من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة
من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة
للمستشار: عبد الله عقيل
عبدالله الطنطاوي
كتب الشيخ محمود عبد الحليم -يرحمه الله- كتابه الرائع: "الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ" بأجزائه الكبيرة الثلاثة، وكتب المجاهد الصابر والضابط المحتسب الأستاذ صلاح شادي رحمه الله كتابه القيِّم:
"حصاد السنين"، وكتب شيخنا الوقور الأستاذ عباس السيسي ما كتب عن تاريخ الدعوة، وكتب غيرهم من الأساتذة الأفاضل ما كتبوا في هذا المجال، ثم جاءت موسوعة الشيخ المستشار عبد الله العقيل الموسومة ب"من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة".. مكمِّلة لتلك الكتابات، وكان لها مذاق غير ما كان لتلك، لما لها من خصوصية الحركة، واللقاء، والتحاور، والغوص في الأعماق، والاستشعار، وما نجم عن كل ذلك من حبّ في الله، وأخوّة، سمت على حضارة الطين، ولقاء المصالح والرغائب الخسيسة، والأهواء الهابطة التي نراها في علاقات ناس "الدنيا" بعضهم ببعض.
كتب عن رجال أبطال، تنوَّعت عظمتهم، وتلوَّنت بطولاتهم بألوان الطيف الإنساني التي حباها الإسلام من التسامي ما زادها تألقاً... في زمن الغثائية، والمادية الطاغية.
برز أولئك العظماء حين شحَّ الرجال، وعزَّ ذوو البذل والعطاء، وتصدَّوا لألوان التخلف والفساد والطغيان، وعاشوا لله، ولدينهم، ولأمتهم، باعوا نفوسهم لله، وبذلوا أوقاتهم، وأموالهم، وجهودهم، بسخاء، واستهانوا بما يقتتل عليه الناس من المتع الدنيا، ولم يأبهوا بالإغراءات، وكانوا فوق كل ترغيب أو ترهيب، وحزنوا على الذين تساقطوا على مفترق الدروب والطرق، ممن استهوتهم الطواغيت في الأرض.
كتاب الدعوة والدعاة
حفل هذا الكتاب بخطرات دعوية رائعة، فكان بحق، كتاب الدعوة والدعاة، ولا يستغني عنه أخ جادّ في ميادين الدعوة، فهو يؤرخ للدعوة من خلال التأريخ للدعاة، ولكنه، على رغم جدواه، لا يغني عن المذكرات، ولدى شيخنا العقيل خزين كبير منها، ومن الذكريات التي تهمّ الدعاة إلى الله، ليستنيروا بها، ويفيدوا من تجارب من سبقهم، ولهذا نطالع في هذا الكتاب الموسوعة دروساً عملية للدعاة، تقيم لهم الصُّوى والمعالم، حتى لا يضيعوا في متاهات الحياة، ولتدلهم على الكيفية التي تكسبهم القلوب، من خلال الخبرات والتجارب. فالدعوة ليست مجرد كلام وخطب وكتابات، بل هي سلوك، وأخلاق، وتضحيات وإيثار، واعتبار، وتخطيط، وفن...
وقد برز في الكتاب الدور الكبير الذي كان للعقيل في مسيرة الدعوة والحركة، وإن جاء على استحياء، فقد كان العقيل يبذل من خاصة نفسه، ووقته، وجهده، وماله في سبيل الدعوة، إذ كان حركة دائبة، يستقبل الأضياف، ويسهر على راحتهم، وتأمين طلباتهم، ويصل هذا بذاك، كأفضل ما يكون الوصل والربط، ويشتري الكتب الدعوية، ويهديها لإخوانه، ولمن يتوسَّم فيهم الخير، ويرى في استمالتهم وضمهم إلى ركب الدعوة والدعاة، كسباً يحرص عليه، ويسعى إليه وفي سبيله... هذا وهو طالب ثم وهو الشاب الذي يدرج نحو النضج، ثم وهو واحد من الرجال الرجال.
أطلعنا الكاتب في موسوعته هذه، على كثير من الشؤون الإسلامية التي لا يعرفها أكثر الناس، حتى الدعاة، ومن خلال السّرد والذكريات، أبطل المقولة التي تزعم أن الإسلاميين عشوائيون، فوضويون، لا يعرفون التخطيط، ولا يهتمون به إذا عرفوه، فقد ذكر العقيل أن الشباب المسلم عام 1960م كانوا يفكرون ويخططون حسب الإمكانات، لإنشاء مكتبة إسلامية، فكانت مكتبة المنار الإسلامية، وفكروا في إنشاء بنك إسلامي... أي غير ربوي، فكان بنك دبي الإسلامي عام 1975م، وبيت التمويل الكويتي عام 1977م، ودحضوا زعم الزاعمين من العلمانيين وأشباههم، أن البنوك لا يمكن إلا أن تكون ربوية، كما ابتدعها اليهود المرابون.
من أجل هذا.. ومن أجل أن الجهاد لتحرير سائر أقطار العروبة والإسلام، شعار الحركة وطريقها الذي به وبغيره من الأهداف، نمت الحركة الإسلامية، وامتدت وانتشرت في أنحاء الدنيا.
حنين إلى ندوة الجمعة
وكم يحن الأخ المسلم في هذه الأيام العصيبة، إلى دارة تقام فيها ندوة كندوة الجمعة الأسبوعية التي يؤمّها الإخوان كل يوم جمعة في بيت العقيل، لنشر الوعي الإسلامي، من خلال تدارس قضايا الأمة الإسلامية، والدعوة إلى الله على بصيرة، وتلقى فيها الدروس والمحاضرات، وتُقام الندوات.
من خلال هذا الكتاب الموسوعة نعرف أن أبناء الحركة الإسلامية أبناء عصرهم، تعاملوا مع معطياته، فكان لهم إعلامهم ووسائله المتاحة: الجمعية، والكتابة في الصحف، وإنشاء الصحف والمجلات، والمكتبة والكتاب، ولم تتح لهم وسائله الأخرى الأهم: الإذاعة، والفيديو، والتلفاز، والمحطات الأرضية، والفضائية، والمسرح، والسينما.
الذي يطالع هذا الكتاب، يعرف أن الخير في أمة محمد إلى أن تقوم الساعة، فقد حفل الكتاب بالأبرار الأطهار الأحرار الذين يعيدون إلى الحياة سير عظمائنا من السلف الصالح، ولو كتب غيره من رصفائه، لأطلعنا على نماذج كهؤلاء سمواً ورفعة.
الذي يطالع هذا الكتاب البديع في بابه يقوم بسياحة فكرية، وروحية، وسياسية، واجتماعية، وثقافية، ويستفيد من خبرات الدعاة الوعاة، ويطلع على بعض جرائم الطغاة بحق الأخيار الأحرار، وبحق هذه الأمة... لأنه مكتوب بقلم رجل أمضى حياته مجاهداً في ميادين الدعوة، ومع الدعاة، وقدَّم ما أمكن تقديمه، فلم يبخل بمال، أو جهد، أو حياة شخصية، ولم يرجُ إلا الله فيما فعل ويفعل، ولم يخشَ سواه، ولم يرقب إلاَّه عزَّ وجلَّ في علاه يعمل بهدوء وصمت، وكم قيل لي في زياراتي للكويت ثم للسعودية أن ألقاه، ولكني كنت أوثر أن أسمع عنه، وأخشى، إن أنا التقيتُه، أن يتصرف أمامي وهو الموظف الكبير بما قد يجرح الصورة الوضيئة التي رسمها لي محبّوه وعارفو فضله، فلما ترك الوظيفة، بادرت إلى لقائه، فإذا هو فوق الصورة التي ارتسمت في العقل والقلب عنه، دماثة خلق، وإخباتاً إلى الله، وتواضعاً مع المؤمنين، وبذلاً وعطاء، وتضحية، وعلماً، وسعة أفق، وحباً للمسلمين من أي الأقطار كانوا، لأنه ذو نظرة عالمية، ولا يؤمن بإقليمية، ولهذا حفل كتابه برجال من شتى الأقطار... من إندونيسيا حتى المغرب الأقصى، وما بينهما من أقطار... كدأب الدعاة، فوق العصبية الإقليمية والقطرية والعشائرية... إنه مجاهد يتحدث عن مجاهدين... قدوة يتحدث عن قدوات، عرفوا معنى الحب في الله، والبغض في الله، والبذل في سبيل الله.. كاتب، ومفكر منتم إلى الإسلام، متميز بالوعي والإخلاص والحركة الدائبة لخدمة الإسلام والمسلمين، وعى زمانه، واستقامت طريقته، وأخلص عمله لله، فجاء مثمراً ندياً محفوفاً بالبركات، فأكسبه هذا معرفة بالرجال، وخصائص كلٍّ منهم، في مجالي الخير والجهاد... وعى ذلك بفؤاده الذكي، وذكائه اللمَّاح، وتجرده فيما يكتب بقلم عفّ، وعبَّر عمَّا يختلج في صدره من خواطر محلّقة، برغم واقعيتها التي عاشها حوادث، موشّاة بمشاعره الرقيقة، وذوقه الرفيع، مما جعلها تتغلغل في النفس الإنسانية عامة، والإنسانية المسلمة بشكل خاص، دونما استئذان.
إن ما كتبه العقيل يشكِّل وثائق ممهورة بصدق الوقائع، وصدق التعبير عنها في شفافية حقيقية لا تعرف التزوير الذي نراه ونقرأ عنه في كتابات المنافقين والمزوِّرين من كتّاب "الشفافية" هذه الأيام.
قبل أن يحين الحَيْن
إنني أدعو رجالات الحركة الإسلامية، ممن لقوا الإمام الشهيد، وتتلمذوا على يديه وعلى أيدي إخوانه البررة، وأيدي تلاميذهم أن يبادروا إلى كتابة ما اختزنته الذاكرة عن أولئك العظماء، قبل أن يحين حَيْنُ الواحد منهم، فيرحل، وترحل معه ذكرياته ومذكراته، وهي التاريخ الحقيقي لهذه الجماعة الخيِّرة، ولهذه الأمة المنكوبة بقوَّادها وكثير من مثقفيها.
إننا نودّع في كل يوم حبيباً من أولئك الشيوخ، وعندما نحاول رثاءهم، أو التعريف بهم، لا نجد المادة التي تؤهلنا للكتابة عنهم، فهم كانوا زاهدين في الأضواء، والإعلام الرسميّ والعلماني منحاز ضدهم، وأكثرهم يأخذ بوصية الإمام الشهيد، في البعد عن كتابة المذكرات، حتى لا تقع في أيدي "زوَّار الظلام" الفجرة.. وهذا صحيح من جهة، وغير صحيح من جهات، ونحن بهذا نترك المجال للأعداء والخصوم يكتبون ما تمليه عليهم أهواؤهم وضمائرهم المستترة، والمنفصلة، والمنحرفة... ونحن لا نعتب على أولئك، فهم خصوم متربصون، ولكننا نعتب على أصحاب القضية انصرافهم عن التأريخ لجماعتهم من خلال ذكرياتهم ومذكراتهم، متعللين بتعلاّت غير مقبولة.
من يستطيع الكتابة منكم فليكتب، ومن لم يستطع الكتابة فليضع المسجل أمامه، ويسجل بصوته ذكرياته عن الحوادث والرجال، ولو بصوت واهن، وإذا كانت لديه وثائق، فليسلمها إلى أصحاب الشأن، حتى يستفيد الكاتبون ويستفيد المؤرخون.
عودوا إلى من بقي من الشيوخ
إنني أرجو إخواننا الشباب النابهين في سائر الأقطار، وخاصة في مصر وسورية، أن يعودوا إلى من بقي من شيوخنا الكرام، وأن يعودوا إلى صحف الإخوان وكتاباتهم منذ التأسيس وحتى الآن، وخاصة في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، ويجمعوا ما كتبه القادة والمفكرون والأدباء والشعراء من أبناء الدعوة، لتكون لدى الدارسين موادّ موثّقة يستندون إليها في كتاباتهم.
وأخيراً... إننا نشدُّ على يدي شيخنا المستشار عبدالله العقيل، ونهيب به ألا يتوانى عن إصدار الجزء الثاني من هذه الموسوعة القيّمة، ولو تطلَّب هذا التفرُّغ لذلك، فنحن في عصر المشاغل والمتاعب وقلة البركة في الوقت، ولن يجدينا غير التفرغ والاستعانة بالأعوان من الشباب... نحن في سباق مع الزمن.. ومع الآخرين... ولا نريد أن نكون المسبوقين، مهما بلغت إمكاناتنا الماديّة من الضعف، وإمكاناتهم المادية من القوة، فهم يجدون ما يستعينون به علينا من مال يهيئ لهم ما يريدون، ومن نصرة الحكام، ولا نجد... إنهم يسبحون مع التيار، ونحن نسبح ضدّه... ومعنا الله، ومعنا إخلاصنا وتصميمنا وإرادة الجهاد في سائر الميادين.
وأخيراً:
ممّا بقي –وما بقي كثير- أن نعرف أن هذا الكتاب الموسوعة، في طبعته الثالثة (2003) وفيها زيادات وتنقيحات عن الطبعتين السابقتين اللتين نفدتا من الأسواق في أقلّ من سنتين، برغم آلافها الخمسة عشر، جاء –الكتاب- في 728 صفحة من القطع الكبير.