الأديب الكبير عبد الله الطنطاوي
الأديب الكبير عبد الله الطنطاوي :
السينما الإسلامية
أصبحت من الأولويات في العمل الإسلامي
عبد الله الطنطاوي |
نجدت لاطـة |
أقامت رابطة الأدب الإسلامي العالمية / فرع الأردن حفلاً تكريمياً للأديب الكبير عبد الله الطنطاوي على جهوده الكبيرة في خدمة وإثراء الأدب الإسلامي. وقد تخلل الحفل إلقاء الضوء على إبداعاته الأدبية المتنوعة، حيث شملت القصة والرواية والتراجم وكتابة السيناريو والنقد وأدب الأطفال. وقد آثرنا أن يكون الحوار حول إشكالية غياب السينما الإسلامية، لِمَا للسينما من أهمية كبرى في توجيه الأجيال.
· لاحظت ـ خلال حفل تكريمكم ـ أن لكم مساهمات في كتابة السيناريو الخاصة بالمسلسلات التلفزيونية، فأسأل ـ كمدخل للحوارـ ما أهمية السينما ، ولماذا غابت السينما الإسلامية عن الساحة الفنية؟
ـ لاشك أن للسينما دوراً كبيراً في توجيه الناس ، وأريد أن أرجع إلى الوراء إلى أيام الخمسينيات من القرن الماضي, وأذكر أن السينما استهوتني كما استهوت جبل الشباب،وكنت أرتاد السينما بين الحين والآخر على الرغم من كوني فتى ملتزماً وطالباً في معهد العلوم الشرعية. وكنا نتألم من عدم وجود أفلام إسلامية، وكانت في نفوسنا تساؤلات كثيرة عن أسباب غيابها.
وأذكر أني قدمت مشروعاً إلى جماعتي اقترحت فيه أن تقوم الجماعة بتوجيه الشباب نحو الفنون والآداب والعلوم الإنسانية, وقلت لهم: لماذا لا يوجد عندنا كتّاب سيناريو ومخرجون وممثلون.. ؟.
وأقول بصراحة إن مشايخنا وعلماءنا غفر الله لنا ولهم قصّروا في توجيهنا في جانب الفنون لا سيما السينما والمسرح، فلم يتنبّهوا إلى خطورة هذه الوسائل الجديدة، وتركوها للفئات الأخرى وهي فئات فاسدة مفسدة، فأفسدت الأوساط الفنية، حتى غدت مباءات منتنة للجنس الهابط، ثم انطلقوا ـ أي المشايخ والعلماء والدعاة ـ يصفون الفنانين والفنانات بما هم فيه من فساد وانحراف، ويدعون الشباب إلى الابتعاد عن تلك الأوساط، ويحذرونهم منها، وكان الأولى بهم أن يفكروا بالبديل الصالح، حتى لا يكونوا كذلك الأعرابي الذي قال: (أوسعتهم شتماًً وأودوا بالإبل ) فنحن نسبهم ونشتمهم، وهم يأخذون أبناءنا وبناتنا إلى تلك المفاسد.. نسبّ التلفزيون ونسميه( مفسديون ) والتلفزيون في كل بيت من بيوتنا.
· ألا يوجد بين القيادات الإسلامية من تنبّه في تلك الفترة إلى أهمية السينما في العمل الدّعوي الجماهيري؟
ـ أريد أن أرجع مرةً أخرى إلى الوراء إلى أيام الإمام حسن البنا رحمه الله، فحين وجد الإمام البنا تعلق الشعب المصري بالمسرح رأى أنه من غير المعقول أن نقف في وجه المسرح، وأن علينا أن نستخدمه وفق المفاهيم الإسلامية, ففي أواسط الثلاثينيات طلب الإمام البنا من أخيه عبد الرحمن البنا الاهتمام بموضوع المسرح، فتمّ تشكيل الفرق المسرحية وأنتجوا مسرحيات كثيرة وعرضوها في مسارح القاهرة. بل إن الأمر تعدى إلى أكثر من ذلك، فقد كانت تُعطى ـ أحياناً ـ بطولة المسرحية إلى الممثلين المحترفين والمشهورين، ويتم العرض في دار الأوبرا أكبر مسارح القاهرة. فكانت تُكتب لافتات تقول الإخوان المسلمون في القاهرة يُقدمون مسرحية عبد الرحمن الداخل بطولة كبار الفنانين والفنانات مثل الفنان زكي طليمات والفنانة أمينة رزق..) وكان عبد الرحمن البنا هو الذي يكتب سيناريو بعض تلك المسرحيات. وكانت هذه المسرحيات تُعرض في عدد من المدن المصرية.
· المشكلة أن نظرة الإمام البنا لأهمية المسرح غير معروفة عند أبناء الحركة, لذا وجدنا غياب هذا الفن في العمل الإسلامي.
ـ في الحقيقة كان الإمام البنا قائداً ملهماً ويمتلك قدرات غير طبيعية في التواصل مع الناس والتأثير بهم.
ومن هنا أقول إن من أهم أسباب اغتيال الإمام البنا أن الأعداء عرفوا خطورة هذا الرجل الذي يسبق عصره وإخوانه بعقود طويلة .
· لماذا لم يستمر النشاط المسرحي الذي بدأ في عهد الإمام البنا؟
ـ بعد اغتيال الإمام البنا رحمه الله دخلت الحركة الإسلامية في دوامة المحن والابتلاءات والاعتقالات, فتوقف النشاط المسرحي, وكان نشاطاً دعوياً وليس عبثياً.
· ولكن المحن والاعتقالات توقفت بعد مجيء الرئيس أنور السادات, وعادت الحركة إلى الدعوة والأنشطة, ولكن لم نجد عودة النشاط المسرحي. فما أسباب ذلك؟
ـ أقول وبكل صراحة, الذين جاؤوا بعد الإمام البنا لم يكونوا بنفس نضجه, ولم تكن لديهم نفس الرؤية لأهمية المسرح والسينما في توجيه الناس، كما أن الجراح التي أثخن عبد الناصر بها جسم الجماعة وبُناها التحتية كأنها لم تندمل بعد، ولم يكن المسرح والفنون عامة من أولويات الجماعة التي لم تتعاف بعد.
· على مستوى سوريا، كيف كانت رؤية الحركة الإسلامية للمسرح والسينما؟
ـ كان الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله مشغولاً بأمور كثيرة شغلته عن المسرح، فقد كان مدركا ًـ أيضا ًـ لأهمية مجاراة العصر والإفادة من معطيات الحضارة والمدنية معاً. فعلى سبيل المثال: عندما جاءت ظاهرة الرياضة وكرة القدم قام بفتح بعض النوادي الرياضية وألحق بها شباب الحركة. بصراحة: المشكلة في التخطيط والفقه الحضاري وفقه الأولويات.
· وماذا عن بقية القيادات الأخرى المرافقة للدكتور السباعي؟
ـ للأسف, لم يدركوا أهمية المسرح والسينما. بل كانا من المحرمات، وكذلك كان التلفزيون لدى بعض أصحاب التأثير في مجرى الحياة الدعوية.
· ألم تحدث بينك وبين هذه القيادات مناقشات صريحة حول أهمية المسرح والسينما في العمل الإسلامي؟
ـ كثيراً ما كنا نتناقش في ذلك ولكن دون جدوى.
· أنت كنت عضواً في القيادة، فلماذا لم تقم بجهودك الشخصية بإنشاء الفرق المسرحية؟
ـ لم يكن ذلك بالإمكان, لأن الأكثرية الساحقة في القيادة كانت ضد هذا التوجه, وخصوصاً أن النشاط المسرحي يحتاج إلى دعم مالي وتدريب الكوادر لإيجاد المختصين..
· المشكلة أن بقية الحركات الإسلامية سواء في البلاد العربية أو في تركيا أو في باكستان لم تقدم شيئاً في هذا الجانب.
ـ هذا صحيح, فالكل كان غائباً تماماً عن الأنشطة المسرحية والسينمائية، وقد أدى هذا الغياب إلى نتائج سيئة في العمل الإسلامي، فقد حُرمنا من التواصل مع قطاعات كبيرة من الناس لا سيما جيل الشباب، فالفيلم الواحد والمسلسل الواحد, يشاهده ملايين الناس، أكثر من جميع الذين يستمعون لخطب الجمعة ، على ما فيها من قصور.
· ألم تطرح على الأغنياء الملتزمين فكرة إنشاء مؤسسة فنية تهتم بالمسرح والسينما وإصدار أشرطة الفيديو؟
ـ طرحت على بعضهم ، والكل يعدك بأنه جاهز لدفع المبالغ المطلوبة، ولكن عند التطبيق العملي لا نجد أحداً. لذا تذهب كل الأفكار والمشاريع هباءً منثوراً، لأن الفن لم يكن في حسبانهم وليس من أولوياتهم. ولكن إخواننا المصريين كانوا السباقين في هذا المجال، فقد أسس فريق منهم مؤسسة الريحانة للإنتاج الفني والتوزيع في القاهرة، وقد شاهدت إنتاجهم المتميز في مسلسل ( أئمة الهدى ) ممثلاً تمثيلاً رائعاً، تحدّث هذا المسلسل عن الإمام البخاري، والإمام مسلم، وأبي داوود، والنسائي، والعز بن عبد السلام، وابن تميمة، وإني لأرجو أن يلقوا الدعم من الغيورين، ومن المحطات الأرضية والفضائية، فهذا عمل متميز ويختلف عن كل ما ُقدّم عن هؤلاء الأئمة وعن غيرهم.
· ما العقبات الحقيقية التي تقف في طريق إنشاء مؤسسة للسينما الإسلامية؟
ـ العقبة الأولى وهي الأهم:
ـ ضرورة تغيير نظرة القيادات الإسلامية نحو العمل السينمائي، فقد آن الأوان للدخول في هذا المجال لإنتاج الأفلام والمسلسلات والمسرحيات الإسلامية, لا سيما أن العمل الإسلامي اليوم في مرحلة إنشاء فضائيات إسلامية، وهذه تحتاج إلى وجود أفلام ومسلسلات ذات صبغة إسلامية تُنافس الأفلام والمسلسلات التي لا تعجبنا، نربّي بها ونثقف ونضع الحلول، بأساليب فنية ترفض المباشرة والوعظ الثقيل.
ـ توظيف جزء كبير من المال للعمل السينمائي.
ـ استغلال المواهب الفنية لدى الشباب الملتزم, وتنمية هذه المواهب وصقلها.
ـ تشجيع أبناء الحركة على دراسة الإخراج السينمائي وفن كتابة السيناريو والتصوير وغير ذلك مما يحتاجه العمل السينمائي والتلفزيوني الشريك للعمل السينمائي.
· هل تعني أن العمل السينمائي الإسلامي أصبح من الأولويات الأولى في العمل الإسلامي الحالي؟
ـ كان يجب أن يكون العمل السينمائي الإسلامي من الأولويات منذ زمن بعيد، والآن أصبح أكثر ضرورة مع عصر القنوات الفضائية. وإذا لم تخطُ الحركات الإسلامية نحو العمل السينمائي والقنوات الفضائية فسوف تحدث أضرار جسيمة في العمل الإسلامي، وسوف نخسر الكثير من قطاعات الشعب.
· أرجو أن تحدثني بصراحة، لماذا لا يوجد لرابطة الأدب الإسلامي دور أو مساهمات في كتابة السيناريو؟ ولماذا لا تنتقل الرابطة من الأدب المقروء إلى الأدب المنظور، وخصوصاً أن الأدب المقروء أصبح عديم الفائدة؟
ـ لا.. ليس عديم الفائدة.. الأدب المقروء له حضوره، ولكن لا ينبغي له أن يحول دون الأدب المسموع والمنظور خاصة.. الأدب المقروء صار محصوراً بفئةٍ قليلة من الأدباء والمثقفين، أدب نخبوي، والأدب المسموع والأدب المنظور لهما ساحاتهما الواسعة، إنهما أدب الشعب الآن.. أدب الجماهير العريضة, من المتعلمين والأميين، من الكبار والصغار، من النساء والرجال. وعلى رابطة الأدب الإسلامي أن تُعنى بهذا الأدب، وأن تُخطط له، وتبذل قصارى جهودها من أجل إذكاء جذوته في نفوس جيل الشباب. وهذا يحتاج إلى المؤمنين بأهمية هذا الأدب، ليبذلوا المال والجهد من أجل تحقيقه.. يحتاج إلى الكوادر المثقفة المتفرغة, وإلى المخططين. وإلى العاملين بصدق وإخلاص، الواصلين أيامهم عملاً وإتقاناً.. وهيهات.
· كيف نفعّل دور الرابطة في كتابة السيناريوهات؟
ـ كتابة السيناريو علم كسائر العلوم الجادة، ولا يُحصّل هذا العلم إلا بالدراسة الأكاديمية، وعمل الدورات التخصصية، والممارسة العملية الجادة.. وهذا يحتاج إلى إيمان بضرورة هؤلاء الكتّاب، وبالإنفاق السخيّ عليهم، وبإفساح المجال لإبداعاتهم في الفضائيات، وبتذليل العقبات التي تعترضهم. وأتساءل: أين الذين يفكرون بهذا، ثم ينفذونه؟ فالإحباط والروتين والرضا بالموجود، وليس في الإمكان أفضل مما هو كائن وكان..وإيثار الراحة على التعب، وعدم التخصص، وندرة المتفرغين.. كل هذه المعوقات تحتاج إلى تذليل. وأن أدعو معك، الرابطة إلى تذليلها.. فلدينا شباب متفتح. وأن أدعو أثرياء المسلمين أن يرعوا هؤلاء الشباب، ويدرّسوهم على حسابهم، وينفقوا على دراستهم العليا. أن يتبنىّ الغني أكثر من شاب ذكي متفوق، ينفق على دراسته الجامعية، وعلى دراسته العليا في الماجستير والدكتورة، وسيكون أجرهم عظيماً عند الله، وعند الأمة أيضاً.
· كيف تنظر إلى ظاهرة الفنانين التائبين؟
ـ لقد فرحنا كثيراً بتوبتهم، ونأمل أن تتحول خبراتهم الفنية الطويلة إلى خدمة دينهم فيقدموا أعمالاً سينمائية إسلامية.وعلينا نحن أن نقدم إليهم كل العون والمساعدة، وإن لم نفعل ذلك فسوف تضيع هذه المواهب، في حين نحن في أشد الحاجة إليها، ولن يتشجع الآخرون على السلوك المستقيم في سيرتهم الفنية.. نستفيد منهم في تربية الكوادر الفنية أيضاً، وهم يستطيعون إحراق المراحل وتذليل الصعوبات أمام الشباب المؤمن المتطلع إلى خدمة دينه وأمته عبر الفنّ الأصيل المتسامي فوق نزغات النفوس والشياطين.. لو وجدت هيئة للإفادة من هؤلاء الأحبة، والتخطيط لذلك، لكان لنا منهم كنوز.. وأن أدعوهم إلى بيان ما يمكن لكل واحد منهم أن يقدّمه اليوم قبل الغد، فنحن في سباق مع الزمن، ومع الآخرين، فلنستفد منهم قبل فوات الأوان، ولن يبخلوا هم بجهد ولا بنصيحة، ولا بعمل يحتسبونه عند الله تعالى.