المعلم يعقوب.. بين الأسطورة والحقيقة
المعلم يعقوب.. بين الأسطورة والحقيقة
محمد سيد بركة
في تاريخ الأمم شخصيات قامت بأدوار مازال الاختلاف حولها لأنها وقفت بوضوح مع الغزاة ضد أبناء جلدتهم ومن هؤلاء الشخصيات ما عرف في التاريخ المصري الحديث بالمعلم يعقوب الذى مات منذ أكثر من مئتي عام فى مدينة مرسيليا وأثار حالة من الصخب فى الحياة الثقافية المصرية قديما وحتى الآن.. بعد إعادة نشر كتاب الدكتور أحمد حسين الصاوى عن المعلم يعقوب والذى حمل اسم المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة في سلسلة ذاكرة الوطن والتي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر .
بدأ المؤلف الدكتور أحمد حسين الصاوى بمقدمة شديدة الوضوح قدم فيها وثائق انجليزية وفرنسية تتصل بحياة المواطن المصرى الذى لقب بالمعلم يعقوب أو الجنرال يعقوب والأحداث التى تفاعل معها أثناء وخلال الاحتلال الفرنسى لمصر، وضم الكتاب تقديماً بالغ الحزم والدقة لرئيس تحرير السلسلة أسامة عفيفى الذى أوضح أن المعلم يعقوب قائد ما سمى بالفيلق القبطى التابع لجيش نابليون، كان يهدف إلى إثارة الفتنة الطائفية، لأن هذا الفيلق كان يضم مجرمين سابقين من المسلمين والمرتزقة من خارج البلاد من أرمن وأتراك وشوام وضم كثيراً من الذُعار والحرافيش وأصحاب المنسر، مما دفع الكنيسة القبطية المصرية إلى التبرؤ منه ومن أفعاله.
وقد سبق أن أصدر المجلس الأعلى للثقافة منذ سنوات قليلة كتابا بعنوان (هذا هو المعلم يعقوب) للدكتور أنور لوقا يؤكد فيه أن المعلم يعقوب صاحب مشروع وطنى لاستقلال مصر وأنه سبق عصره بأكثر من قرن وانه خرج من مصر على رأس وفد مصرى للتفاوض مع الدول الأوروبية من أجل منح مصر استقلالها. ويتهم د. لوقا مؤلف الكتاب الأول "بين الأسطورة والحقيقة" الدكتور أحمد حسين الصاوى بأنه لم يكن من الجد بحيث يستطلع تلك الثقافة أو يطمح إليها - الفرنسية - وإنما كان ظريفا عذب الحديث، سريع الخاطر والمفكاهة يتقمص تلك الخفة التى يسميها المصريون الفهلوة.
ولقد صرح المحامى المسيحي ممدوح رمزى بأنه سيتخذ خطوات قانونية لمصادرة كتاب المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة لأنه يستهدف تشويه صورة المعلم يعقوب.
وهكذا تتنازع صورة المعلم يعقوب ما بين الأبيض والأسود فهو تارة خائن وعميل عند مجموعة من المؤرخين والكتاب، وتارة أخرى بطل سياسى واقتصادى نادر عند نفر آخر منهم.. مات بالحمى على السفينة التى حملت فلول الحملة الفرنسية على مصر، أو هو قتل بالسم من أعدائه حتى لا يتعاون مع الأجنبى. حرمته الكنيسة المصرية من التناول، لأنه خرج عن تعاليمها، ويطالب محام مسيحى بمصادرة الكتاب لأنه يسىء للمسحيين.
وليس بوسع أى قارئ منصف للكتاب إلا الانزعاج من المحتقنين الذين يحجرون على حوادث التاريخ وينادون بمصادرة أى كتاب لم يكتب على هواهم، إن الذين طالبوا بمصادرة الكتاب هم الذين يسيئون لتاريخ الكنيسة التى وقف رئيسها ضد أطماع المعلم يعقوب الذى انسلخ عن أمته والتحق بقوات الغزاة.
ومن ثم تاتي أهمية عرض الكتاب لكى يختلف معه من أراد عن بينة، ويدافع عنه من أراد عن بينه بعيدا عن سياسة تجريم التاريخ التى أصبح البعض ينتهجها لتخويف كل باحث عن الحقيقة.
وقد جاء الكتاب مكونا من ثلاثة عشر عنوانا وثمانية ملاحق تناول الدكتور الصاوي من خلالها تلك الشخصية المثيرة للجدل .
في البداية يتحدث الباحث عن أقباط مصروأكد أنهم برعوا فى مسك الدفاتر وجباية الضرائب وكل ما له علاقة بتنظيم الحياة المادية لمصر فى كل عصورها منذ دخلها الإسلام.
وأنهم أي الأقباط احتفظوا بمكانتهم الوظيفية فى عهد المماليك والأتراك وعندما جاء الغزو الفرنسى لم يتغير من الأمر شىء. وعين نابليون بونابرت المعلم جرجس الجوهرى مسئولا عاما عن تحصيل الضرائب العقارية، وعهد إليه تنظيم الموارد المالية للحكومة. ولقد شن المماليك (مسلمون) بقيادة مراد بك حربا شعواء على قوات الحملة الفرنسية. وتحصن مراد بك فى الصعيد وواصل حربه للقوات الفرنسية.
إلا أنه أمام التفوق العسكري للفرنسيين والخيانات من جانب أمراء مماليك (مسلمون) مثل عثمان البرديسى وعثمان عسكر وحسين الكاشف يتحالفون مع الفرنسيين وأمثال يعقوب يوقع مراد بك اتفاقية سلام وتحالف مع كليبر، وتقضى الاتفاقية بأن يحكم مراد بك الصعيد باسم الجمهورية الفرنسية مقابل تمتعه بخَراج إقليم جرجا، وعليه أن يتكفل بتموين القوات الفرنسية المرابطة فى ميناء القصير وأن يساعدها فى حالة الاعتداء عليها.ولقد أتاح تحالف المماليك (المسلمون) لكليبر فرصة القضاء على ثورة القاهرة الثانية (قادتها وجمهورها من المسلمين).
ويكتب الباحث عن المعلم يعقوب فيرى أنه فى حوالى العام 1745 ولد يعقوب حنا بمدينة ملوى، تعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب ثم لما أتقن المحاسبة عمل فى خدمة سليمان بك أغا ( مسلم) ليضبط دفاتر حساباته، وقد جنى يعقوب من وراء عمله ثروة ضخمة.
وكان يعقوب قوى البنية محبا للفروسية وقد حارب فى صف المماليك ضد قوات القبطان حسن باشا التى كانت تحاول تثبيت حكم العثمانيين لمصر قبيل قدوم الغزو الفرنسى.
كما كان يعقوب مخالفا لعادات قومه فى الزى والنشاطات ويكفى أنه اتخذ امرأة بطريقة غير شرعية، وقد نصحه بطريرك الأقباط بتحسين سلوكه ولكنه رفض النصيحة. وعندما وقع الغزو الفرنسى كان يعقوب رجلا مكتمل الرجولة فى الثالثة والخمسين من عمره، ملأ جلده طموح قاتل، لم يعد يعقوب راضيا بدور الثرى أو جامع الضرائب أو المحاسب، إنه يبحث عن دور يضعه حيث يرى نفسه.
ووجد يعقوب ضالته فى الفرنسيين فقدم نفسه إليهم ( ألا يذكرنا هذا بفلان وفلان فى العراق مثلا؟ الذين قدموا أنفسهم للأمريكان ).
يعقوب الصعيدى العارف بدروب بلاده رافق الجنرال ديسيه ليخضع الصعيد للحكم الفرنسى الجديد. ووقع يعقوب فى غرام ديسيه ولذا بذل كل جهده لإنجاح حملة قمع الصعيد !!.
قام يعقوب بتأمين طرق مواصلات الحملة ونظم الشئون الإدارية فى الأقاليم التى تم إخضاعها، وعمل على التوفيق بين قديم القوانين وجديدها، ثم شارك بفاعلية فى المعارك التى جرت بين المماليك والصعايدة من جانب، والفرنسيين من جانب آخر.
اشتبك يعقوب على رأس فصيلة من الفرسان الفرنسيين مع المماليك عند بلدة العتامنة بأسيوط، وأبلى بلاء حسنا فى تلك المعركة حتى إن القائد الفرنسى قدم إليه سيفا تذكاريا نقشت عليه جملة معركة عين القوصية 24ديسمبر 1798.
ولما غادر بونابرت مصر فجأة فى الأول من أغسطس 1799 وتولى كليبر قيادة الحملة، وعاد ديسيه من الصعيد برفقة يعقوب الذى قدم حتى الآن خدمات جليلة للفرنسيين ولكنه كان دائما يلعب لصالحه الشخصى يقول الجنرال بليار فى مذكراته عن يعقوب: ومع أنه كان يعمل لحسابنا فهو لم ينس مصالحه الخاصة.
تحصن يعقوب فى قلعته التى شيدها فى الرويعى وضم إليه معظم عساكر الزعيم المملوكى حسن بك الجداوى، ومنحه كليبر رتبة كولونيل، فبدأ يعقوب فى تكوين فرقة قبطية مسلحة ستعرف لاحقا باسم الفيلق القبطى، وقام من ماله الخاص بتجهيز الفيلق بالتموين والسلاح. وكان الهدف من تكوين الفيلق هو مساعدة الفرنسيين.
كما شارك يعقوب ورجاله فى تحصين القاهرة فى وجه العثمانيين عندما حاولوا الاقتراب منها للمرة الثانية فى عام 1801، وكان من أعوان يعقوب فى قهر المصريين رجل يدعى مصطفى الطاراتى، وقد كأفا مينو الذى تولى قيادة الحملة الفرنسية بعد كليبر المعلم يعقوب ومنحه رتبة جنرال.
غادر ديسيه مصر فى عهد كليبر لينضم لبونابرت فى حربه مع النمسويين، وقد قتل ديسيه فى معركة مارنجو، وحزن يعقوب على مقتل صديقه الشاب حزنا عظيما وكتب إلى الجنرال مينو يعرض عليه دفع ثلث تكاليف بناء النصب التذكارى المزمع إقامته تخليدا لذكرى الرجل الذى وهبه قلبه ــ حسب نص عبارة يعقوب. هنا لا يقطع المؤلف بشىء حول طبيعة علاقة يعقوب بديسيه، وإن كان يشير إلى تعلق الشيخ إسماعيل الخشاب بشاب من ضباط الجيش الفرنسى!!
لم يتوقف الأمر عند تحمل ثلث تكاليف إقامة النصب بل تعداه إلى مدح الفقيد بقصيدة غير عصماء تتحدث عن شوق القلب إليه !!! وقد أوردها الباحث الدكتور الصاي كاملة في الملاحق .
كلف يعقوب صديقه الأب رفائيل بكتابة مرثية شعرية فى ديسيه، تعبر عن مشاعره تجاه صديقه، والقصيدة على ركاكتها كانت تسجيلا لمشاعر وأحاسيس يعقوب نحو الضابط الشاب الذى عاش معه فى الصعيد وكان لا يفارقه!!
وبعد أن كتب الأب رفائيل مرثيته أرسلها يعقوب إلى باريس، ومن أبيات القصيدة التى قد تشير إلى طبيعة العلاقة بين يعقوب وديسيه :
ولم يزل بفكرى مخلدا أبدا
حتى إلى خروج الروح من صدرى
جد علىّ بلحظ العين مترأفا
وانظر إلىّ بأسنى برقة النظر
فانظر إلى شعبناوشقاء حالته
فغدت حياتنا لا تخلو من الكدر
لاحظ المصريين وكيف كانوا قديما
وعبيدا غدوا الآن للرق واليسر
ومحبتنا للفرنسيس فلابد عنها
لأنهم اعتقونا من الأضرار والشر.
ولكن سرعان ما هوى صرح الخيال الذى شيده المعلم يعقوب، حيث كانت القوات العثمانية التى تريد استرداد مصر من قبضة الفرنسيين تتقدم باتجاه القاهرة فى ذات الوقت الذى تقدمت فيه القوات الانجليزية باتجاه رشيد فوقع مينو بين طرفى كماشة فكان لابد من الانسحاب من مصر وإعلان فشل الحملة. ماذا يفعل يعقوب وكل الذين وضعوا أنفسهم فى خدمة الاحتلال؟
جمع يعقوب فيلقه وأراد السفر إلى فرنسا، ولكن نساء وأولاد الجنود تشبثوا بالبقاء فى مصر، من ناحيتهم أراد العثمانيون استمالة الشعب إليهم فأصدروا مرسوما يقضى بالعفو العام عن كل الذين تعاونوا مع الفرنسيين وقالوا نصا: كل واحد من أهالى مصر المحروسة من كل ملة كانت، الذى يريد يسافر مع الفرنساوية يكون مطلوق الإرادة وبعد سفره لا تصادر أملاكه، ولا أحد من أهالى مصر يكون قلقا من قبل نفسه ولا من قبل متاعه، جميع الذين كانوا بخدمة الجمهور الفرنسى بمدة إقامة الجمهور بمصر.
هذا العفو لم يفلح فى حالة يعقوب ويوسف الحموى وعبد العال الأغا قائد قوات الأنكشارية الذى طلق زوجته وباع متاعه وسافر مع الفرنسيين ( ليس الأقباط هم الذين تعاونوا فقط ) أخيرا جاءت ساعة الحقيقة وصعد يعقوب إلى الفرقاطة الإنجليزية بالاس وهى السفينة نفسها التى أقلت الجنرال بليار وعددا من جنوده عائدين خائبين إلى فرنسا. وهنا يبدأ الفصل الأخير من مغامرات يعقوب مع تيودور لاسكاريس الذي ولد فى عام 1774لأسرة من نبلاء إيطاليا وانخرط وشقيق له فى سلك فرسان القديس يوحنا بجزيرة مالطة، التى غزاها نابليون وهو فى طريقه لمصر وانتزعها من أيديهم، صحب تيودور لاسكاريس نابليون إلى مصر، وقد جاء فى مراسلات نابليون أن الأخوين لاسكاريس كانا مصابين بلون من الهوس وشذوذ الأهواء وخاصة تيودور الذى وصل الأمر به إلى حد الجنون لأنه كان صاحب عقل مغرق فى الخيال، وقد قال لاسكاريس لقائد الحملة مينو: إن القدر يهىئ لكل إنسان فى هذا العالم الطريق الذى يسلكه وكثيرا ما أرتفع بنفسى فوق عالم الواقع لكى أخطط لمشروعاتى، وأترك لخيالى أن يذلل كل ما قد يعترضها من عقبات.
على متن السفينة الإنجليزية كان القبطان يميز المعلم يعقوب بنوع خاص من المعاملة، وهو الأمر الذى جعل يعقوب يقول للقبطان: إننى عندما أعتمد فى تحقيق غايتى على الفرنسيين لم أكن أدرك قوة الإنجليز، أما الآن فقد خدعنا الفرنسيون، وأصبح الشعب المصرى يحتقرهم كما يحتقر الأتراك «تلقف لاسكاريس هذه المغازلة وتدخل عقله صاحب المشروعات العجيبة وقال للقبطان إن الجنرال يعقوب إنما يسافر على رأس وفد مصرى اختاره أعيان البلاد ليفاوض الحكومات الأوربية المعنية فى موضوع استقلال مصر». هذا الخيال الجامع يصبح للأسف هو الدليل الوحيد على المساعى التى بذلها يعقوب فى سبيل استقلال مصر عن الحكم التركى!
لاسكاريس كان يمارس هوايته فى إطلاق المشروعات غير القابلة للتحقيق، أما يعقوب فقد كان يكذب، إذ لم يكن ممثلا للمصريين ولم يكن على رأس وفد المطالبة بالاستقلال، يعقوب لم يكن سوى باحث عن مصلحة خاصة تمكنه من الزعامة الشخصية، وسامح الله الدكتور لويس عوض الذى تلقف هذه القصة وجعل من خلالها يعقوب بطلا من أبطال الاستقلال.
وعندما كانت السفينة بالاس لاتزال فى عرض البحر أصيب يعقوب بالحمى، ما لبث أن اشتد عليه المرض ومات فى عرض البحر فى 16 أغسطس 1801، وكانت آخر كلماته وهو يحتضر للجنرال بليار أن يدفن مع صديقه ديسيه فى قبر واحد.
ولم يلق قبطان السفينة بجثة يعقوب إلى البحر كالمعتاد فى مثل هذه الحالة، بل استمع إلى رجاء من معه فاحتفظ بالجثة فى دن من الخمر حتى وصلت السفينة إلى مارسيليا وهناك تم دفنها، ليسدل الستار على الفصل الأخير فى حياة يعقوب.و يختتم الدكتور الصاوي كتابه الهام بقوله: إن مصر أفاقت بعد سنوات الحملة الفرنسية لتشق طريقها بمسلميها وأقباطها نحو التقدم والنماء ولتبهر العالم بثورة 1919 التي اعتنق فيها الهلال والصليب في وحدة لم يسبق لها أو يلحق بها نظير ، كما قدم كتابه أيضا باشارة إلي أنه لافرق أمام الحقيقة والتاريخ بين مسلم ومسيحي.
والآن بعد هذا العرض لأبرز ما جاء فى كتاب الدكتور أحمد حسين الصاوى، هل لنا أن نسأل: أين هى تلك الطائفية التى أغضبت البعض من إعادة نشر الكتاب؟
لقد ذكر الدكتور الصاوى كل ما يتعلق بالذين تعاونوا بل وتحالفوا مع الاحتلال ولم يفرق بين مسلم ومسيحى وشن حملة قوية ضد خيانة مراد بك الذى تمتع هو وقومه بخيرات مصر، ثم تحالفوا مع الغازى لأنهم دائما وأبدا كانوا ينظرون إلى مصالحهم الشخصية بعيدا عن مصلحة البلاد التى نعموا بخيراتها.
علام إذن هذه الزوبعة السخيفة بشأن كتاب يمثل إجمالا وجهة نظر هامة؟.
الكتاب : المعلم يعقوب.. بين الأسطورة والحقيقة
المؤلف: الدكتور أحمد حسين الصاوى
الطبعة : الثانية – 2009 م
عدد الصفحات: 138 صفحة من القطع الصغير
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة – مصر – سلسلة ذاكرة الوطن رقم 2