وقفة مع صدور (سلالتي الريح)

وقفة مع صدور (سلالتي الريح)

ليس بياناً يُتلى في حضرة الشعر

موسى حوامدة

[email protected]

جاء موت أبي وأمي تباعاً في شهر واحد من عام ألفين وثلاثة، صدمة صاعقة، فلم أكن قد رأيتهما منذ أربع سنوات، وكنت قد عشت بعيدا عنهما منذ تخرجت من الثانوية، بل تعودت الهروب من بين يديهما قبل ذلك بسنوات، وكان لا بد أن يتسرب موتهما واضطراب العلاقة مع الوالد، لما سأكتبه من قصائد بعد موتهما، فكان أن كتبت القصيدة الأولى في المجموعة (للخديعة طعم الأبوة):

للغيومِ نَهارٌ آخرُ

للخديعةِ طعمُ الأُبوَّة

للمشانقِ

حكمةٌ تُخْفيها الرهبة.

بدأت القصيدة هكذا، لكنها اقتربت من استذكار، بل إحياء تلك العلاقة الملتبسة والمعقدة بيني وبينه،

أعود إلى نَداهُ

لحُنوِ روحِه التي لا تَبين 

لهَشَاشَةِ أنفاسِه المُعْتَذرة

لتفادي العاصفة

لاحْتِدامِ الوجاهة بالخشية.

كان موته سببا مباشرا في تغيير نظرتي للحياة، وللقضايا العامة من منظور ذاتي أولا، بعكس ما كنت أفكر سابقا، وربما حملت القصيدة نفسها شيئا من التغيير عن نمط القصائد التي كتبتها، سواء التي نشرتها في المجموعات السابقة، أو حتى في المجموعة الجديدة نفسها، ربما يكون انتهاء العلاقة الصعبة بيننا، حزني الشديد عليه، حرماني الأبدي من ظله ووجوده وطغيانه، انقطاع جذوري فجأة، وما لموته من علاقة من المأساة الفلسطينية  التي حرمتني من العيش معه منذ بلغت الثامنة عشرة، واستمرار دراستي في الأردن ثم سجني فيها، وانقطاعي عن العودة إلى مسقط الرأس وبيت الطفولة في فلسطين، وتأثير القضية على حياتنا الشخصية، ومراجعة حسابات الذات بعد موت رمز السلطة الأول، تلك السلطة التي تمردت عليها صغيرا، واحتضنتها على كبر:

آنَ يحملُنا النهرُ إلى أخطائنا الأولى،

آنَ يجمعنا النهارُ في وجبةٍ سيئة

آنَ يحرِقُنا العجزُ في أتون المنفى.

ربما كل ذلك وضع لمساته وتأثيره على النظرة للحياة وبالتالي النظرة للشعر وكيفية تناول القصيدة.

بعد أيام قليلة من بدء محاولاتي لعلاج فقده، وتعاملي الأدبي مع رحيله، حيث كنت أحاول التدرب على موته، وأفرغ الحزن والكآبة بالكتابة، وأتلذذ باستذكار العلاقة القديمة بكل الطرق، وتحت ضغط رحيله والاحساس بعدم تناول موت الوالدة بجدية كما حدث مع موته، جعلني كل ذلك أكتب عنها بعد الكتابة عنه بفترة، ولكن تحت تأثيره أيضا، وبعيدا عما يشاع لدى مثقفينا وثقافتنا عن عقدة قتل الأب، أو ارتباط الولد بأمه أكثر من أبيه.

 وللحقيقة فقد وجدت  أني كنت متأثرا بموته أكثر، ربما لأنه جاء في البدء، أو بسبب العلاقة الغريبة بيننا، أو رغبة في وأد مدرسة قتل الأب، وايجاد منهج لإحياء الأبوة لا قتلها، فكان أن دهمتني تلك الخديعة أعني القصيدة، كأنه هطول مطر غزير، بكلماتها التي لم أبدل فيها كثيرا، واحتفظت بملامحها وبكارتها دون تغيير أو تحرير، مع أنها لم تنصع لقراري تماما بتجميل الصورة، ونزعت باتجاه المراوغة، وهذا ما جعلني أتراجع عن تسمية الكتاب باسمها، مع علمي أنها قد تكون الأهم في العمل كله.

أما موت الوالدة؛ والذي جاء كأنه إعادة تمثيل لواقعة موت الأب، فقد جاء رغم الصدمة والمفاجأة أقل تأثيرا وأثرا، ولا أقول باهتا او شاحبا، بل جاء كأنه ظلٌ وأثر لذلك الفقد الأول، وكأن موتها أو تقبلي له، حلَّ شبحاً لموت زوجها، كما كانت حياتها هامشا له، وعيشتها ارتباكا لحنجرته، وسعيا لإرضائه بكل الصور:

وحين كتبت لها (أقل مما يحبذ المزمار) كانت القصيدة مرتاحة أكثر، كان هناك متسع لتسديد دين قديم أو واجب وجودي غائر في الزمن، أو محاسبة ذاتية لعملية الولادة كلها، وليست بركانا متفجراً بشكل سريع، لذلك برز فيها الكثير من الأسئلة، وشئ من القلق الوجودي، والحيرة.

منذُ أنْ تكلَّم الجبل

أصغتْ الوديانُ لغناء النهر

منذ أن تلعثَم آدم

هبطتْ بنا الأرضُ إلى قبوها.

لكني في البوح لها تجرأت بالتمرد عليه أكثر، ربما لشعوري بأني بعيد عنه، متحرر من سلطته، أهمس لها بحريتي، وبنبرة عالية، بينما أخاطبه بخشية، كأنه ما زال واقفا أمامي بكل جبروته القروي، لكني معها ولها أكثر حرية وربما أكثر جرأة حتى عليه، وأقل خوفا، وإحساسا بالطاعة، ففي قصيدتها الثانية، (يدها للنهر)، وجدتني قد قلت:

جاعلاً من وصايا الأَبِ حاجزاً للخيانة

طريقاً للخَديعةِ

عَفناً لتفاحةٍ صَدئة.

كانتا فجيعتين بلون قاتم، أخذتا من حياتي أهم كائنين على وجه الأرض، وكنت أفكر بوضع عنوان قصيدته عنوانا للمجموعة برمتها،  لكن يبدو أن الخوف من سوء الفهم بيننا، جعلني أذهب باتجاه سلالتي الريح، أو للخلاص من إرث أبوي؛ هربت باتجاه فضاء كوني أرحب، وإن كان ظله جاثما حتى في هذا الهروب، فهو سبب السلالة بالتنكيل والتأكيد.

لا أنكرُ صلتي بزيوس

ولا أقرُّ بدمه في عروقي

لا أطعنُ في صحة النهر

ولا أخبئُ البحر في خزانتي

سلالتي الريح وعنواني المطر.

وسواء كان بسبب العمر أو الحياة أو لتطور التجربة نفسها فهناك تغيران واضحان في الكتاب الجديد؛  الأول اتساع النظرة للوجود بمعنى الابتعاد عن النظرة الضيقة للوطن كمقدس، والنظر للبشر كلهم نظرة انسانية دون اسقاط حق الضحية. لكن ربما اتسعت النظرة او توسعت، لترى كل دماء البشر حمراء، ولا تلوب في زنزانة قطرية او انفرادية، بل نهضت تتفلت من سجن كبير وواسع.

اما التغيير الثاني فهو في تركيب القصائد، وبنيتها عن سابقاتها، بل لعل نفس المجموعة تحمل اختلافاً حتى في نفس القصائد فهناك اختلاف ليس عن المجاميع السابقة بل حتى بين القصائد نفسها ف(غفلة لا تنام) لا تشبه (لصحبة الريح) أو (كانا مستحلا أزرق) أو (قصائد ليست شعرية)، فكل واحدة كأنها مستقلة عن التالية، وبعيدة عنها. كما أن قصيدة (حكمة الكولونيل) عن رواية ماركيز جاءت مختلفة عن (راودت الغزالةَ عن شرودها) وهي قصيدة حب، وحتى عن قصيدة (لا ندَّعي ورعا في الموسيقى)، فرغم كونها قصيدة في العشق أيضا لكنها ودون قصدية اتسعت لتشمل جغرافيا شاسعة،  ومدنا كثيرة؛ من الخليل الى مكة إلى استانبول إلى باريس إلى سمرقند وكابول، إلى بيت لحم والصليب  والمذود، ولم تنس الصين والفاتيكان، كما جاء التاريخ فيها متداخلاً، من بني أمية إلى ملوك نجد، ومن بابا الفاتيكان إلى ملوك بني إسرائيل، تداخل التاريخ بالتاريخ والجغرافيا بالأديان، والأزمان والمشاعر، وكل شئ تجمع في آن واحد دون أن أدري.

في المجموعة بالطبع هناك إحدى القصائد التي ترجمت للفرنسية والتي نلت بسببها جائزة لابلوم الفرنسية من مهرجان تيرانوفا والجائزة الكبرى من مؤسسة اورياني الفرنسية وهي (سلالتي الريح عنواني المطر)، والتي أفصحت فيها عن نظرتي للخلق والبشر وأنهم جنس واحد مهما كان دينهم وقوميتهم ولغتهم وجنسياتهم، ربما سبقني البعض لقول هذه الفكرة من ابن عربي وبقية المتصوفين أو لدى ايليا ابو ماضي وشعراء المهجر، وغيرهم لكن دائما يأتي الجديد في كيفية الطرح واسلوب ما تطرح وطريقة تناول المسألة.

لكن وربما بسبب كوني فلسطيني الأصل، وقادم من خلفية وطنية ونضالية، فقد رآى البعض ان هذه المقولات تعد تنازلا عن الحق الفلسطيني، لكن هذه نظرة جاهلة للشعر وللأدب، فقد لا يكون الدين او الجنس او اللغة هو القاسم المشترك  بين الناس، وقد نكون جميعا من سلالة واحدة، أو خلايا رجل واحد وامرأة واحدة، لكننا نتفاوت في التعصب وسوء الفهم.

لا يعني ذلك أنني لا أقف مع المظلوم والمضطهد وأرى ان أكبر مثال يجسد الظلم هو القضية الفلسطينية، لكن بالمقابل لا أكره الأديان الاخرى ولا أكره غيري من البشر، حتى لو اختلفنا على مفاهيم او تصارعنا على جغرافيا، فلا يجب ان تكون كراهيتنا  لأسباب عقائدية، بل أجد أن الظلم واغتصاب الحقوق من أي طرف جاء يكون سببا جوهريا للصراع، ودافعا أقوى للنضال، وهذا في رأيي أفضل من تحمل إرث ديني وتاريخي على أي صعيد، وتحت أي ذريعة.

لا أريد التنظير للكتاب الجديد بهذا الشكل، لكن ربما تكون قصائد المجموعة الجديدة، قد تخلت عن الكثير من شعارات المراحل السابقة والمباشرة، وربما تكون القيم الجمالية والانسانية قد تجسدت بشكل أوضح، وهذا ما أتمناه وأسعى له.