"ملح هذا البحر" فيلم آن ماري جاسر

"ملح هذا البحر" فيلم آن ماري جاسر:

هوية في مصرف!!

لمى كحال

*الترحيل، السجن، القيود الحديدية في الأيدي. النهاية الحتمية لكل حكاية فلسطينية. النهاية السوداء التي لا مفرّ منها، مهما طال الهروب أو التخفّي، مهما اتسع الجرح، ومهما عظُم الحلم.

ثريا وعماد، بطلا فيلم "ملح هذا البحر" الفلسطيني، جمعتهما وحدة الحال على الرغم من رغباتهما المتناقضة. هي تحمل جواز سفر أميركياً، عادت إلى فلسطين لتعيش في وطن أجدادها. وهو فلسطيني ينتظر تأشيرة السفر إلى كندا، ليتخلّص من العذاب اليومي تحت الاحتلال الإسرائيلي. إلاّ أن المعاناة جمعت الاثنين، وسبب هذه المعاناة واحد: الاحتلال. أما الأزمة المطروحة، فهي، من دون شك، أزمة الهوية.

يمثل فيلم "ملح هذا البحر"، للكاتبة والمخرجة آن ماري جاسر، تجربة حسّية فكرية نفسية متكاملة، لا يستطيع المشاهد إلا أن يكون جزءاً منها. يقوم بدور البطولة فيه سهير حمّاد وصالح بكري، اللذان نجحا، بأدائهما المميّز، في التماهي مع ثريا وعماد، ومع كل ما يجسّد تركيبتهما النفسية والجسدية. والفيلم، الذي عُرض في مهرجان "كان" (فئة "نظرة خاصة") في أيار الماضي، بدأ عرضه في الصالات الفرنسية في مطلع أيلول الفائت (توزيع شركة "بيراميد" الفرنسية، وإنتاج جهات متعدّدة الجنسيات).

اللافت للانتباه أن عنوان الفيلم باللغة الفرنسية "le sel de la mer" (ملح البحر)، لا يتطابق بدقة وعنوانه بالعربية. ذلك أن العبارة الفرنسية المعتمدة أسلس من عبارة "le sel de cette mer"، كما شرحت المخرجة في مقابلة صحافية، مؤكّدة أنها ليست من انتقى العنوان بالفرنسية. أياً يكن، فإن البحر الذي قصدته جاسر في "ملح هذا البحر" هو البحر الأبيض المتوسط، وتحديداً البحر الذي تطلّ عليه فلسطين. البحر الذي يعيش فلسطينيون على بُعد كيلومترات عدّة عنه، وهم ممنوعون من الاقتراب إليه، بأمر المحتلّ. البحر الذي يمثّل حلماً يصعب تحقيقه.

يروي الفيلم قصة ثريا، فتاة فلسطينية وُلدت في بروكلين، وتحمل جواز سفر أميركياً. تقرّر أن تعود إلى فلسطين لتعيش فيها. تبدأ الأسئلة حول الهوية منذ وصولها إلى المطار، حيث تخضع لتفتيش دقيق ومهين، لكونها من أصل فلسطيني. تتحدّث عن فلسطين، وكأنها عاشت طيلة حياتها فيها، "إذا هم ما أعطونا حق العودة، فأنا أخذته لحالي". فأحياناً، يكون إيجابياً أن تحمل جواز سفر دولة أجنبية، لتدخل أرض وطنك الأم، الوطن الذي تنتمي إليه. لدى وصولها إلى رام الله، تطلب استرجاع المال الذي تركه جدّها في أحد المصارف. إلا أن طلبها يُرفض، بحجّة أن كل ما كان قبل النكبة ضاع. تلتقي عماد، الذي ينتظر الفيزا للسفر إلى كندا، لأنه تعب من الروتين اليومي الذي تفرضه الحياة في فلسطين بوجود المحتل. يُرفض طلب الفيزا للمرة الرابعة. ونتيجة للوقائع المتراكمة التي يعيشها الاثنان، يقرّران سرقة المبلغ الذي تستحقّه ثريا، والمساوي لما تركه لها جدّها، من المصرف، من دون طلقة نار واحدة. ينجحان في ذلك، ويعيشان بعد ذلك بضعة أيام متنكّرين على أنهما إسرائيليان. يختبران الحرية وانعدام الضوابط، ناعمَين بالامتياز الذي تمنحه لهما الهوية الإسرائيلية التي يدّعيانها. إلا أن هذه الحرية تبقى مطعّمة بالخوف والقلق، فهما أولاً وأخيراً فلسطينيان هاربان.

**قصة رمزية

تلعب الرمزية دوراً في تركيبة الفيلم. كأن المال الذي تريد ثريا استرجاعه من المصرف هو فلسطين نفسها. تردّد أن هجومها على المصرف لا يُعدّ سرقة، بل استرجاع حقّ لها. هذا ما يفعله الفلسطينيون يومياً، في كل لحظة من يومياتهم. هم لا يعملون إلا على استرجاع حقهم بالأرض والهوية. وهم يقومون بذلك من دون سلاح. سلاحهم الوحيد هو الحق. وهذا ما جعل ثريا تشدّد على تنفيذ خطتها، من دون إطلاق رصاصة واحدة. يتسم الفيلم بمشهدية عالية. إنه شديد الواقعية، أقرب إلى أن يكون فيلماً وثائقياً. تلتقط الكاميرا مشاهد من الحياة اليومية الفلسطينية. الناس في حركتهم اليومية، النمط العام للشارع الفلسطيني، الأسرة الفلسطينية، شرطي المرور، الحاجز الإسرائيلي، الفلسطينيون المعصوبو العيون، الراكعون على الأرض أمام الإسرائيليين. تخلق هذه المشاهد حالة خاصة، لا سيما أن المُشاهِد يشعر بتعطش لمشاهدة صورة حية منقولة من فلسطين. إلى جانب تجسيد روحية اللحظة الفلسطينية، تركّز جاسر على الوجوه، والدموع المختنقة داخل العيون، في محاولة لتسليط الضوء على تفاعل الأفراد مع روحية المكان.

من جهة ثانية، يستدعي "ملح هذا البحر" الحواس كلّها. فالأبطال يتلقّفون فلسطين بحواسهم، ويداعبونها بحواسهم. يخزّنون الذكريات بحواسهم أيضاً. العين، لرؤية البحر والطبيعة وشجر الليمون والضيعة الفلسطينية المنكوبة. تتوالد الذكريات أمام الأعين. الأنف، لشم روائح الليمون والأرض والحجارة. الأذن، للاستماع إلى صوت الهواء والأغاني والصخب اليومي. التذوّق، للتلذذ بطعم الليمون اليافاوي والفول والحمّص، وملوحة الماء. اللمس، لتلمّس الحجارة والتراب، ولتحسّس ماء البحر. أدّت هذه الحسية العالية في الفيلم إلى انصهار الأبطال مع فلسطينهم، والتحامهم بالبحر والهواء. وهذا ما يبرّر كثرة المشاهد الصامتة، التي حلّت مكانها مشاهد الاتحاد مع المكان والولادة فيه من جديد.

**جواز السفر

ما قيمة جواز السفر الذي يحمله الانسان؟ تخلص جاسر في فيلمها، إلى أن جواز السفر هذا ليس له أي قيمة، ما دام لا يمثّل هويتنا وانتماءنا الحقيقيين. إذ لا قيمة لجواز السفر الأميركي الذي تحمله، ما دامت اختارت العودة إلى وطنها، واسترجاع حقوقها الضائعة. لا قيمة له، ما دامت اختارت العودة إلى منزل جدّها القديم في يافا، والمطالبة باسترجاعه، وما دامت تأبى التخلّي عن فكرة أنها هي المالكة الحقيقية لهذا المكان.

لا قيمة لجواز السفر. فجواز السفر الحقيقي جسّده عماد وثريا في مشهد من الفيلم استلقيا فيه على حصير من قماش، أمام شباك حديدي في بيت مهدّم، في ضيعة "دوايمة" المنكوبة، مسقط رأس عماد. مجرّد التنعّم باللحظة، إحياء ذكرى مضت، العيش في الذكريات، هذه هي الهوية التي طرحتها آن ماري جاسر في "ملح هذا البحر". ونتيجة هذا الخيار الذي اختاره البطلان، وبعد الاختباء وراء هويات زائفة، أميركية تارة وإسرائيلية طوراً، انتهت الحكاية كنهاية كل حكاية فلسطينية. وُضعت القيود الحديدية في أيدي ثريا وعماد. هي، لترحيلها إلى حيث كانت، أي إلى أميركا. وهو، لإعادته إلى المكان الذي عاش فيه كل حياته: السجن.

(يعرض الفيلم في عرض خاص للصحفيين في سينما الميدان في حيفا، يوم الأحد 26/4/2009، الساعة السادسة مساء)