مذكرات في السياسة

مذكرات في السياسة

(حاول الضباط البعثيون الانقلاب على عبد الناصر ودقوا المسمار الأول في نعش الوحدة الانقلابات العسكرية السورية وخفاياها)

تأليف: المحامي عبد الكريم العيسى

عرض: سمير شمس/ بيروت

يخوض القيادي البعثي السوري السابق المحامي عبد الكريم العيسى في كتابه(مذكرات في السياسة) الصادر حديثاً عن «دار لبنان» تجربة التدوين. يفتح ذاكرته ويعرّي أفكاره ويكشف مخزون الحوادث واللقاءات، وخلفية الانقلابات التي اجتاحت سوريا في مرحلة مضطربة امتدت منذ عام 1949 مع انقلاب حسني الزعيم، وصولاً إلى حركة الرئيس حافظ الأسد التصحيحية في عام 1970، وذلك كشاهد وفاعل في التخطيط والتنفيذ، وما استتبع ذلك من سجن ونفي وهروب عند الفشل، وسلطة عند النجاح رغم اهتزاز السلطة في الحالتين، وقلقها الدائم من مؤمرات مستمرة تحاك في الخفاء.

قرر الكاتب نشر مذكراته وهو على قيد الحياة، ليتيح للقارئ تصحيح المعلومات، وليؤدي إلى نقاشات تسهم في توسيع المعرفة، وتدوين التاريخ الأقرب إلى الحقيقة والواقع. ولأنه من جهة أخرى اعتزل السياسة، ولم يعد في قلب الأحداث رغم أنه لم يستطع أن يلغي دوره كمواطن مراقب.

اعتمد في توثيق هذه المذكرات على الوقائع التي كان طرفاً مباشراً فيها، وتلك التي سمع بها من أصحابها أنفسهم، فدونها منسوبة إليهم، وأخرى عرفها بالتواتر فقام بتوثيقها وغربلتها وفق رؤية يعلم اتجاهاتها بالممارسة والتجربة.

أهمية هذه المذكرات أنها تغطي مرحلة ملتبسة من التاريخ السوري، وانعكاساته العربية. وهي الفترة العاصفة التي شهدت تغيرات متسارعة، من النضال ضد الانتداب الفرنسي وتحقيق الاستقلال، وما تبعها من صعود الطبقة السياسية القديمة المتعاونة مع الانتداب إلى سلطة الاستقلال، وما تلاها من تنامي المد القومي العربي ومن تجاذبات بين الوطنية والقومية، وتحقيق دولة الوحدة العاطفية العفوية المرتجلة والمتسرعة، وما أسفر عن هذا الهيجان العاطفي من ارتطام بالوقائع التي لم تنضج والتي سلقت على عجل تحت ضغط المشاعر التي لم تأخذ حقها من الدرس والتمحيص والتهيئة حتى كان الانفصال وما تبعه وعرف بمرحلة الانقلابات العسكرية.

انخرط الكاتب في حزب البعث العربي باكراً حين كان هذا الحزب في صفوف المعارضة يستجدي موقعاً في السياسة السورية، ويتسلل سراً بين الطلبة، خصوصاً، ليصل عبرهم إلى مواقع يستطيع منها أن يغير شيئاً. فعقد فصلاً تحدث فيه عن المناخات التي رافقت نشأة أبناء جيله الذي شهد نكبة فلسطين في عام 1948، وما تلاها من احتقانات اجتماعية كانت تحلم بالاستقلال والحرية والعدالة، فوجدت نفسها مهزومة وقاصرة عن تحقيق أحلامها، أو الاحتفاظ بحقوقها. فانفجرت تبحث عن حل، فلم تجد سوى الجيش بديلاً عن الأحزاب، لأن الجيش في العالم العربي هو المؤسسة الوحيدة التي تملك ركائز التنظيم، وهي وحدها المهيأة والقادرة على القيام بعمل جماعي.

خصوصاً وقد توسعت قاعدة هذه الجيوش وشملت قطاعات اجتماعية واقتصادية، وأبناء الطبقات الفلاحية والعمالية والمتوسطة، ومن كل أنحاء البلاد، ومن مختلف المناطق، نتيجة لتعميم الخدمة الإلزامية.

قام الجيش بانقلاباته تحت شعارات معلنة، لا علاقة لها بالأسباب الحقيقية الفعلية، يأتي في أولها تحقيق الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

وكان أن يتبين في كل مرة، أن هذه الانقلابات العسكرية مرصودة ومخطط لها من قبل قوى خارجية لتخدم مصالحها الخاصة، فتدير اللعبة وفق مآربها. والإصلاح لم يكن سوى الخطاب المعسول لترويج الانقلاب العسكري وتسهيل قيامه بتخدير جماهيره، حتى حين يتمكن من السلطة يصبح القمع، وكم الأفواه أداته .كما أدت هذه الانقلابات إلى نتائج كارثية على صعيد تطور المجتمعات العربية، فقد عطّلت التطور الطبيعي، في حين كانت هذه المجتمعات بحاجة إلى قفزات نوعية استثنائية لتطورها.

يستعرض المؤلف القوى السياسية التي كانت تتناوب على السلطة في الفترة الزمنية الممتدة منذ إعلان الجمهورية السورية في عام 1946، والتي صار فيها الحكم إلى أبناء الأسر الذين كان معظمهم يتعامل مع الانتداب الفرنسي حيناً، ويتخاصم معه بالاتفاق حيناً آخر، مثل حزب الشعب الذي تزعمه «رشدي الكيخيا» والذي كان نفوذه انتخابياً على قاعدة العلاقات الشخصية، في حين أن علاقته بالناس لم تأخذ الشكل التنظيمي مطلقاً.

ويتوقف عند انقلاب حسني الزعيم في عام 1949، فيدرس أسبابه ونتائجه وقواه الفاعلة. ويتمهل في سرد الأحداث بعد ذلك حين أصبح شخصياً مشاركاً فيها من خلال انتسابه لحزب البعث في عام 1954. فيعرض لتأسيس الحزب ورجالاته وقواه وتطوره الذي حل نفسه كشرط لقبول عبد الناصر بالوحدة وظلت كوادره فاعلة. عرف المؤلف عن قرب، كما يقول، أكثر الخارجين على حزب البعث الذين قامت السلطة بعد عام 1966 بلملمة عدد منهم فشكلت بهم «الجبهة الوطنية التقدمية». ويحدد أهم أمراض الحزب الذي قاد إلى الانقلابات العسكرية بنقطتين، الأولى: هي أن الخلل في الحزب يتمثل في عقلية القيادة، وطبيعة العلاقات بينها والفروع، والقائمة على فكرة الولاء الشخصي. والثانية: هي في هزال وانتهازية القاعدة الحزبية المثقفة المزدوجة الولاء، مما جعلها قاعدة معطلة ساكتة عن تصرفات القياديين، مما أضر بالحزب وأذاه في سمعته.

ويرى أنه من اللافت أن نقد قيادات الحزب لم يخرج من النقد «الصالوناتي» فلم تنظم حملة احتجاج ذات أثر من مثقفي الحزب ضد سلوكية بعض أمناء الفروع التي كان الحديث عن تصرفاتهم وسلوكهم يدور همساً.

يركز الكتاب على دور الوحدة والانفصال، فيرى أن الانفكاك السياسي بين عبد الناصر وحزب البعث لم يحدث عام 1960، بل حدث بعد أشهر قليلة على قيام الوحدة.

لقد حاول الضباط البعثيون القيام بمحاولة إطاحة عبد الناصر مع الإبقاء على الوحدة، لكنهم لم يتفقوا فقرروا الاستقالة الجماعية من الوزارة، فكانت هذه الخطوة المسمار الأول في نعش الوحدة، لأن الرئيس عبد الناصر لم يكن يتوقع هذه الاستقالة لا بالتوقيت، ولا بالصورة الحزبية التي قدمت فيها. لذلك اعتبر أن هذه الاستقالة لم تكن انسحاباً من وزارة الوحدة، بل من الوحدة، مما يطرح أسئلة من نوع: هل كان المساس بالوحدة هدفاً من أهداف استقالة البعثيين، أم كانت محاولة لإحداث صدمة لعبد الناصر لتشعره بخطورة ما يجري في سورية، أملاً في أن يتحرك لتدارك الوضع قبل حصول الأسوأ، خصوصاً أن الضباط المصريين الموفدين إلى سورية للخدمة في جيشها، أساؤوا كثيراً للشعب السوري.

يستعرض المؤلف بعد ذلك الانقلابات العسكرية المتتالية بالأسماء والوقائع، كاشفاً عن كيفية حياكة المؤامرات، والجهات الأجنبية التي تخطط لها أو تدعمها، وأماكنها وأشخاصها، وعن دوره الشخصي في بعضها. كما يكشف عن الصفقات وحالات إبعاد العسكريين الفاعلين إلى السلك الديبلوماسي.

كتاب يستعرض مرحلة معتمة مهمة من تاريخ سوريا والعرب، ويضيء بعضاً من المسكوت عنه، الذي لا زال في ذمة الشهود الصامتين خوفاً، طالما الذهنية الانقلابية لا زالت فاعلة في العالم العربي، وطالما الحقيقة لا زالت محجوبة بظلال اسم لامع محروس من حراس التاريخ، وكتبته الذين يدبجون آلاف الأكاذيب في حضور مسلسل تخاله لفرط توثيقه حقيقة ساطعة.