كتابان جديدان للباحث أ.د "فاضل جابر ضاحي"
كتابان جديدان
للباحث أ.د "فاضل جابر ضاحي"
د. حسين سرمك حسن
عن دار تموز للطباعة والنشر في دمشق صدر للباحث الأستاذ الدكتور "فاضل جابر ضاحي" كتابان جديدان يتناولان موضوعين مهمّين ويحملان جدة وفرادة ، وقد قلّ أو ندر التعامل البحثي فيهما من قبل ، وهما :
-النساء القاتلات : دراسة تاريخية لدور المرأة في عمليات الإغتيال
-العزوف عن الزواج بين المؤلفين في العصور الإسلامية
عن الكتاب الأول يقول المؤلف في المقدمة (عنّت لي فكرة تأليف هذا الكتاب حينما وقع بين يدي كتاب (النساء الحاكمات في التاريخ) لمؤلفته الباحثة التركية الدكتورة "بحرية أوج أوق" ، فلما طالعته قرأت فيه إشارات عن بعض النسوة الحاكمات اللائي قمن بعمليات قتل سياسي . لكن تلك المعلومات قليلة جدا ، لذا أردت أن أبحث في موضوع أوسع عنونته بـ (النساء القاتلات : دراسة تاريخية لدور المرأة في عمليات الإغتيال) (ص 7) .
الملاحظة الأولى هي أن هذا الكتاب "رياديّ" في موضوعه لم يسبقه إليه كاتب أو باحث من قبل بصورة مؤلّف متخصّص في هذا المجال .
والملاحظة الثانية – وهي درس لكتابنا وباحثينا خصوصا من الشباب – فهي عن أهمية القراءة والقراءة المستمرة الذكية الجدلية الخلّاقة التي تثير الأفكار والمشروعات الجديدة . ولا أعلم متى يقرأ الكثير من كتابنا وشبابنا وهم يقضون صباحاتهم في العمل وأماسيهم ولياليهم في النوادي والإتحادات .
لقد جعل الباحث – كما يقول - كتابه شاملاً لكل امرأة ذكرها التاريخ بأنها قامت بعملية قتل سياسي أو غير سياسي ، سواء أكانت حاكمة أم لا ، وسوء أفعلت ذلك بشكل مباشر أم غير مباشر ، أو اتُهمت بالقتل وقد تكون بريئة ، أو تآمرت من أجل تصفية أحد الأشخاص ، أو حرّضت على ذلك بدافع معيّن ، أو سهّلت أمر القتل (ص 7) .
وما دام الموضوع فريداً ونادراً ، فمن المؤكد أن الباحث قد بذل جهداً مضنياً في الغوص في بطون المصادر التاريخية المختلفة . وهنا تثور أمامنا الكيفية الإستسهالية التي نستخدم بها مصطلح "بحث" حيث أصبحت هذه المفردة مُبتذلة في الحياة العلمية والفكرية في الجامعات خصوصا ، لأننا صرنا نطلقها على أبسط الموضوعات وأكثرها اعتماداً على تجميع المعلومات من الكتب والمصادر التي أفنى كاتبوها الباحثون الأصلاء أعمارهم في خلقها .
وحسناً فعل المؤلّف في الإشارة إلى إشكالية مستفزة قد يثيرها العنوان حين قال :
(إن الغاية من تأليف هذا الكتاب المتواضع ، ليس إبراز الوجه الآخر للمرأة ، بقدر ما هو محاولة لجمع أخبار هذه الفئة من النساء ، وتوضيح مواقفهن من عمليات القتل التي حدثت ، ومحاولة الدفاع عن بعضهن . إنّ قلة عدد من ورد ذكرهن في هذا الكتاب على أنّهن من القاتلات وندرة المعلومات حولهن يصب في صالح المرأة بشكل عام ، لأن ما ورد من أخبار عنها في مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها من المجالات هي معلومات كثيرة ومتنوّعة وأُلّفت عنها عشرات الكتب) (ص 8) .
ومن الناحية الفلسفية والنفسية لا توجد أي غرابة في كون "فئة" من النساء قاتلات ويمارسن عملية الإغتيال ، فالنفس البشرية مُركّبة من نوعين اساسيين من الغرائز : غرائز الحب والحياة ، وغرائز العدوان والموت ، بل للأخيرة الغلبة في سلوك الإنسان ، فهي تنسرب بين ثنايا الأولى وتتخفى خلف استار أغلب تمظهراتها . ولنا في أمّ الملاحم وتاج اساطير البشرية : ملحمة جلجامش الدرس الأول والاساسي .
تكوّن الكتاب (129 صفحة) من مقدّمة (عرضنا وناقشنا أفكارها الأساسية أعلاه) ، وأربعة مباحث وخاتمة . صمّم المؤلّف المباحث الأربعة وفق التسلسل التاريخي :
-النساء القاتلات قبل الإسلام (8 نساء واحدة مشكوك فيها).
-النساء القاتلات منذ ظهور الإسلام حتى نهاية العصر الأموي (9 نساء واحدة مشكوك فيها).
-النساء القاتلات في العصر العباسي (29 امرأة مع بروز دور الجواري في عمليات الإغتيال السياسي).
-النساء القاتلات في العصور الإسلامية المتأخرة (9 نساء مشكوك في بعضهن) .
في الخاتمة قدّم الباحث استنتاجاته ، وكان أهمها هو :
-قلّة عدد النساء اللائي قمن بعمليات الإغتيال خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة (من التاريخ القديم حتى أواخر عصر المماليك في مصر والشام) (55 امرأة فقط).
-شكّل الدافع السياسي إلى جانب الدافع الإجتماعي أبرز الدوافع.
-نجاح أغلب المحاولات لقرب القاتلة من ضحيتها وعلاقتها بها ، واطمئنانه لها .
-اشتهرت القائمات بالفعل لأن أغلب الضحايا مشهورون.
-كان السم هو الأداة الأساسية لتنفيذ الإغتيال .
ولعل الإستنتاج الأهم هو ما جاء – من جديد - دفاعا من الباحث عن مشروعه :
(إن تسجيل أخبار النساء القاتلات وحفظها في كتب التاريخ ، قد يشكل عاملاً رادعاً لمن تروم القيام بهذا الفعل خشية من سوء الذكر ، كما أن في هذا الكتاب نقداً لصحة بعض الحالات التي ذّكرت لعدم وجود أدلة تؤكدها .. فضلا عن تبرئة بعض اللائي اتهمن بالقتل) (ص 111 – 113) .
ويبدو الإستنتاج الأخير معبّراً عن قلق الباحث وقوّة تأثير الرابط الأمومي ، لأن موضعه المناسب كان في المقدّمة التي ذكر فيها نفس التبرير في موضعين .
لقد جاء أسلوب العرض بسيطاً وسلساً وقصصياً الأمر الذي يشيع المتعة في نفس القارىء ويشدّه لمتابعة وقائع الكتاب .
أمّا الكتاب الثاني فهو (العزوف عن الزواج بين المؤلفين في العصور الإسلامية) والذي أشار الباحث في مقدّمته (نطاق البحث وعرض أهم المصادر) إلى أنّ كتاب (العلماء العزّاب الذين آثروا العلم على الزواج) لعبد الفتاح أبو غدّة هو من الأعمال الريادية في هذا المجال ، لكن المؤلف اقتصر فيه على عرض تراجم العلماء الذين تركو الزواج طلبا للعلم لا لسبب آخر ، وذكر فيه أخبار عشرين عالماً فقط ، اثنين منهم عاشوا في العصر الحديث ، في حين قصر د. فاضل جابر بحثه على نطاق العصور الإسلامية ، بالإضافة إلى أنّ منهجه قام على إحصاء المؤلفين والعلماء العازفين عن الزواج لمختلف الأسباب ، ومعالجة المادة التاريخة وفق المنهج التحليلي ، معتمداً النقد التاريخي أساساً فيه دون أن يتخذ حكماً مسبقاً ليبين فيه السبب وراء ذلك العزوف ، في حين أن الأستاذ عبد الفتاح ابو غدة جزم بأن أولئك العلماء إنّما تركوا الزواج رغبة في طلب العلم ونشره . لقد وجد د. فاضل جابر أسباباً ودوافع أُخر دفعت هؤلاء العلماء إلى اعتماد مبدأ العزوبية ، فضلاً عن أنه أحصى في حدود ستة وستين عالماً ومؤلفاً انطبقت عليهم تلك الحالة وهو عدد يفوق ما جاء عند الباحث السابق (ص 9 و10) .
وبروح الباحث الموضوعي المُنصف يحاول د. فاضل أن يجد مبرّراً للعدد القليل من العلماء الذي تناوله ابو غدة في كتابه بالقول :
(وقد يعود الفرق بين عدد العلماء المذكورين في كلتا الدراستين إلى أننا استعنا بالمكتبات الإلكترونية التي تضم مئات المصادر العربية ... في حين لم تكن هذه الخدمة متوافرة زمن تأليف الأستاذ الجليل أبو غدة لكتابه المذكور) (ص 10) .
ولعلّ من بين سمات خطاب د. فاضل جابر هو الأدب العالي في الخطاب والحفاظ على اسس الإحترام والتهذيب في المحاورة النقديّة ممثلة بوصف الباحث الذي ينتقد مؤلفه بالأستاذ الفاضل والاستاذ الجليل ، في الوقت الذي نلاحظ إنحسار هذه الاساسيات اللياقية والأدبية من خطاب البعض ومحاوراتهم وردودهم النقدية .
ولإنصاف أكبر للعلّامة الراحل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة نقول إنه سوري المولد (ولد عام 1917) وتوفي في الرياض عام 1997. وله ثمانية وخمسون كتاباً بين محقّق ومؤلّف ، ومنها كتابه الذي أشار إليه د. فاضل وهو " العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج" ، والذي طُبع أربع مرّات كانت الأولى في بيروت عام 1982 .
وبالإضافة إلى المقدّمة اشتمل الكتاب (104 صفحات) على أربعة فصول وخاتمة وملحق يبيّن أعمار عدد من المؤرّخين المتزوّجين .
تناول الباحث في الفصل الأول : (العزوف عن الزواج في اللغة والإصطلاح) ، التسميات التي أطلقها اللغويون على تارك الزواج وموقف الشريعة منه ، فيشير إلى أن اشهر تسميات تارك الزواج هي "الصارور" من "الإصرار" على ترك النساء ، والمكسع والأيم والعزب وغيرها . ولم يكن الرسول يحبّذ ترك الزواج .
ثم يتناول الباحث في الفصول الثلاثة التالية العلماء العازفين عن الزواج حسب القرون التي عاشوا فيها ، حيث خصّص الفصل الثاني للعازفين عن الزواج بين القرن الثاني الهجري ونهاية القرن الخامس الهجري ، والثالث للقرنين السادس والسابع الهجريين ، والرابع للقرون الثامن والتاسع والعاشر للهجرة .
أمّا في الخاتمة فقد لخّص الباحث استنتاجاته الأساسية ، وأهمها في حقل الأسباب حيث بيّن أن في مقدمتها رغبة العالم في التفرغ لبحثه العلمي الى أن يجد نفسه كهلا فلا يجد مبررا للزواج ، بالرغم من ان الزواج وتكوين اسرة لا يتعارض مع الانشغال بالعلم والانهمام ببحثه . ولكن هناك اسباب اخرى ذاتية منها ما يتعلق بشخصية العالم كاتخاذه العزلة او الزهد في الحياة ، والبخل ، والعنّة الجنسية ، وعدم الرغبة في مشاركة الحياة مع امرأة !
وهناك من العازفين عن الزواج ممن اشتهروا بكثرة نتاجهم الفكري التي تتطلب وقتا كافياً وتفرّغاً تاماً .
وهناك من صرّح بأنه ترك الزواج لرغبته في أن يعيش طويلاً (ص 87 و88) .
وتحضرني ملاحظة مهمة لسجموند فرويد قد تلمس الجانب النفسي في في هذا المجال يعتبر فيها العمل الفكري نوعاً من الإستمناء !!
وللرد على زعم ترك الزواج من أجل إطالة العمر ، يقدّم الباحث جدولا (ص 90 – 92) يبين أعمار العلماء الذين تزوّجوا وعاشوا أعمارا فوق المعدل المتوسّط . ولكنني – وقد أكون مخطئاً - لم أجد إشارة إلى الجدول في متن الكتاب كما هو متعارف عليه في قواعد البحث العلمي .