين ". وكل هذه الروايات عند البخاري في صحيحه.

وبالتالي لا يجوز أن يُقاس أقوى الرجال .. وفي عِز رجولتهم وشبابهم .. على قوة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو في آخر أيامه وعهده من دنيانا .. فضلاً عن أن يُقاس العجايز وكبيري السن .. وأيما قياس من هذا القبيل أعده انتقاصاً من قدْر ورجولة النبي صلى الله عليه وسلم .. وأيما امرئ يقيس نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم ويريد من قياسه الانتقاص من قدْر وجناب النبي صلى الله عليه وسلم .. وأعرف ذلك منه .. والذي نفسي بيده لا أتردد لحظة من تكفيره بعينه، والحكم عليه بالردة.

إضافة إلى هذا الذي تقدم يُقال كذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم يملك الكمال في جميع خصائص وصفات الكفاءة المطلوبة بين الزوجين .. وهو ما يزيل مطلق الأثر لما يُقال عن الفارق في العمر بين الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه .. وبين أمّنا؛ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها .. وهذا ليس لأحدٍ بعده .. وبالتالي لا يجوز لأحدٍ أن يقيس نفسه وزواجه على نفس النبي صلى الله عليه وسلم وزواجه صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها.

فإن قِيل: هل يُقال هذا الذي تقدم أعلاه إذا ما تزوّج صغيرٌ من كبيرة، وكان الفارق في العمر بينهما كبير، إلى درجة تكون المرأة فيها فوق سن الإنجاب ..؟

أقول: إن كانت زوجته الوحيدة، وفي نيته أن لا يعدد عليها، وظرفه لا يسمح له بالتعدد، نعم يُكرَه للصغير أن يتزوج من كبيرة قد دخلت سن اليأس، وتجاوزت سن الإنجاب، وقد ترقى الكراهة إلى درجة التحريم بحسب الضرر والحرج المترتب على هكذا زواج .. فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّي أصبتُ امرأة ذات حسَبٍ وجمال، وإنها لا تلِد، أفأتزوجها؟ قال صلى الله عليه وسلم:" لا ". ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال:" تزوّجوا الودودَ الولودَ فإنِّي مكاثِر بكم الأمم يومَ القيامة "[[75]]. هذا إذا كانت لا تلد فقط ـ وهي ذات حسب وجمال ـ فكيف إذا كانت مع كونها لا تلِد لا تُحصّن زوجها من الوقوع في الفتن للفارق الكبير بينهما في السن ـ والتي كثرت في هذا الزمان، وأحاطت بالرجال والنساء سواء إحاطة السوار بالمعصم ـ وهو في المقابل لا يجد أمامه إلا إياها .. ولا يقدر على الزواج من غيرها .. لا شك حينئذٍ أن الكراهة تتغلظ، وقد ترقى إلى درجة التحريم.

لكن إن كان من ذوي التعدد أو في نيته أن يُعدّد، والظروف تسمح له أن يُعدد، فأضافها إلى جملة نسائه .. أرجو أن لا يكون في ذلك حرج إن شاء الله .. ولا يُقال في هذا الموضِع ما قلناه بحق الصغيرة عندما تتزوج من كبير يفوقها عشرات السنين؛ لأن البنت ـ في الوصف المتقدم ـ فاقدة لمطلق الخيارات .. مقصورة على عجوزها .. لا خيار لها غيره .. بينما الرجل في مثالنا السابق له خيارات عدة؛ له ـ إن شاء ـ أن يتزوج ثلاث نساء إضافة إلى تلك المرأة الكبيرة في السن التي تزوجها .. إضافة إلى خيار الطلاق لو شاء، والله تعالى أعلم. 

ـ المسألة الثالثة: غياب الرجل عن زوجته: كم يحق للزوج أن يغيب عن زوجته .. ولو غاب غياباً قسرياً كالسجن ونحوه أو كان مفقوداً لا يُعلَم مكانه .. كم هي المدة التي يحق بها للمرأة أن تطلب التفريق وفسخ العقد؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين. اعلم أن الإسلام جاء برفع الضرر عن المرأة، أو أن تُمسَك ضراراً وإعضالاً وفتنة من غير نكاح ولا طلاق .. من ذلك إمساكها على نكاح غائبٍ مهما طال غيابه فتضطر أن تستشرف الفتنة والحرام .. ثم لو فعلت أو وقعت في شيء من ذلك تُعاقَب عليه!.. فالإسلام قد جاء بسد الذرائع التي تمنع من الوقوع في الحرام قبل العقوبة على الوقوع في الحرام .. وقد تقدم ذكر النصوص الشرعية الدالة على ذلك .. وقد خاض الخائضون في تحديد زمن غياب الزوج الذي يحق للمرأة بعده أن تطلب الطلاق أو فسخ العقد .. فمنهم المكثر ومنهم المُقِل؛ بحسب ما يرجح لهم تحقق الضرر للمرأة.

وأقرب الأقوال عندي للنص، ولروح الشريعة ومقاصدها، هو ما ورد في مدة " الإيلاء " وصفته أن يحلف الرجل أن يهجر زوجته ولا يقترب منها بنكاح .. فحدد له الشرع مدة أقصاها أربعة أشهر .. لا يحق له تجاوزها .. فإن أراد تجاوزها يخير بين الطلاق أو الرجوع إلى زوجته ليعاشرها معاشرة الأزواج لنسائهم .. وليس له إلا أن يختار، كما قال تعالى:) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة:226-227. قال ابن كثير في التفسير: إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر إما أن يفيء؛ أي يجامع، وإما أن يطلق فيجبره الحاكم على هذا، وهذا لئلا يضر بها ا- هـ. 

أخرج البخاري في صحيحه، أن ابن عمر كان يقول في الإيلاء الذي سمَّى الله: لا يحلُّ لأحدٍ بعدَ الأجل إلا أن يُمْسِك بالمعروف أو يعزِم الطلاق كما أمرَ الله عزَّ وجَل.

وفي رواية عنه ـ عند البخاري كذلك ـ: إذا مضت أربعةُ أشهرٍ يُوقَفُ حتى يُطلِّق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يُطلّق. قال البخاري: ويُذكَر ذلك عن عثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعائشة، واثني عشرَ رجلاً من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

قلت: وعليه فالذي يغيب عن زوجته غياباً قصرياً أو اختيارياً أكثر من أربعة أشهر .. فللمرأة

الحق ـ إن شاءت ـ أن تطلب الطلاق أو فسخ عقد النكاح إن كان غيابه مجهولاً أو لا يُقدَر على الوصول إليه .. كما لها أن تصبر وتحتسب وتزيد من مدة الانتظار ما شاءت[[76]].

فإن قيل: هذا إيلاء وذاك غياب .. فأين وجه الشبه بينهما؟

أقول: كلاهما يتحقق فيهما الهجر للزوجة والبعد عن الجماع .. والعلّة في تحديد الزمن في الإيلاء بأربعة أشهر هي مراعاة مصلحة المرأة، وعدم الإضرار بها، ومراعاة قدرتها وصبرها على تحمل مفارقة الزوج والنكاح .. وليس مجرد حضور أو غياب الرجل من غير معاشرة .. علماً أن الغياب الكلي أشد وطأ وأثراً على المرأة من الإيلاء، فالغياب هجر كلي .. ومفارقة كلية للزوجة وبيتها سواء .. فلا تراه مطلقاً .. لا داخل البيت ولا خارجه .. بينما الإيلاء هو هجر مع إقامة الرجل في بيت المرأة .. ومع ذلك حُددت مدته بفترة زمنية أقصاها ) أَرْبَعَة أَشْهُرٍ ( أو الطلاق.

ولعل ما يُؤيد هذا القول، ما روي عن عمر t أنه سأل ابنته حفصة ـ وقيل غيرها من النساء ـ:" كم تصبر المرأة عن زوجها؟ تصبر شهراً؟ فقلن: نعم، قال: تصبر شهرين؟ فقلن: نعم، قال: ثلاثة أشهر؟ قلن: نعم، ويقلُّ صبرها، قال: أربعة أشهرٍ؟ قلن: نعم؛ ويفنى صبرها، فكتب إلى أمراء الأجناد؛ في رجالٍ غابوا عن نسائهم أربعة أشهرٍ أن يردوهم "[[77]].

وفي المصنّف لعبد الرزاق 7/151: عن ابن جريج، قال: أخبرني من أصدّق أن عمر وهو يطوف ـ أي في المدينة ـ سمع امرأة وهي تقول:

تطاول هذا الليل واخضلَّ جانبه ... وأرَّقني إذ لا خليلٌ أُلاعبُه

فلولا حذارِ الله لا شيء مثلُه ... لزُعْزِعَ من هذا السريرِ جوانِبُه

فقال عمر: فما لكِ؟ قالت: أغرَبتَ زوجي منذ أربعةَ أشهرٍ، وقد اشتقتُ إليه، فقال: أردتِ

سوءاً، قالت: معاذ الله، قال: فاملكي على نفسك، فإنما هو البريدُ إليه، فبعث إليه، ثم دخل على حفصة فقال: إنِّي سائلك عن أمرٍ قد أهمَّني فأفرجيه عنّي؛ كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟ فخفضت رأسها فاستحييت، فقال: فإنَّ الله لا يستحي من الحق، فأشارت ثلاثةَ أشهرٍ، وإلا فأربعة، فكتب عمر ألا تُحبَس الجيوش فوق أربعة أشهرٍ ".

ـ المسألة الرابعة: مشاكل الزواج والطلاق في ظل غياب السلطان المسلم القادر على إنصاف الخصوم: كيف تواجَه .. وكيف تُعالج .. وكيف تتم عملية تحصيل الحقوق .. وفي حال خذلان المحاكم الوضعية للمرأة وحقوقها .. ماذا تفعل؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين. غياب السلطان المسلم الذي يحكم بين الخصوم بالشريعة الإسلامية، والقادر على إلزام الخصوم والمتنازعين بحكمه .. حلقة مفقودة في مجال الأحوال الشخصية في بلاد المسلمين وغيرها .. والطرف الأضعف في ظل هذا الواقع هي المرأة .. فالرجل الأناني هو المستفيد من هذا الفراغ؛ فهو مهما اشتدت الأمور عليه يكفيه أن يرمي عبارة الطلاق ثم يمضي ليستأنف حياة جديدة .. ومن دون أن يأبه لقرار قاضٍ أو حكم محكمة .. بينما حقوق المرأة في المخالعة .. وفسخ عقد النكاح على اختلاف صوره وأسبابه .. وتحصيل حقوقها المادية .. وحقوق الحضانة .. وتفعيل الطلاق بصورة رسمية تمكنها ـ عرفاً بحسب نظرة المجتمع إليها ـ من استئناف حياة جديدة بالنسبة لها ـ إذ من النساء من يُرمَى عليها الطلاق .. ثم هي لا تستطيع أن تفَعِّل الطلاق في المحاكم الوضعية .. فتبقى معلقة؛ فلا هي مطلقة كما ينبغي، ولا هي متزوجة .. وهذا واقع يروي غليل وأحقاد بعض ضعاف النفوس والإيمان من الرجال .. ويجرئهم على مزيد من الظلم والانتقام ـ كل هذه القضايا وغيرها مرتبطة ـ كما تقدم معنا ـ بوجود سلطان مسلم .. وقضاء شرعي عادل وقوي قادر على إنصاف طرفي النزاع وإلزامهما بما يجب عليهما نحو بعضهما البعض .. وهذا غير متحقق في جل الأمصار وللأسف .. وهو واقع نعايشه ونكابده لا يمكن تجاهله .. فما هو التوجيه الشرعي لهذا الواقع المرير .. وكيف للطرف الأضعف في هذه القضية ـ المتمثل في المرأة ـ أن تتصرف .. وأن تفعل؟

أقول: أولي الأمر الذين تجب طاعتهم في المعروف، والرجوع إليهم من أجل فض المنازعات، صنفان: الأمراء، والعلماء، وهم المراد من قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ (النساء:59. ) وَأُوْلِي الأَمْرِ (؛ هم الحكام والعلماء .. فإن غاب من أولي الأمر الحكام .. بقي العلماء؛ فإليهم يُرجع في فض المنازعات والخصومات بين المتنازعين والمتخاصمين .. والعلماء ـ بفضل الله تعالى ـ لا يخلو منهم زمان .. ولا مكان .. فإن عز وجودهم في مكان معينٍ إلا أنه لا يصعب طلبهم ووجودهم في أمكنة أخرى يسهل الوصول والرجوع إليهم .. وعبر وسائل عدة .. وهذا من معاني حفظ الله تعالى لدينه.

فإن قيل: كثير من المنازعات لا يمكن حسمها .. كما أن كثيراً من الحقوق لا يمكن تحصيلها إلا بنوع قوة مُلزمة .. وهذا ما لا يملكه العلماء .. وإنما يملكه السلطان الحاكم .. فمن الرجال من لا يأبه لعالم ولا لحكم وقرار عالِم .. فما العمل .. وكيف السبيل؟

أقول: تُحصَّل الحقوق ـ إن أمكن ـ عن طريق تدخل الأولياء والعقلاء ممن لهم سلطة مباشرة على طرفي النزاع .. ومنهم الحكمين؛ وأعني بهما حكماً من أهله، وحكماً من أهلها .. فحكمهما نافذ ومُلزم كما تقدم .. فإن تعثر ذلك .. وتعثر تحصيل الحقوق التي لا يمكن السكوت عنها، والتي يعني السكوت عنها الوقوع في الحرام .. وضياع النسل .. والعدوان على العِرض .. ثم تبين أن هذه الحقوق ـ أو بعضها ـ لا يمكن تحصيلها إلا عن طريق المحاكم المُشْرَعَة في الأمصار التي تملك سلطة وقوة الحاكم .. أرجو أن لا يكون في ذلك حرج إن شاء الله.

فإن قيل: لكن هناك قضايا ضرورية لو رفعتها المرأة إلى المحاكم الوضعية .. لوقعت في حرج شديد .. ولربما استهزئ بها وبدينها .. وتعرضت للسجن والاعتقال .. كأن ترفع قضية فسخ الزواج بسبب ردة زوجها عن الإسلام .. فالمحاكم الموجودة بما فيها المحاكم التي تزعم أنها تحكم بالشريعة في مجال الأحوال الشخصية .. لا تقبل مثل هذه القضايا .. والمرأة التي ترفع إليهم مثل هذه القضايا مستهجنة جداً .. من المحاكم الوضعية ومن المجتمع الذي تعيش فيه .. وهي سرعان ما تُرمَى بأنها تكفيرية .. وأصولية .. وإرهابية .. ومعقدة .. تستحق الطرد .. وربما السجن والعقاب؟![[78]].

فما العمل .. هل تبقى المرأة تحت ذمة كافر مرتد ـ لا يُراعي فيها إلَّاً ولا ديناً ولا حرمة ـ تعيش معه بالحرام .. وتلد منه بالحرام .. أم ماذا تفعل؟

أقول: لا حرج عليها حينئذٍ أن تلجأ للتورية .. وتتذرع بأي سببٍ آخر يسهّل عليها الخلاص من هكذا رجل .. لقوله تعالى:) إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ (الأنعام:119. ولقوله تعالى:) إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ (النحل:106.

ومما يحسن الاستدلال به في هذه المسألة، حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن إبراهيم عليه السلام، حيث قال صلى الله عليه وسلم:" لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ـ منها ـ: بينما هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبّار من الجبابرة، فقيل له: إنّ ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسَلَ إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال إبراهيم u: أختي، فأتى سارة، فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرِك، وإن هذا سألني فأخبرته أنكِ أختي، فلا تكذبينني ... " البخاري.

وفي رواية عند مسلم:" فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إنّ هذا الجبار إن يعلم أنَّكِ امرأتي يغلبني عليكِ، فإن سألكِ فأخبريه أنَّكِ أختي؛ فإنَّك أُختي في الإسلام، فإني لا أعلمُ في الأرض مسلماً غيري وغيرِكِ ... ".

فتأمل كيف أن إبراهيم عليه السلام التجأ إلى التَّورية، وأن يقول عن زوجته بأنها أخته ـ وهو لا شك أنه معذور في ذلك ـ من أجل أن يدفع عن نفسه وزوجته شرَّ الطاغوت .. فإن تفعل المرأة المسلمة الضعيفة فعله من أجل دفع شرِّ الطاغوت .. وشر كلابه من الزنادقة والمرتدين .. هو من باب أولى .. وأرجو أن لا يكون فيه حرج إن شاء الله.

ـ المسألة الخامسة: ولد الزنى؛ الذي يولَد سفاحاً من غير نكاح شرعي .. هل يجوز أن يُنسَب إلى أبيه .. وكيف يتم التعامل معه؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين. بحكم الإباحية التي فشت في الأمصار .. والتي تحميها القوانين والأنظمة الوضعية .. يقيم كثير من الشباب ـ في مرحلة من مراحل جاهليتهم ـ علاقات بالحرام مع بعض النساء .. خارج إطار الحياة الزوجية .. فيأتيهم منهن أولاداً سفاحاً بالحرام .. ثم بعد ذلك تظهر عليه علائم التوبة والأوبة .. "فتذهب السَّكرة وتأتي الفكرَة " .. فيريد أن يستأنف حياته مع الطرف الآخر بالحلال .. لكن المشكلة أنه وجد بينهما أولاد بالحرام .. فهؤلاء لمن ينسبون .. وما هي حقوقهم.

أقول: لا يُنسَبون للرجل .. فلا هو أبوهم ولا هم أبناؤه .. لا يرثهم ولا يرثونه .. وإنما يُنسبون لأمهم بحكم الحمل والإرضاع، كما في الحديث:" الولد للفراش، واللعاهر الحجَرُ " متفق عليه. 

وعن عبد الله بن عمرو، قال: قام رجل فقال: يا رسولَ الله، إن فلاناً ابني، عاهرتُ بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا دعوةَ في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولدُ للفراش، واللعاهِرِ الحَجَر "[[79]]. وقوله "الولد للفراش "؛ أي يلحق الولد بأمه بحكم الحمل والإرضاع .. وبمن كانت فراشاً له إن كانت ذات زوج.

وقوله صلى الله عليه وسلم:" واللعاهِرِ الحَجَر "؛ قال ابن حجر في الفتح 12/37: أي للزاني الخيبة والحرمان؛ ومعنى الخيبة هنا حرمان الولد الذي يدعيه، وجرت عادة العرب أن تقول لمن خاب:" له الحجَر وبفِيه الحجَر والتراب "ا- هـ. 

وقد قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن الولد إن جاء من أمَةٍ لا يملكها الرجل، أو من حُرّة عاهرَ بها، فإنه لا يلحق به ولا يرثه، وهو ولد زنية[[80]].

وهذا لا يعني أن يُعامل المولود بسوء .. فهو بريء ليس عليه شيء .. فلا ينبغي ولا يجوز أن يجتمع عليه شران: شرٌّ بسبب ولادته من غير أب شرعي .. وشر أن يُعامل معاملة سيئة ويُؤخذ بما لم تجني يداه، والله تعالى يقول:) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (الأنعام:164.

وقال صلى الله عليه وسلم:" لا يُؤخَذ الرجلُ بجناية أبيه، ولا جناية أخيه "[[81]]. وفي رواية:" لا يُؤخَذ الرجلُ بجريرة أبيه، ولا بجريرةِ أخيه ".

والواجب في هذه الحالة أن يُعامَل معاملة حسنة .. وأن يُحسَن إليه .. ويُعوَّض ما افتقده بسبب السفاح الذي وقع به الرجل والمرأة .. ولا يلزم بالضرورة إعلامه بأنه جاء من سفاح وزنى .. إن كان ذلك يزيده ألماً وحزناً وقلقاً .. ويُراكم عليه المشاكل .. ويجعله منبوذاً بين أقرانه وفي المجتمع الذي يعيش فيه .. لكن لا يرث الرجلَ كبقية إخوانه ممن جاؤا عن طريق الحلال .. وإنما يرث أمّه كما مرَّ معنا في مسألة الملاعنة، والله تعالى أعلم.

ـ المسألة السادسة: إذا طلَب الوالدان أو أحدهما من الولد طلاق زوجته: ماذا يفعل ..؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين. هذه مسألة كثيرة الوقوع والحصول .. وبالتالي لا بد من الإجابة عنها، حيث كثيراً من الأحيان يوضع الرجل بين خيارين: والداه أو زوجته .. وكلاهما هامان في حياته وحياة أسرته .. فيتشتت عليه قلبه وتفكيره وهمه .. فيحتار ويضطرب عليه الاختيار .. ومن كان كذلك بماذا يُجَاب؟

أقول: للإجابة عن هذه المسألة يجب أن يُنظَر في ثلاثة أمور:

أولها: دين وصلاح الأبوين .. هل هما من أهل التدين والصلاح والعدل .. أم أنهما غير ذلك ممن لا يُعيرون للدين والتدين قيمة ولا حرمة.

ثانيها: الأسباب التي حملت الأبوين أو أحدهما على مطالبة الولد بطلاق زوجته .. هل هي أساب مستساغة شرعاً وعقلاً، كأن تكون الزوجة لا تراعي في نفسها وزوجها حدود الله تعالى .. أم لأن الزوجة متدينة ومتحجبة وذات خلق ودين .. والأبوان لا يروق لهما امرأة لابنهما بهذه الأوصاف .. فيطالبان ولديهما بطلاقها من أجل ذلك.

ثالثها: الآثار والأضرار المترتبة على الإصغاء للأبوين وتنفيذ طلبهما .. سواء كانت الأضرار على الرجل أو على زوجته، أو على أبنائهما .. أو عليهم كلهم بمجموعهم .. هل هي محتملة ومقدور عليها أم لا .. ويُستساغ التضحية بها شرعاًً من أجل الوالدين ورضاهما .. أم لا؟

على ضوء هذه الأوجه الثلاثة مجتمعة تتحدد الإجابة .. وعليه فأقول: إن كان الأبوان من أهل التدين والصلاح والعدل .. وكانت مبررات طلبهم مشروعة ومعقولة .. تتضمن الغضب لحرمات الله تعالى .. ومصلحة ولدهما .. ثم كانت الأضرار الناجمة عن الطلاق محتملة ومقدوراً عليها .. ففي هذه الحالة: يجب على الولد أن يستجيب لأبويه .. وبخاصة إن علم أن رضاهما موقوفاً على طاعتهما فيما طلباه منه، لأن طاعتهما في المعروف ـ وفيما ليس فيه معصية ـ واجبة، قال تعالى:) وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (الإسراء:23. 

وفي الحديث فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" رِضا الرب في رِضا الوالدين، وسُخْطهُ في سُخْطِهما "[[82]].

عن ابن عمر، قال: كانت تحتي امرأة وكنت أُحِبُّها، وكان عمر يكرَهُها، فقال لي: طلقها، فأبيت، فأتى عمرُ t النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكرَ ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" طلِّقها "[[83]].

وعن أبي الدرداء، أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأةً وإن أمي تأمُرني بطلاقها؟ فقال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الوالِدُ أوسَطُ أبوابِ الجنة "، فإن شئتَ فأضعْ ذلك الباب أو احفظه[[84]]. وفي رواية: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الوالدُ أوسَطُ أبواب الجنة، فحافظ على والديك أو اترُك "[[85]]. لكن بتركهما تفقد أوسط أبواب الجنة.

أما إن كان الأبوان على العكس؛ كانا ممن لا يُعيرون للدين والتدين قيمة ولا حرمة ولا احتراماً .. وهما يطالبان ولديهما بطلاق امرأته من أجل دينها وحجابها وحسن خلقها والتزامها .. ولأنهما لا يحبان لابنهما امرأة بهذه الأوصاف .. فحينئذٍ لا يجوز للولد طاعة والديهما في طلاق امرأته؛ لأن طاعتهما في هذه الحالة مؤداه يقيناً للوقوع في الظلم والبغي والعدوان والإثم .. وهذا لا يجوز، كما قال تعالى:) وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا (العنكبوت:8. وقال تعالى:) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً (لقمان:15. 

وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف " متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم:" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".

وبالانتهاء من الجواب عن هذه المسألة ينتهي العمل بهذا الكتاب .. وكان ذلك بتاريخ 10/2/1431 هـ، الموافق 25/1/2010 م، فلله الحمد والمنة والفضل على توفيقه وإعانته لي على إتمامه وإنجازه .. راجياً منه تعالى أن يجعل من عملي هذا مفاتيح خير للناس، مغاليق شر .. وأن يتقبله مني .. إنه تعالى سميع قريب مجيب.

وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

              

[1] أخرجه الدارمي، السلسلة الصحيحة: 394. قلت: والحديث المتداول على ألسنة الناس:" أبغض الحلال إلى الله الطلاق " هو حديث مرسل ضعيف، كما أشار إلى ذلك الشيخ ناصر، والشيخ أحمد شاكر، وغيرهما من المحققين.

[2] أخرجه الحاكم وغيره، صحيح الجامع: 3075.

[3] أخرجه الطبراني، السلسلة الصحيحة: 2871. قولُه " وما يعلُقُ يَداها الخيطَ "؛ قال في النهاية:" كناية عن صغر سنّها وفقرها "ا- هـ. قلت: ولا يُستبعد أن يكون كناية عن قلة الصداق والمهر الذي يعطيه الرجل منهم للمرأة.

[4]  رواه ابن ماجه،  صحيح الجامع: 1836.

[5] صحيح سنن أبي داود: 3701.

[6] رواه أحمد وغيره، صحيح الجامع: 7525.

[7] قلت: لو اقتصرت أدلة المسألة على القياس، لكان القول بوقوع طلاق السكران هو الأرجح، أما وأن في المسألة آثاراً سلفية عن بعض الكبار من الصحابة كعثمان بن عفان، وابن عباس رضي الله عنهما، وغيرهما من كبار التابعين .. لزم الجنوح إلى القول بما أفادت به أقوالهم .. وهذا من لوازم العمل بما يقتضيه المنهج السلفي السني من اتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، وتقديم لقول وفهم الأوائل من الصحابة والسلف الصالح على مَن بعدهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:" سترون من بعدي اختلافاً شديداً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضوا عليها بالنواجذ ". صحيح سنن ابن ماجه:41.

[8] قال ابن كثير في إرشاد الفقيه 2/191: إسناده صحيح.

[9] رواه أبو داود وغيره، صحيح الجامع: 3027.

[10]  قال ابن حجر في الفتح 9/265: وقوله " فمه "؛ أصله فما؛ وهو استفهام فيه اكتفاء؛ أي ما يكون إن لم تُحتَسَب، ويُحتمَل أن تكون الهاء أصلية وهي كلمة تُقال للزجر؛ أي كفَّ عن هذا الكلام فإنه لا بد من وقوع الطلاق بذلك. قال ابن عبد البَر: قول ابن عمر " فمَه "؛ معناه فأي شيء يكون إذا لم يُعتد بها، إنكاراً لقول السائل: أيعتد بها ". وقوله :" أرأيت إن عجز واستحمَق " أي عجز عن فرض فلم يقمه، أو استحمق فلم يأت به أيكون ذلك عذراً له؟! وقال الخطابي: في الكلام حذف؛ أي أرأيت إن عجزَ واستحمَق أيُسقِط عنه الطلاق حمقه أو يُبطله عجزه؟ وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه. وقال المهلَّب: معنى " إن عجزَ واستحمَق "؛ يعني عجز عن المراجعة التي أمر بها عن إيقاع الطلاق أو فقد عقله فلم تمكن منه الرجعة أتبقى المرأة معلقة لا ذات بعل ولا مطلقة؟! وقد نهى الله عن ذلك، فلا بد أن تُحتَسَب بتلك التطليقة التي أو قعها على غير وجهها، كما أنه لو عجَزَ عن فرض آخر لله فلم يُقمه واستحمق فلم يأت به ما كان يُعذَر بذلك، ويسقط عنه ا- هـ.

[11] قال ابن حجر في الفتح 9/265: قال النووي: شذ بعض أهل الظاهر ـ يعني بذلك ابن حزم ـ فقال إذا طلق الحائض لم يقع الطلاق لأنه غير مأذون فيه فأشبه طلاق الأجنبية، وحكاه الخطابي عن الخوارج والروافض، وقال ابن عبد البر: لا يُخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال يعني الآن ا- هـ.

   قلت: كلام ابن عبد البر محمول على زمانه .. وفي إطلاقه وحصره نظر .. وممن انتصر لهذا القول ـ فيما بعد ـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم .. وهما هما .. وقد تابعهما على قولهما محمد صديق خان صاحب الروضة الندية .. ومن المعاصرين سيد سابق في كتابه فقه السنة .. والشيخ محمد ناصر الدين الألباني .. لكن لا قول لأحدٍ ـ مهما علا كعبه ـ إذا جاء قوله مخالفاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم .. وكنت أنا ممن يقولون بهذا القول ويفتون به ـ على اعتبار ما ظهر لي في حينها من الدليل، وأن لي سلف معتبر من أهل العلم ممن ذكرت أسماءهم، وغيرهم ـ  لكن بعد مراجعة المسألة، والوقوف على أدلتها على وجه التفصيل بان لي أن الراجح من الأدلة بخلاف ما كنا نقول به .. وها أنذا أعلن هنا عن تراجعي عن قولي القديم في المسألة .. لأقول بالقول الذي انتهيت إليه في هذا الكتاب، والذي أعتقد أنه هو الحق والصواب الموافق لحكم النبي صلى الله عليه وسلم وسنته .. سائلاً الله تعالى العفو والمغفرة .. إنه تعالى بَرٌّ رحيمٌ غفور كريم.

[12] في ذلك عبرة وعِظة لكثير من الناس في زماننا الذين يتهاونون بالنطق بالطلاق .. وبالطلاق بالثلاثة لأتفه الأمور .. فترى أحدهم إذا دعا صاحبه إلى مطعم أو بيت أو طعام يقول له:" عليَّ الطلاق بالثلاثة " لتأتين معي .. أو لتفعلن كذا وكذا .. ولربما يرددها في اليوم الواحد عشرات المرات .. ثم ما أكثر هؤلاء الذين لا يستجيبون لدعوتهم أو طلبهم .. وهؤلاء من جهة يلعبون ويستخفون بدين الله .. ومن جهة أخرى يعيشون مع نسائهم بالحرام!

[13] قال أحمد شاكر في التخريج 4/123: إسناده صحيح.

[14]  صحيح سنن ابن ماجه: 1666. 

[15] صحيح سنن ابن ماجه: 1534.

[16] صحيح سنن النسائي: 3186.

[17] صحيح سنن أبي داود: 2003.

[18] صحيح سنن النسائي: 3188.

[19]  صحيح سنن أبي داود: 1915.

[20]  صحيح سنن أبي داود: 1915.

[21]  صحيح سنن الترمذي: 909.

[22] صحيح سنن ابن ماجه: 1673.

[23] صحيح سنن النسائي: 3272.

[24]  صحيح سنن النسائي: 3273.

[25] صحيح سنن الترمذي: 947.

[26] رواه الطبراني، صحيح الجامع: 1938.

[27] رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، صحيح الجامع: 2706.

[28] صحيح سنن ابن ماجه: 1573.

[29] المحاقلة: بيع زرع في أرضه، لا يُعلم ثمره ولا عطاؤه بمال أو طعام معلوم. والمخاضرة: بيع الثمر الأخضر قبل نضجه وصلاحيته للاستهلاك، لاحتمال فساده قبل نضجه وصلاحيته للاستهلاك. والمزابنة: بيع ثمر النخل على شجره بأوساقٍ من التمر. 

[30] رواه الطبراني وغيره، صحيح الجامع: 6408.

[31] رواه أبو داود وغيره، صحيح الجامع: 6728.

[32] قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/92: رواه البزار، وأبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح.

[33] صحيح سنن الترمذي: 1584.

[34] صحيح سنن الترمذي: 1656. قال ابن الأثير في النهاية:" الزور؛ الكذب، والباطل، والتهمة "ا- هـ. فالذي يتظاهر بما ليس فيه ولا عنده، كمن يلبس ثوبين ليسا له .. ثم هو يتشبع ويتظاهر كذباً وزوراً بأنهما له .. وهذا مثال يُقال في كل من يتظاهر للناس بالصلاح، أو التقوى، أو الزهد، أو العلم، أو الغِنى .. وهو في الحقيقة غير ذلك!

[35] رواه ابن حبان في صحيحه، صحيح الترغيب والترهيب: 968.

[36] قال محققا الكتاب شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط: أخرجه مالك، وعبد الرزاق في المصنف، والبيهقي، ورجاله ثقات، وإسناده صحيح في نظر الإمام أحمد.

[37] قال محققا الكتاب شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط: أخرجه عبد الرزاق في المصنف، ورجاله ثقات.

[38]  أُشير إلى حق المرأة في هذا الجانب دون الرجل .. لأن الرجل لا يحتاج إلى أن يشترط؛ فالطلاق بيده من دون المرأة .. فله أن يُطلق وينهي العلاقة الزوجية إن شاء بشرط ومن دون شرط .. بينما المرأة إذا لم تشترط لنفسها ودينها .. فهي لا تستطيع أن تنهي أو تفسخ عقد الزواج إذا ما اقترف الرجل ما يُفسِد عليها متعتها وحياتها الزوجية .. باستثناء المخالعة .. والمخالعة كما تقدم لها شروطها وقيودها .. وضرائبها .. فلا يُمكن للمرأة أن تلتجئ إليها لأي غرض من الأغراض الوارد ذكرها في الشروط أعلاه.

[39] لها أن تشترط عليه أن لا يتزوَّج عليها .. لكن ليس لها أن تشترط عليه أن لا يعدد؛ لأنه شرط باطل مخالف للكتاب والسنة .. فإن قيل: فما الفرق بين الشرطين؟ أقول: شرطها بأن لا يتزوج عليها .. يجعل خيار فسخ الزواج بيدها لو عدد أو تزوج عليها .. لكن لا يمنعه من المضي في التعدد لو شاء .. بينما اشتراطها عليه بأن لا يعدد مطلقاً .. فهذا شرط يمنعه من التعدد وهي في ذمته، وهي خارجة عن ذمته .. كما يمنعه  من طلاقها أو فراقها بسبب التعدد .. وهذا لا يجوز.  

[40] أخرجه أبو داود وغيره، السلسلة الصحيحة: 2915.

[41] أخرجه أبو داود والحاكم، صحيح الجامع: 6714.

[42] أخرجه الحاكم، صحيح الجامع: 6716.

[43] أخرجه الطبراني، صحيح الجامع: 6715.

[44] صحيح سنن الترمذي: 1089.

[45] صحيح سنن النسائي: 3133.

[46] قال ابن حجر في الفتح 9/330: سنده صحيح.

[47] لا أرى مجرد الفقر ولا الفاقة ـ مهما اشتدت على الرجل في مرحلة من من مراحل حياته  ـ مبرراً للمرأة في أن تطلب الطلاق أو التفريق وفسخ العقد .. بل الواجب عليها في هذه الحالة أن تصبر .. وأن تكون عوناً لزوجها على مصابه .. وتجاوز محنته ..  إذ أن كثيراً من الصحابة قد عُرف عنهم أنهم قد وقعوا ـ في مرحلة من مراحل حياتهم ـ في فقر شديد، واشتدت عليهم الحاجة .. ومع ذلك لم يُعرَف عن نسائهم رضي الله عنهن أنهن طلبوا الطلاق أو التفريق بسبب الفقر أو الحاجة .. فالمؤمنة تضع نصب عينيها دائماً قوله تعالى:) سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (الطلاق:7. وقوله تعالى:) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (الطلاق:2-3.

[48] صحيح سنن الترمذي: 1584.

[49] صحيح سنن الترمذي: 903.

[50] صحيح سنن أبي داود: 1890.

[51] صحيح سنن أبي داود: 1889.

[52] قال ابن حجر في الفتح 9/331: إسناده صحيح.

[53] قال الشيخ ناصر في الإرواء 6/341: مرسل صحيح الإسناد.

[54] مهمة الحضانة مهمة أنوثية أكثر مما هي مهمة ذكورية، والنساء يصلحن لها أكثر من الرجال .. وهذا المعنى قد راعته الشريعة عند التقرير لمن له حق الحضانة.

[55] صحيح سنن أبي داود: 1991.

[56] رواه أحمد، والترمذي، والحاكم، صحيح الجامع الصغير: 6412.

[57] صحيح سنن أبي داود: 1993.

[58] صحيح سنن أبي داود: 1995.

[59] صحيح سنن الترمذي: 2895.

[60] صحيح سنن الترمذي: 2896.

[61] صحيح سنن النسائي: 3271.

[62] صحيح سنن النسائي: 3270. قدَّر أهل العلم سن التمييز الذي فيه يُخير الطفل بسبع أو ثمان سنوات، إذا كان يعي ما يعيه أقرانه من الأطفال في هذا السن، وهذا المستفاد من قوله " لم يبلغ الحلم "، وقولها:" وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عِنَبَة "؛ أي قد بلغ مبلغاً قادراً معه على إسدال خدمة لنفسه وللآخرين. وذكر صاحب الروضة: أن علياً رضي الله عنه خير صبياً كان ابن سبع سنين أو ثمان سنين بين الأم والعم، وفي المصنف لعبد الرزاق:" أنه اختُصِم إلى عمر في صبي، فقال: هو مع أمه حتى يُعرب عنه لسانه فيختار "، والله تعالى أعلم.

[63] انتقال الحضانة إلى الأب؛ يعني في الغالب انتقالها إلى امرأة الأب ـ إن لم تكن إلى خادمة مستأجرة ـ وامرأة الأب لا يمكن أن تكون مخلصة لأبناء زوجها كالأم أو الخالة أو الجدة؛ أم الأم .. وما أكثر القصص التي نسمعها ونشاهدها عن تعذيب واضطهاد وظلم المرأة لأبناء زوجها من امرأة ثانية .. من قبيل الغيرة والحسد .. وهي أكثر ـ بأضعاف مضاعفة ـ من القصص التي تحكي ظلم الرجل لأبناء امرأته من زوجٍ ثانٍ!

   قال ابن حزم في المحلى 10/146: لا فرق في النظر والحياطة بين الربيب زوج الأم، والربيبة زوجة الأب، بل في الأغلب الربيب أشفق، وأقل ضرراً من الربيبة، وإنما يُراعى في كل ذلك الدين، ثم صلاح الدنيا فقط ا- هـ.

[64] نقلاً عن كتاب فقه السنة: 3/103-104.

[65] رواه أحمد، وأبو داود، والحاكم، صحيح الجامع: 273.

[66] صحيح سنن أبي داود: 1969.

[67] صحيح سنن النسائي: 3250.

[68] انظر صحيح سنن أبي داود: 1974 و 1975. 

[69] فإن قيل: إن لم تكن متزوجة ثم قامت عليها البينة القاطعة بأربعة شهود عدول أو إقرار .. فما حكمها؟ أقول: حكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مائة جلدة وحسب، كما قال تعالى:) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ (النور: 2. أما من يجعل عقوبتها القتل باسم الحمية والغيرة، والثأر للشرف .. فقد ظلم .. وأجرَم .. وحكم بغير ما أنزل الله .. ثم بعد ذلك يُقال: مآل الحدود إلى السلطان .. وليس إلى آحاد الناس كائن من كان!

    ومن المتناقضات التي تُذكَر في هذا الشأن: أن الملأ المتنفذين من الساسة والإعلاميين، وتجار الجنس والأعراض وأصحاب القنوات الفضائية الخبيثة من بني جلدتنا .. تراهم ـ لأغراض وغايات شتى ـ يروجون للرذيلة بكل الوسائل .. ويزينونها .. وينفقون في سبيلها الأموال الطائلة .. ويؤزون الناس إليها أزَّاً .. ويمهدون لها .. ويمدون لها مدّا .. ثم إن وقع أحدٌ من الشباب أو الشابات في شباكهم .. قام المجتمع بمعاقبته وتجريمه .. والمبالغة في عقوبته، وبخاصة إن كان المخطئ أنثى .. بينما تجار الجنس والدعارة والفساد ـ ومن وراءهم من الساسة المتنفذين ـ المجرمون الحقيقيون .. الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا .. ينجون من المعقابة ومن المساءلة .. وهم كانوا أولى بها من غيرهم!

[70] صحيح سنن النسائي: 3032.

[71] صحيح سنن ابن ماجه: 1623.

[72] رواه أحمد، ومسلم، وغيرهما، صحيح الجامع: 1901.

[73] صحيح سنن النسائي: 3020.

[74] رواه  ابن خزيمة في صحيحه: 1998. قال الشيخ ناصر في التخريج: إسناده صحيح.

[75]  صحيح سنن أبي داود: 1805.

[76]  ويمكن أن يُقال كذلك: أن المرأة كلما قلت حاجتها ـ لسبب أو لآخر ـ إلى المعاشرة الزوجية .. وكانت قادرة على الصبر مدة أطول .. كلما تعين عليها أن تصبر أكثر ولمدة أطول في انتظار أوبة زوجها .. وبخاصة إن كان سفره أو غيابه لتجارة ضرورية أو جهاد ونحو ذلك .. وكلما اشتدت حاجتها إلى المعاشرة الزوجية .. وخشيت على نفسها الفتنة .. وحصول الضرر .. وضعف رجاؤها بأوبة زوجها .. كلما كان لها الحق في أن تطلب الطلاق أو فسخ عقد النكاح بوقت مبكرٍ .. لكن ليس لها ذلك قبل مضي أربعة أشهرٍ كما تقدم أعلاه .. لأن العلة في هذه المسألة هو بالنظر إلى مدى الضرر الذي يتحقق للمرأة من جراء تلك الغيبة، طالت أم قصرت، والله تعالى أعلم.

[77] تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: 1612. قال ابن حجر: ورواه ابن وهب عن مالك، عن عبد الله بن دينار، فأرسله، وجزم بستة أشهرٍ ا- هـ.

[78] رغم أن مجتمعاتنا تغص ـ إلى درجة الاختناق ـ بالزنادقة والملحدين وبشتَّامي الرب، والدين، والرسول ..  ومع ذلك لا نعرف ولم نسمع عن حالة تفريق بين زوجين بسبب الردة والزندقة .. ثم هم بعد ذلك يزعمون زوراً وكذباً بأن محاكمهم تحكم بالشريعة في مجال الأحوال الشخصية .. ) إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (الكهف:5.

[79] صحيح سنن أبي داود: 1990.

[80] صحيح سنن أبي داود: 1982.

[81] صحيح سنن النسائي: 3846.

[82] روا الطبراني، صحيح الجامع: 3507.

[83] رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

[84] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

[85] صحيح سنن ابن ماجه: 1699.