اللواء الركن محمود شيت خطّاب في كتابه الأيام الحاسمة قبل معركة المصير

عبد الله الطنطاوي

اللواء الركن محمود شيت خطّاب

في كتابه

الأيام الحاسمة قبل معركة المصير

عبد الله الطنطاوي

صدر هذا الكتاب في بغداد سنة 1967 عن وزارة الثقافة والإرشاد في 167 صفحة.

وهو مجموعة من الدراسات العسكرية كتبها ونشرها بين 30/5 و 5/6/1967 ونشرت في جريدة العرب البغدادية.

هدف من نشرها إلى:

1 - خلق وعي عسكري سليم بين أبناء الشعب.

2 - استثارة الهمم لحشد الطاقات المادية والمعنوية للجهاد.

3 - إبراز ما يمكن أن يحدث في الحرب فعلاً بكل صراحة وموضوعية ووضوح ليكون الشعب على بيّنة من أمره، فلا يؤخذ بالأحداث على غرّة، فتنها معنوياته دون مبرر.

في بحثه (خطة إسرائيل في 5 حزيران) كان مدركاً لمخططات إسرائيل وخطتها في الهجوم على تلك الهضاب (السورية) مكشوفة أيضاً.. هي نفس خطّتها التي كررتها مئات المرات في الاعتداء على البلاد العربية المجاورة، مع اختلاف بسيط واحد، هو زيادة حجم دروعها ومشاتها المنقولين بالعجلات المدرعة، وزيادة إسنادها الجوّيّ.

خطتها هذه، هي غارات خاطفة، تباغت بها القوات العربية، بقوات أرضية مدرعة، وقوات جوية، مع اختلاف في حجم تلك القوات بالنسبة للواجب المطلوب، والهدف الذي تريد السيطرة عليه".

"وقد حشدت بالقرب من حدود سورية للهجوم على هضاب تحويل مجرى نهر الأردن- قوات تقدّر بأربعة ألوية مدرعة، ولواءين من المشاة المحمولين بالناقلات المدرعة، وهيأت القوة الجوية لإسناد هذا الهجوم الأرضي، لكي تهيّئ الجوّ المناسب لاختراق سريع حاسم".

وإسرائيل "لم تكتم نياتها في الاعتداء على سورية، وفضحت باستهتار عجيب تلك النيات«.

لماذا هذا الاستهتار؟ أظنّ الجواب واضحاً..

بل عندما قامت مصر بحشد قواتها في سيناء على حدود إسرائيل، سارعت إسرائيل إلى سحب قواتها من حدودها الشمالية، إلى حدودها الجنوبية مع مصر، وصارت جبهتها الشمالية مع سورية ثانوية، وجبهتها مع مصر هي الحيوية.

ومع ذلك.. سقطت الهضاب المنيعة في الجولان الاستراتيجي المنيع. فتأمل.

وفي بحث (أهمية حرمان إسرائيل من الملاحة في خليج العقبة) قدّم وضعاً مجملاً لخليج العقبة، وأهميته الاستراتيجية من النواحي العسكرية والاقتصادية والسياسية.

وفي (حرب أم لا حرب) الذي كتبه في 30/ 5/ 1967 أي قبل الحرب بخمسة أيام فقط قال:

"وأبادر إلى القول بأن الحرب بين العرب وإسرائيل آتية لا ريب فيها، ولكن: كيف؟ ومتى؟ وأين؟".

ثم أجاب اللواء خطاب على هذه الأسئلة.

تحدّث عن القوات الإسرائيلية: النظامية، العصابات الإرهابية الرديفة للجيش النظامي، والقوات المدنيّة المهيأة للدفاع المحلي عن القرى والبلدات والمستعمرات.

وبيّن أن القتال على جبهتين ليس بمقدور إسرائيل، بقواتها النظامية الراهنة، ولذلك دعت إلى النفير العام الذي تستطيع به تجنيد 200 - 300 ألف مقاتل. وهذا العدد يحتاج إلى التسليح، والتنظيم، والتجهيز، والقيادة.

وكلّ هذا يحتاج إلى الوقت، وهي جادّة في كسب الوقت، وتخادع العرب بمظاهر كاذبة.. "هذا ما يجب على العرب أن يضعوه نصب أعينهم، ويستعدّوا لمجابهته بخطط مدروسة دقيقة« فإسرائيل سوف تخوض الحرب لا محالة.

وخلص إلى القول في هذه المقالة التي نشرها في 30/ 5/ 1967:

"أمّا متى تبدأ الحرب؟ فالنفير الإسرائيلي يكمل خلال أسبوعين، وقد بدأت بتنفيذ خطة نفيرها بتاريخ 23/ 5/ 1967 وينتهي نفيرها يوم 5/ 6/ 1967 وفي خلال هذه الفترة يمكن إنجاز خطط الحركات والخطط الإدارية، وخطط التنقل، وخطط تعيين القيادات، وإصدار الأوامر إليها. وعلى ذلك: ستهاجم إسرائيل القوات العربية يوم 5/ 6/ 1967" ص84.

ترى.. أي مفكر استراتيجي هذا اللواء الركن محمود شيت خطاب؟

وأيّ حساب دقيق، وذهن متوقّد كان يمتلك؟

وفهمه لقيمة الوقت في هذه المرحلة الحاسمة، جعله يكتب بحثه (الوقت مع العرب على إسرائيل) وخلص فيه إلى "أن العرب إذا اشتبكوا بالقتال ضدّ إسرائيل، بعد حشد طاقاتهم المادية والمعنوية، فإن الحرب، كلما طال أمدها، يكون الوقت مع العرب على إسرائيل. والذي أريده: أن العرب إذا حاربوا إسرائيل قبل استكمال نفيرها، فسيلحقون بها أضراراً جسيمة".

هذا المعنى الحاسم كان خطاب لا يفتأ يردّده على مسامع العرب، ويؤكّده ليعوا خطورة ما يقول: "والذي أريده: أن العرب يجب أن يبدؤوا بالهجوم على إسرائيل، ليحطّموا قواتها أولاً، قبل أن تحطّم إسرائيل القوات العربية، في حال استكمال نفيرها، وإقدامها على مهاجمة العرب، ولكي تكون المبادأة بيد العرب على إسرائيل."

ولكن.. يبدو أنه كان مدركاً أن العرب سوف يفوّتون على أنفسهم فرصة المبادأة، وسوف يقوم اليهود بمهاجمة العرب، وسوف يحققون نصراً كاسحاً في الأيام الأولى من الحرب، وعندها ما على العرب إلا الاستمرار في القتال: فقال: "الدرس الذي أركز عليه في هذا المقال، والذي أريد أن يتفهمه العرب بعمق وأصالة: أن انتصار إسرائيل في الأيام الأولى من الحرب على العرب، يجب أن يزيد من صمود العرب، ومن استقتالهم، دفاعاً عن كرامتهم، وحقوقهم، وشرفهم".

فإذا كان العرب لا يجرؤون على مهاجمة إسرائيل، وتركوا لها فرصة بدء الحرب، وكسب النصر، فليطيلوا أمد الحرب، ولا يوقفوا القتال، وعندها يتراجع جيش اليهود وينتصر العرب. ولكنْ هيهات... إنها صيحة في وادٍ سحيق.

وفي بحثه (حرب البترول) بيّن الأهمية الاستراتيجية للبترول بالنسبة للآلة العسكرية، وبالنسبة للغرب، وبالنسبة لإسرائيل.. وبعد دراسة مركّزة، قال:

"يمكن الجزم بأن قطع البترول عن إسرائيل نهائياً، وعن الدول الاستعمارية التي تساند إسرائيل، سيؤدي إلى اندحار إسرائيل في الحرب، وذلك في حالة صمود العرب، مهما بدلوا من خسائر وأضرار، وسيؤدي إلى انهيار الاقتصاد الغربي خاصة، ويجعل الدول التي وراء إسرائيل، تفكر ألف مرة قبل الإقدام على إلحاق الضرر بمصالح العرب."

ودعا العرب والمسلمين إلى قطع بترولهم عن إسرائيل فوراً، وإذا نشبت الحرب، فعلى العرب أن يوقفوا ضخَّ بترولهم نهائياً، حتى تضع الحرب أوزارها، لكي لا يتسرب هذا النفط إلى إسرائيل، وإلى من وراء إسرائيل من دول الاستعمار.

وفي كلمته (إرادة القتال) التي ألقاها من تلفزيون بغداد مساء يوم 5/6/1967 شجّع العرب على القتال والاستبسال والصمود في وجه العدو اليهودي، وبدأ حديثه بذكر عدّة حوادث تاريخية، كغزوة الحديبية التي بايع فيها المسلمون رسولهم وقائدهم على الموت، واستذكر بعض بطولات معركة اليرموك، والقادسية، ثم عرّف (إرادة القتال) التي هي: إيمان بهدف سام، وجهاد في سبيل هذا الهدف بالنفس والمال، وثقة بأن هذا الهدف هو أحبّ وأعزّ وأغلى من الآباء والأبناء والإخوان والزوجات والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن.. وتحدّث عن الناحية الروحية، والإيمان، وعقيدة الإسلام..

وطالب القادة العسكريين أن يكونوا قدوة لضباطهم وجنودهم، ولشعوبهم، في المعارك، وما يقال للقادة العسكريين، يقال للقادة السياسيين، وطالبهم:

1 - بحشد سائر الطاقات المعنوية والمادية، وزجّها في المعركة.

2 - بالتوقف عن ضخّ البترول فوراً.

3 - بأن يفتح العرب على إسرائيل ثلاث جبهات: مصرية، وسورية، وأردنية.

4 - بأن تحشد سائر الدول العربية قواتها فوراً، وتنقلها إلى ساحات القتال بسرعة.

5 - بإعلان النفير العام في سائر البلاد العربية.

وأنهى كتابه الاستراتيجي هذا بخاتمة لخّص فيها توقّعاته قبل الحرب، وحدوث تلك التوقعات على أرض الواقع، ثم حاول التخفيف من وقع هذه النكسة، النكبة على العرب، ودعاهم إلى الصبر، والإعداد، والصمود، والإفادة من دروس المعركة، والتركيز على المعنويات، على العقيدة، على المبادئ والأخلاق، على أن يعودوا إلى الإسلام من جديد.. فنتيجة حرب حزيران كانت متوقّعة، فقد كان همّ اليهود الإعداد لحرب العرب، وكان همّْ العرب مقاتلة بعضهم بعضاً.. لم يصرف اليهود دقيقة من وقتهم في غير الاستعداد للحرب، وصرف العرب كل أوقاتهم في تخدير أنفسهم، وفي اللهو واللعب وتفرقة الصفوف. كانت إسرائيل تعمل، وكان العرب يقولون. وشتان بين الأعمال والأقوال.

لقد بدا اللواء خطاب –في هذا الكتاب كما في غيره –مفكراً استراتيجياً، مستقبلياً، ومثقفاً عميق الثقافة، واسع الاطلاع، نهم القراءة والاستماع، يطالع الصحف، ويقرأ المذكرات والكتب، عربية وأجنبية، صديقة ومعادية، ويستمع إلى الإذاعات المعادية، ويحلّل ما يقرأ ويسمع ويركب، ثم يستخلص النتائج بوعي، ويفهم دور العامل الاقتصادي، والسياسي، والمعنويّ في الحرب الحديثة، ومدى التغلغل اليهودي الاقتصادي في بلاد العرب والمسلمين، كما في أرتيريا عن طريق الحبشة..

إنه مفكر استراتيجي وكفى... قال عنه الكاتب اليهودي صاحب كتاب (الحرب بين العرب وإسرائيل: "إنه أكبر عقليّة إستراتيجية في العرب، ولكنّه كالنبيّ في الصحراء، لا يجد من يستفيد

         

(1) محمد المجذوب: علماء ومفكرون عرفتهم: 1/341.