الزمن الثالث
قراءة في كتاب
"الزمن الثالث"
للكاتبة الصحفية الأستاذة نوال السباعي
بوعزى عسام
يتناول الكتاب الذي نقدمه للقراء موضوع العلاقات الملتهبة بين العالم العربي والإسلامي والغرب. وضع أصبح بمثابة قضية وجود بالنسبة للمسلمين داخل العالم العربي والإسلامي كما بالنسبة لأولئك المقيمين في ديار الغرب. وينتظم الكتاب الذي بين أيدينا في أربعة عشر فصلا وخاتمة، غير أن هذا الأمر يحتاج إلى تدقيق على مستوى الشكل والمضمون. من ناحية الشكل، فإن الفصل الأول بمثابة مقدمة عامة للكتاب، أو بمثابة مدخل لآراء الكاتبة وتحليلاتها، والتي ستأتي عليها تفصيلا في الخاتمة. وتبعا لذلك، فيمكن القول أن االفصل الأول، التي نعتبر أنها مقدمة للكتاب، والخاتمة جامعة لأفكار الكاتبة وآرائها. أما باقي الفصول الثلاثة عشر فهي تمظهرات لهذه الأفكار وتدليل عليها. أما فيما يخص العنوان، فإن الكاتبة تعرفه كما يلي:"أول تداعيات الغزو على العراق هو ماشهدناه من بداية الانهيار العام للنظام العربي في إطار النظام العالمي الذي بقي قائما في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية". فنقطة البداية الفعلية لهذا "الزمن الثالث" هي غزو العراق، رغم أن إرهاصاتها الأولى تعود إلى زمن بعيد، في غفلة من الشعوب العربية وتواطؤ من حكامها.
ولكم في فلسطين عبرة
يبدأ الكتاب باستعراض الموضوع الأساسي في الفصل الثاني، الذي يحمل عنوان "من جنين إلى البصرة"، الذي هو غزو العراق. هذا الحدث الجلل الذي ترى فيه الكاتبة إعادة لأحداث 1948 وبداية احتلال فلسطين في جو من العجز واليأس العربي والإسلامي القاتل. فالعرب منذ استقلالهم يبدون كأنهم يؤدون أدوارا معدة سلفا كالثور في ساحة مصارعة الثيران لتكون نهايتهم معروفة كنهايته. والسبب أن العرب " اليوم" لا يعون دروس التاريخ مما يجبرهم على اجترارها مرة أخرى.
وسط هذه الظلمة الحالكة، ترى الكاتبة أن بصيصاً من الأمل كان في الدور الذي لعبه الإعلام العربي الذي أبلى البلاء الحسن في هذه المعركة وتقول "لقد نجح الإعلام العربي في كسب هذه الجولة الاعلامية التي بلغ تفوق القوة العسكرية الغازية على أرض الواقع فيها حداً لا يكاد يوصف، دون أن ننسى الهزيمة الإنسانية البالغة التي كان "العرب" في تلك الايام يستعدون للاضطلاع بها ". فقد وجد الصحفيون أنفسهم فجأة في "الخط الأول للقتال" كما يشير عنوان الفصل. وهذا أمر تراه الكاتبة في غاية الأهمية، ف"إن تلك المعركة التي كانت تجري على مشارف بغداد والموصل والبصرة في مطلع عام 2003 ، لم تكن في حقيقة الأمر سوى مجموعة من معارك ذات وجوه كثيرة ...اقتصادية وسياسية وإعلامية وتاريخية وإنسانية قبل أن تكون عسكرية." ففي البعد الإعلامي بالذات، قام الصحفيون العرب الذين شاركوا في تغطية الأحداث بعمل رائد جعلهم مرجعا للقنوات الغربية نفسها. غير أن هذا التفوق الذي جعل العرب يتقدمون في شيء على الغرب الكاسح المهاجم المتفوق، لا يجب أن ينسينا أننا خسرنا جولة أخرى- تستدرك الكاتبة، غير أن الحرب سجال.
ويبدو أن أكثر ما آلم الكاتبة في غزو العراق هو قصر وهوان مقاومة النظام العراقي في مواجهة الغزو. فالنظام العراقي الذي أبدى رباطة جأش مدهشة وأدار معركة إعلامية لامعة قبيل الغزو على يد محمد سعيد الصحاف، انهار كقصر من رمال مقارنة بما كان منتظراً منه. وتنحو الكاتبة في تفسير هذا الأمر في نظام منخور من الداخل فقد كل مصداقيته بسبب الفساد والاستبداد وقهر الشعب وتقول:" لقد استخف "الصدادمة" بعرب القضية، فمضوا في طغيانهم الفاسد المفسد يعمهون، يدّكون بنيان الإنسان ويجتثونه من أصوله وجذوره ويفْتكون بحاضر الأمة ويدمرون وجودها ويغتالون مستقبلها ويكدسون الأسلحة في ثكنات مخابراتهم السرية.. وكل ذلك باسم القضية.. فماذا فعلوا للقضية؟"
فمأساة الشعوب العربية تتمثل في ثلاثية متراكبة" الثلاثية سيئة الذكر والسمعة ..الحاكم العربي ، الغرب المستعمر وقاعدته المستوطنة في بلاد العرب : "الكيان الاسرائيلي" ، والانسان العربي بتربيته وقناعاته ونظرته الى الحياة والموت ، ثلاثية ممتازة لصنع واقع عاجز متفسخ". غير أن هذا التقسيم للفاعلين لا يعفي المواطن العربي من مسؤوليته فيما آلت إليه الأمور، تتابع الكاتبة "ثلاثية عجيبة تجعلنا نجد ومباشرة الجواب الكافي على تساؤلنا في خضم جحيمها عن المواطن العربي: أين كان؟ وماذا فعل؟ ولماذا استسلم لقدره هذا ولم يدفعه بقدر آخر يصنعه هو ويشارك في كتابة تاريخه؟!". وتختم الكاتبة في حصاد ما سبق: "لصنع تاريخ غير شرعي تم محيُه واستئصالُه في أسبوع واحد ، لأن هذا شأن كل تاريخ يُصنَع ليُخلِد فرداً لا ليبني أمة!.!؟"
ويتناول الفصل الخامس الذي يحمل عنوان "من نصدق؟" قضية الأكاذيب التي تم افتراؤها ذريعة لغزو العراق. أباطيل تمت حياكتها داخل دواليب السياسة والترويج لها من خلال أبواق وسائل الإعلام الغربية في أضخم عملية تجميلية شهدتها البشرية. وكل ذلك يجري في ظل صمت وجمود قاس للشارع العربي، دون بصيص من أمل سوى بعض القنوات العربية التي أبلت البلاء الحسن، وتضيف الكاتبة أنه "في هذا الزمن الثالث العجيب الذي أصبحت فيه الفضاآت الاعلامية العربية البديل الوحيد للشارع العربي الصامت صمت القبور المسكونة بالأشباح التي تكثر التهاويل ولاخير يُرجى منها ، بما تعنيه كلمة "الشارع" في مصطلحات السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والأدب من حركات ومناهج وهياكل وقنوات وقيادات ورجال يحركون ويقودون ويهزون ويغيرون ويقوموا بأي فعل ينم عن الحياة." ورغم ذلك، فإن هذا التجميل الدلالي لا يمكن أن يخفي ويلات الغزو" لأن الحرب هي الحرب ليس لها اسم آخر ، ولأن الغزو هو الغزو لاضرورة لاختراع مشجب نعلق عليه فيه ضمائرنا ، ولأن الاستعمار هو الاستعمار لامرادف له وعبر التاريخ إلا التدمير والاستعلاء والنهب وسرقة الثروات والأمن والحاضر والحياة".
من منطلق الربط بين غزو العراق وقضية القضايا العربية التي تتمثل في القضية الفلسطينية، تفرد الكاتبة فصلين لها بالإضافة إلى إشارات متفرقة في فصول أخرى. ففي الفصل الثامن، تحت عنوان "هذه الثلة" استعارت الكاتبة تعبير الرئيس الأمريكي حول قمة العقبة لسنة 2003، وعلقت عليها بهذا الشكل" (قمة العقبة 2003) التي دخلت التاريخ على أنها القمة التي تُوجت فيها الجهود الصهيوأمريكية العالمية للتخلص من الانتفاضة الفلسطينية والصحوة العربية الاسلامية معاً". ففي هذه القمة، تم التأكيد على ضرورة محاربة الإرهاب دون كلمة واحدة حول الكيان الإسرائيلي و مذابحه اليومية في حق الشعب الفلسطيني. كما أن هذه القمة وضعت على الطاولة ثنائية غريبة "كأن "الكيان الاسرائيلي" مع "النظام العربي الرسمي" على اختلاف مشاربه ليسا مسؤولين كلاهما عن هذا التصحر الانساني وهذا القحط في الحرية وهذا الجوع إلى الكرامة داخل فلسطين وخارجها ، وعن هذا اليأس المستفحل كالسلّ في النفوس داخل الأرض المحتلة وفي أنحاء الوطن المُستَبَدّ به!." وبخصوص تعبير الرئيس الأمريكي للمعارضين لتوجهاته، تجيب الكاتبة: أنني كنت وماأزال وسأبقى مع هذه "الثلة" أهب حياتي ككل عربي شريف لها ، نتمنى أن نموت معها حتى لو سمّى العالم كله ذلك انتحارا ، لأن موتاً شريفا يعرف أن يقول لهذا العالم المجنون "لا" ، خيرٌ ألف مرة من حياة مع القطيع وتركيع وتأميع وتطبيع".
أما بخصوص الوضع الحالي، فتقول الكاتبة في فصل تحت عنوان "فلسطين مقبرة لخطط السلام" لقد كان الصهاينة يصنعون حقائق الموت والاستئصال في أرض العرب المقدسة، في الوقت الذي جعل فيه هؤلاء من السلام عنوانا لمسرحياتهم الفاشلة في القمم الدولية الاستعراضية التي أتى فيها "العرب" هذه المرة مصفقين خانعين مستسلمين لمن فرغ لتوه من احتلال عراقهم وتدميره". أما في الفصل العاشر، فيشير الكتاب على أن التضامن الشعبي ما زال قائما وأنه" على الرغم من المحاولات المستميتة لسلخ القضية عن جلدها الاسلامي من قِبل دعاة القومية والاقليمية والشرق الأوسطية ، بل لقد تمخضت المعركة عن تحالف شديد الفعالية فكرياً وجماهيرياً ووجودياً بين القوميين والاسلاميين ، الذين تنبهوا وبعد قرن من الصراع المستميت بينهما الى ضرورة جمع الجهود في مواجهة مشروع يتهدد وجود الأمة الحضاري وعقيدتها." والدليل على ذلك هو الانتفاضة واستمرار المقاومة بكل الأشكال. وتعود الكاتبة إلى التاريخ لتقول أنه "ولعل اسرائيل ومعها ومن ورائها ومن أمامها الولايات المتحدة الأمريكية ، لم تكن قط بحاجة الى درس في التاريخ كما هو عليه الحال اليوم ، ليَعُد أصحاب التوراة والانجيل الى توراتهم وأناجيلهم ليقرؤا بعين فاحصة كل استعراضات القوة التي استخدمت ضد بني اسرائيل أنفسهم ، والتي لم تستطع القضاء عليهم ولااجتثاثهم من التاريخ." أم عن الصرعة الجديدة التي تتهم المقاومة بأنها جماعات "إرهابية" لمنع أي نوع من التعاطف أو الدعم، فإن ذلك يبدو هزليا في وقت يستلهم فيه صناع السينما في هوليود حكايات الثوار مثل روبن هود أو أفلام ميل غيبسون.
نحن والغرب، الآن هنا
تفرد الكاتبة مجموعة من الفصول لمناقشة الوضع الحالي للعلاقة بين الغرب والعالم العربي والإسلامي. هذه العلاقة التي اتخذت منحى جديدا بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001. غير أن مقاربة الكتاب تعود بنا إلى جذورها التاريخية كما في الفصل السادس الذي يحمل عنوان "هذه الحرب بدأت سنة 1912"، وبالضبط إلى اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة و انعكاساتها على المنطقة إلى اليوم. وذلك لأن "السياسة الانجليزية ما زالت كما هي، لم تتغير ولم تتبدل في بلادنا ، كل الذي تبدل هو ما تسميه هذه السياسة "المبررات والأساليب اللازمة والمناسبة للعصر". غير أنه من الواضح أن العرب ما يزالون دون مستوى الأحداث برأي الكاتبة التي تضيف " إننا عاجزون حتى عن الاستشهاد بتفاصيل تاريخنا على ألسنة المُنصفين من الغربيين الذين هزتهم الحرب على العراق، ليس دفاعاً عن "صدام" الهالك الذي خدم السياسات البريطانية ثم الاميركية في بلادنا الي حدّ الثمالة والقضاء في سبيلها، ولكن دفاعاً عن كرامة أمة أضحت بلا كرامة، يُنتهك عرضها ولاتستطيع أن تستر فضيحتها ، ويخرج العالم كله لنصرتها وهي ساهية لاهية لا تريد أن تعلم".
أما في الفصل السابع والعاشر وما بعده، فتتطرق الكاتبة إلى الوضع الحالي وبروز "الحرب على الإرهاب" على رأس الأجندة السياسية العالمية مع ما يثيره تعريف هذه الكلمة نفسها من جدل. يعود الكتاب إلى التذكير إلى أن السياسة الأمريكو-صهيونية، على حد تعبير الكاتبة، تمثل مصدر إهانة للأمة كلها فقد اتسعت " رقعة الظلم والاهانة العربية لم تعد مقتصرة على المنطقة العربية ، امتدت بالطول والعرض والارتفاع ، "دار الحرب " امتدت مساحتها إلى كل أنحاء العالم ، بالضبط كما امتدت "دار الإسلام" !" . وتضيف الكاتبة في نفس الفصل أن توسع رقعة التواجد الإسلامي في الغرب تصطدم اليوم بما يسمى ب"الحرب على الإرهاب" التي أضرت كثيرا بصورة المسلمين في العالم الإسلامي أو أولئك المقيمين في ربوع الأرض، وفي الغرب خاصة. فبالنسبة لهؤلاء، كانت الهجرة مخرجا من القمع السياسي والإقصاء الاجتماعي إلى آفاق أرحب للحرية والديمقراطية. غير أنهم يتواجدون اليوم في قلب الإعصار من جراء هذه المواجهة بعد التورط المفترض للعديد من بين صفوة أبنائهم في التفجيرات الانتحارية.
وتضيف أن" الشيء الواضح للعيان أن تلك الهجمات غيّرت مسار الأحداث في العالم ، وحملت أو فسحت المجال - حسب الزاوية التي ننظر منها- للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانية العظمى على دخول حرب مباشرة في أرض عربية مسلمة كان شبابها يتشوقون الى لقاء ذلك العدو وجها لوجه ، بنفس الدرجة التي كانوا يتشوقون فيها الى الهجرة الى تلك البلاد غير البعيدة التي تطنطن بالديمقراطية والحرية وحقوق الانسان". وفي هذا الصدد، تؤكد أنه من الظلم إلقاء اللوم كله على شباب يواجه ظروفا معقدة ف "كلنا نريد أن نرمي "شبابنا" بالخروج والجنون والتهور والارهاب ، كلنا يمدّ يده بالحجر لرجم المذنب وكلنا ينسى أنه أكثر أهل الأرض دنساً وجرماً وعاراً. أننا أمة تشعر بالاهانة بل وبأعمق أنواع الاهانة ، سياساتٌ أوصلتنا إلى هذه الطرق المسدودة وتسببت في حالات هذا "الخروج" المجنون يأساً من أي تغيير يرجى ، وزعاماتٌ اجتماعية وسياسية ودينية عجزت خلال خمسين عاما عن تربية الانسان والجماعة ، وعن النهوض بالفرد والمجتمع ، ولم تصنع إلا أن وسّعت الهوة بين المظلوم والظالم." ومما عمق هذه الأزمة سياسة الكيل بالمكيالين الغربية، فهي تدعو للديمقراطية حين يخدم ذلك مصالحها وتتغاضى عن هذا الأمر في الحالة المعاكسة. كمثال على ذلك، تورد الكاتبة الحالة الإسبانية و الأجواء السائدة في الفضاء الإعلامي بعد وصول الحزب الشعبي إلى الحكم، ف"القنوات الفضائية السّتّ الرئيسية التي هيمن عليها عن طريق شراء معظمها أو معظم العاملين فيها حزب الشعب منذ استلامه حكم البلاد للمرة الثانية عام 99 بأغلبية عظمى ، مشغولة ليلا ونهارا في برامج الجنس ونشر الدعارة والاهتمام وفقط بأخبار الساقطين والساقطات من نجوم المجتمع القذر الذي يسمى ب"المخملي" ، ولم نكن لنجد في هذه القنوات مجتمعة برنامجا حواريا سياسيا أو ثقافيا أو تربويا ، حتى نسي الناس أسماء المثقفين والكتاب والشعراء الاسبان الذين ازدهر وجودهم وانتاجهم خلال ثلاثة عشر عاما من حكم الاشتراكيين الاسبان الى درجة صارت فيها الثقافة في ذلك العهد هماً وطنياً وقوميا".
وهو ما انعكس على تغطية العديد من المواضيع كالإخلال بالضمانات القانونية بالنسبة للعديد من المعتقلين من أصول عربية ومسلمة، وكذا حادثة تحطم طائرة ياك 42 ووفاة العشرات من الجنود الإسبان. وتلاحظ الكاتبة المتابعة للوضع الإعلامي في إسبانيا أنه "فيما يخص الموضوع العربي والاسلامي بالذات ، كان ضرباّ من المستحيل أن يُبث خبر واحد طبيعي متعلق بالعرب والمسلمين في أجهزة التلفزة - التي سيطر عليها الحزب الحاكم عن طريق شرائها، و_دون أي نوع من أنواع المبالغة_ شراء ضمائر الآلاف من الصحفيين والكتاب المحاورين من مفكرين ومنظرين من أهل السياسة والفكر والثقافة في البلاد ، وفي جميع البرامج الاخبارية". وتختم أن الديمقراطية كشرت عن أنيابها في زمن كل شيء فبه يباع ويشترى ووجهت فوهات مدافعها للسكان من أصول عربية وإسلامية للنيل من صورتها وتشكيك المجتمع في قناعاتها ورغبتها في التعايش. وفي هذا الصدد يتطرق الكتاب في الفصل الثاني عشر لتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر التي يفترض أن جماعة جهادية قامت بها. فردة الفعل كانت نكوصا ديمقراطيا دون أدنى شك لأن " الحرب على الارهاب في أرض الديمقراطيات والحريات وحقوق الانسان ، كان ينبغي أن تبدأ بالتحقيق النزيه المنصف في أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي يعتقد أكثر من ثلاثة أرباع المعمورة أنها عمليات سكتت عنها إن لم تكن قد ساعدت في التخطيط غير المباشر لها المخابرات الأمريكية المركزية نفسها". هذه التفجيرات هي نفسها التي شكلت ذريعة للولايات المتحدة لغزو العراق وإغراقه في فوضى أتت على الأخضر واليابس. ومن سذاجة الولايات المتحدة أنها كانت تنتظر أن يستقبلها العراقيون استقبال الفاتحين، و لم تعلم أن التاريخ لم يسجل قط أن قوة غازية دخلت أرضا وتم فرش الأرض بالورود ترحيبا بها. ويفرد الكتاب الفصلين الأخيرين لعلاقة الشعوب العربية، والشباب خصوصا، بالحضارة الأمريكية. فردا على القائلين بأن الشباب العرب فجروا أنفسهم من جراء الكراهية التي يكنونها للولايات المتحدة، تقول إنهم لا يفقهون طبيعة هذه العلاقة. فهي علاقة فصامية بين الحب للنموذج الأمريكي الذي يتم تسويقه عبر الآلة الإعلامية الهائلة لهذا البلد. نموذج للحرية والديمقراطية والثقة في غد أفضل في ظل واقع يعيشونه قسرا فلا يرون فيه غير الجمود الاجتماعي والفكري والإنساني.
غير أنه وجب التفريق بين السياسات الرسمية والرسالة الحضارية الوافدة من وراء الأطلنطي. حكومات تدعي حمل مشعل الحضارة والحرية لكن "لا.. ولم تهتم الولايات المتحدة وحكوماتها المتعاقبة بأوضاع حقوق الانسان في بلدان المنطقة العربية إلا وفقط عندما تُمَسّ سيادتها فيها ، سيادة الولايات الأمريكية بالطبع وليس سيادة حقوق الإنسان ." سياسة الصاع بالصاعين قديمة في رأي الكاتبة، فهي تسرد أمثلة من تعذيب الإخوان المسلمين في ظروف رهيبة على يد جمال عبد الناصر، وقصف مدينة حماة من قبل رفعت الأسد وأعمال اغلب الحكام العرب. لكن هؤلاء يتمتعون باليد الطولى لأن حاميهم وضامن وجودهم هو هذا الغرب الذي يخدمون مصالحه. وهذه الحلقة المفرغة أحد أسباب الانكسار والإحباط الذي يغمر الشباب العربي والمسلم ويمكن أن يدفع به للقيام بأعمال جنونية لا يدرك عاقبتها. وتختم الكاتبة قائلة" كيف تتهم هذه الشعوب بكراهية أمريكا ، والحلم الأمريكي جزء من وجودها وحياتها وتطلعاتها ، والكعبة الأمريكية هي الوجهة الاجبارية لكل شاب عربي، نحن لانكره الولايات المتحدة كبلد ولاكشعب ولا كحضارة ولا كثقافة ولا كفنّ ولاعلم ولا تقنية ، بل انها وجهة العالم وقبلة كل متطلع الى غد أفضل ، ولكننا نكره كل ما تمثله الولايات المتحدة اليوم في عالم السياسة القذر ، وعالم العسكر المتخلف ، وعالم الفكر الصليبي الصهيوني الحاقد." وبعد مرثية لبغداد، تمر الكاتبة إلى الخاتمة، وهي نص دسم يمثل عصارة ما سبق عرضه في الكتاب.
خاتمة لهذه القراءة، يمكن القول أن الكتاب يمكن أن يتهم بسهولة بالنزعة السوداوية، غير أننا نعتقد أنه متوازن في طرحه انسجاما مع الجو المكفهر الذي يسود السماء العربية والإسلامية. غير أنني أذكر دائما في نهاية مثل هذه التحليلات التي تغري بالسوداوية بقولة أنطونيو غرامشي بأنه يجب التحلي بتشاؤم العقلانية وتفاؤل الإرادة.