بقايا رماد
بقايا رماد
عبد الله الطنطاوي
عرض: عبير الطنطاوي
صدر منذ مدة وجيزة مجموعة قصصية رائعة للأديب الحلبي السوري الكبير الأستاذ عبد الله الطنطاوي، من القطع المتوسط الطبعة الأولى من دار القلم في دمشق.
المجموعة ابتدأت بمقدمة رائعة للأستاذ الكبير شريف الراس (رحمه الله) الذي كان أحد أعز أصدقاء الكاتب الكبير عبد الله الطنطاوي الذي أثر في سلوكياته وأفكاره أيما تأثير، حيث كانت أواصر الصداقة متينة بينهما مما جعل الأستاذ شريف (رحمه الله) من أقدر الناس على وصف الأستاذ الحلبي وصفاً يقارب صفاته الحقيقية، فعلى الرغم من إسهابه في وصف أستاذنا إلا أنني أجد تقصيراً في الوصول إلى صفاته الحنونة وشمائله اللطيفة التي نادراً ما تجدها مجموعة في رجل معاصر في هذا الزمان الصعب، ولعل وصف الأستاذ الكبير لأبي أسامة (بقرص الشهد) أقرب وصف لهذا الرجل، هذا الوصف (قرص الشهد) كان دافعاً لي على تسمية ابنتي القادمة إن شاء الله بشهد فلعلها تأخذ من بعض شمائل جدها العظيم حفظه الله.
المجموعة ضمت عشر قصص أغلبها تعالج مشكلات أو تتحدث عن قضايا من واقعنا المعاصر مثل قصة (قابيل عصري) التي تحكي لنا قصة الكثير من العملاء والجبناء والوصوليين في هذا الزمن، وما ألطف جمله التي ختم بها القصة وهي: (ولكنهما لم يتمكنا من الهيمنة على نتن قابيل، وتطلعاته الطينية).
وقصة (رماد السنين) تتحدث عن عقوق ولد يتيم لأمه المكافحة وكيف أن المولى قد خطف من وجهه كل بريق وإشراق ونور، ففيها حض للولد للرجوع عن عقوقه لأن هذا العقوق سيلاحقه حتى آخر عمره، وسوف يترك أثره على وجه صاحبه مهما طال به الزمن وتغيرت الأماكن.
وقصة (البلسم) تتحدث عن فتاة عصرية ملتزمة ظلت معلمة الفلسفة في مدرستها تلاحقها بأفكارها المنحرفة حتى جعلتها تتخلى شيئاً فشيئاً عن أدبها وتربيتها الملتزمة، ولكن بفضل الله ثم بفضل صديقتيها (فاطمة وهند) عادت (وداد) لرشدها.
وقصة (برهان مات) تروي قصة مدرس من عائلة معمرة وكان شديد الحرص على صحته وقوة جسمه، ولكنه كان مهملاً دينه بحجة أن المستقبل أمامه ولابد أن يأتي اليوم الذي يتوب فيه إلى الله ولكن ليس ذلك قبل الستين، ولكنه تعرض لإهانة من قبل أحد الضباط لم يحتملهما. فتسببت في وفاته قبل أن يعود إلى ربه ورشده.
وقصة (نار يا يعقوب نار) من روائع القصص المعاصرة التي تعبر عن حال الأغنياء في بلاد عربية كثيرة، أولئك الذين يرمون بالنفيس من المأكل والمشرب والملبس في الزبالة بلا رحمة ولا شفقة ولا خوف من عقاب المولى ولا تفكير بحال الأسر الفقيرة، فهذا (يعقوب) أحد كبار الأثرياء كان لا يهتم في هذه الدنيا إلا ببطنه، وما تحت بطنه فقط، ولما أراد أن يزوج أحد أبنائه كانت الوليمة تضم مائة خروف محشي لم يأكل منها المدعوون إلا الشيء اليسير ومع ذلك أمر برميها في سيارة الزبالة لتأكلها الكلاب، لأن الأسر الفقيرة –على حد تعبيره- لا تعرف كيف تأكل هذه الأطعمة وإذا أكلتها فسوف يفسد حالها، لأنها لم تعتد على مثل هذا الطعام، ولهذا كانت الكلاب أولى به. وطرد كبير موظفيه من عمله لأنه أصر على عدم رمي الطعام في الزبالة، وفي اليوم التالي كانت النار تأكل شركته بكل ما فيها من بضائع وأموال، مما جعله يفقد عقله ويدخل مشفى الأمراض العقلية.
وقصة (دروس عملية) قصة تتحدث عن الجهاد العربي الإسلامي في فلسطين الحبيبة الأسيرة تدور حول الإمام (أبو كامل) وتلاميذه من الصبية الصغار المجاهدين ضد الاحتلال وكيف كان يتعامل مع هؤلاء الصبية وخاصة لوعة أم على ولدها الذي هو وحيد على خمس بنات، وشدة خوفها عليه حيث نلمس مشاعر الحب الوطني لهذه المرأة المجاهدة، ومشاعر الأم الرؤوم الخائفة على فلذة الكبد الغالي ولكن –في النهاية- نرى الله والوطن والجهاد هو المنتصر على كل العواطف الأخرى.
وقصة (لقيطة) قصة تتحدث عن رجل شريف مؤمن وزوجته الصالحة التي لا تأكل إلا حلالاً، ولما ضاقت الدنيا به في أحد الأيام وجد محفظة مليئة بالنقود فأخذها يفرّج بها همّه وهمّ أسرته، ولكنّ زوجته ما قبلت إلا بإرجاعها إلى المكان الذي وجدها فيه، ولما عاد إلى نفس المكان وجد رجلاً يبحث عنها وبعد حوار مع ذلك الرجل اكتشف أنه يبحث عنه ليعطيه هذه المحفظة التي هي من أخيه القاطن في السعودية وفيها عشرة آلاف ريال.
وقصة (عرفت الطريق) قصة جميلة تتحدث عن الجهاد الإسلامي في البلاد العربية، تدور أحداثها حول شاب جامعي يعاني من بعض التقصير في دينه وواجباته تجاه الله والوطن، حتى وجد الطريق إلى الله عندما قاده تفكيره إلى متابعة أخيه الصغير وصاحبه إلى المسجد، وعرف هناك طريقه مع شيخ المسجد.
وقصة (تحت الحوافر) تحكي قصة عميل كان يتجسس على شيخ كانت له يد بيضاء في تنظيم بعض الشباب للجهاد، ولكنه لما بلغ الأجهزة اليهودية عن موقع الشيخ، وعندما جاءت سيارات الموساد محاصرة بيت الشيخ كانت امرأته تصرخ حتى يأتوا ويروا زوجها العميل جثة هامدة تحت حوافر (البغل) هو واللاسلكي الذي بلغ به عن الشيخ.
وأخيراً قصة (بقايا رماد) التي جعلها الكاتب عنواناً لمجموعته وهي فعلاً قصة رائعة تستحق أن تكون اسماً للمجموعة ومسك الختام لها، حيث تروي قصة رجل مسكين قام أحد أعوان المستعمر الفرنسي بالاعتداء على زوجته عندما كان ضيفاً عنده، في منزله، وقد توفيت الزوجة الطاهرة بعد تلك الحادثة بأيام قليلة، وسجن زوجها لأنه حاول أخذ ثأره من ذلك الوغد المعتدي، وبعد سنوات روى ذلك المسكين قصته لأحد الشباب ليحثه على البحث عن ذلك (الواطي) فوجد ذلك الشاب ذلك المعتدي الحقير دافناً رأسه في جريدة مختبئاً من الناس بعد أن فضحه الله في زوجته وبنته، وبعد أن طرده (أسياده) من خدمتهم.
المجموعة كانت كلها قصصاً واقعية تعالج قضايا مجتمعنا وحياتنا الصعبة بأسلوب سهل خفيف يدخل القلب والعقل، كما يدخل مؤلفها قلب وعقل من يتعامل معه، أو يقرأ له.