فيلم "العاصفة"
فيلم "العاصفة"
و قضية تغيّر الأجيال
بقلم : نجدت لاطة
شاعت في عقد التسعينيات فكرة ثقافة السلام، وكانت هذه الفكرة تتداول على ألسنة المثقفين، لاسيما اليساريين منهم، حتى إن أحدهم قال بلهجة خبيثة: في حال انفتاح الثقافة العربية على الثقافة الإسرائيلية فإن الثقافة الإسرائيلية ستذوب في الثقافة العربية. وقد احتج بأن ثقافتنا هي الأقوى. وقوله هذا حق ولكن أريد به ألف باطل .
وبقيت ثقافة السلام مقتصرة على هؤلاء المثقفين، فلم تنتقل ـ مثلاً ـ
إلى ألسنة الفنانين، لا في أعمالهم السينمائية ولا في مقابلاتهم الصحفية والتلفزيونية .
ولكن في السنوات الأخيرة من عقد التسعينيات بدأت ثقافة السلام تنتقل إلى خارج نطاق المثقفين، ولعل السبب الأوحد في هذه النقلة ـ وهي نقلة خطيرة ـ هو جريان ثقافة السلام على ألسنة الفنانين. فعلى سبيل المثال سئُل الفنان عادل إمام عن السلام وقضية التطبيع مع إسرائيل فقال: الألمان والحلفاء كانوا أعداء فصاروا بعدها حبايب، فليه ما نكون زيّهم مع اليهود. ورأينا الفنان نور الشـريف يُخرج مسـرحية "كفاح طيبة" ويقول عنها: أحببت أن أُري المشاهد العربي أن السلام يكون بعد الانتصار (يقصد انتصار العرب في حرب 1973) ويدلل على ذلك بمضمون المسرحية التي تدور أحداثها عن احتلال الهكسوس لأرض طيبة (وهي مصر) ثم حدث ما يشبه حرب الاستنزاف، ثم انتصار أحمس زعيم طيبة على الهكسوس وقيامه بطردهم، ثم قام بإجراء صلح معهم. وسئُل ـ أيضاً ـ الفنان فاروق الفيشاوي في مقابلة تلفزيونية عن فيلم "فتاة من إسرائيل" فقال: أحببنا أن نري المشاهد بأنه لا تطبيع مع إسرائيل إلا بعد عودة الحق العادل إلى أصحابه. وثمة فرق كبير بين (لا سلام إلا بعد عودة الحق العادل إلى أصحابه) وبين (لا تطبيع إلا بعد عودة الحق العادل إلى أصحابه).
أما سبب جريان ثقافة السلام على ألسنة الفنانين فلأن الفن السينمائي أسرع الوسائل إعلامية في توصيل الأفكار إلى الجماهير.
وفيلم "العاصفة" يلعب دوراً خطيراً في تهيئة المناخ الذي يسهل فيه انتشار ثقافة السلام التي هي في مجملها ترويض للجماهير العربية لقبول التطبيع مع إسرائيل. لأن الفيلم قدّم للمشاهد العربي جيلاً عربياً محطماً أكثر ما في استطاعته أن يفعله من أجل قضايا أمته أن يحرق العلمين الإسرائيلي والأمريكي، بينما كان في استطاعته في السابق الانتصار على إسرائيل في حرب 1973.
ومن هنا كان وصف التلفزيون السوري في برنامجه (إذا غنى القمر) للفيلم موفقاً، فقد وصفه بأنه ملامسة قاسية للواقع العربي المتمزق.
محور الفيلم
المحور الذي تدور حوله أحداث الفيلم هو تغيّر الأجيال العربية، والمقصود من هذه الأجيال جيلان اثنان، الأول: الجيل الذي صنع النصر في حرب 1973، والثاني: الجيل الذي عاش حرب الخليج الثانية 1991، حيث وجّه العربي سلاحه نحو أخيه العربي.
فإلى أي مدى تغيّرت الأجيال العربية؟ وهل تغيّرت إلى الأسوء كما ظهر في الفيلم؟ وهل المطلوب من الفن السينمائي أن يصف الواقع السيء بحيث يجعل المشاهد يقتنع بهذا الواقع، ويشعر معه بأنه لا مجال لأي تغيير نحو الأفضل؟
لاشك أن الأجيال العربية تغيّرت، وتغيّرت إلى الأسوء، وهذا لا يحتاج إلى دليل، لأن جيل 1973 صنع نصراً، و جيلنا الحالي صنع ويصنع ذلاً لا مثيل له، ولو أن الفنان عادل إمام قال مقولته ـ التي ذكرتها قبل قليل ـ في عام 1973 و ما قبلها لتمّ شنقه في أكبر ساحات القاهرة، بينما نجد مقولته اليوم لا تثير غباراً كثيراً ولا تنفجر عليه الصحف والمجلات.
وكان المطلوب من فيلم "العاصفة" الذي طرح قضية تغيّر الأجيال إلى الأسوء أن يقدم الحلّ لهذه القضية، أو أن يفتح للمشاهد نافذة يستطيع من خلالها أن يخطو نحو الحلّ أو نحو التغيّر إلى الأفضل. لأن الفن السينمائي ـ وسائر الفنون ـ له رسالة، وقد لخّص أرسطو هذه الرسالة بالتطهير، والتطهير يعني الانتقال نحو الأفضل مع الابتعاد عن السلبيات. بمعنى آخر أن الفنون بأجمعها ترتقي بالمتلقي وجدانياً وثقافياً ووطنياً وإنسانياً، لا أن تقدم له الواقع المرّ الذي يحطمه فلا يعرف طريقاً يسير فيه نحو الأفضل.
وفيلم "العاصفة" الذي هو من تأليف وإخراج خالد يوسف أظهر لنا جيل حرب 1973 وهو يقوم بعمليات فدائية ضدّ الصهاينة في منطقة قناة السويس، وكان متمثلاً بالفدائي حسن زوج المدرّسة هدى (يسرا) الذي جرح جرحاً بالغاً في تلك العمليات الفدائية. وتمرّ السنوات ويتغيّر الحال فنرى (حسن)يشاهد على شاشة التلفزيون الرئيس أنور السادات وهو يزور إسرائيل ويقيم سلاماً مع أعداء الأمس، ثم شاهد علم إسرائيل وهو يرفرف عالياً مزهواً فوق سماء القاهرة. فلم يحتمل حسن هذه المشاهد فيخرج من بيته ويترك أهله بلا رجعة. وهذا يعني أن الجيل الذي صنع نصر 1973 لم يعد له وجود بيننا، وإنما انقرض وذهب إلى حيث لا رجعة. وبالفعل فقد تمّ حذف شخصية حسن تماماً من بقية مشاهد الفيلم.
أما الجيل الثاني الذي هو جيل حرب الخليج الثانية 1991، أي جيل التسعينيات، فقد شمل عدة نماذج من المجتمع، بحيث يشعر المشاهد أن هذا الجيل يغطي كافة شرائح المجتمع، أو لنقل إنه يغطي الطبقة المهمة في المجتمع، لاسيما الطبقة المثقفة باعتبار أن المثقفين هم القوة الفاعلة في المجتمع ، وهذه النماذج هي:
1 ـ جيل الشباب الحائر الذي لا يجد لقمة العيش في بلده، فمنهم يتغرّب باحثاً عن هذه اللقمة، ومنهم من يعمل في الكباريهات كي يستطيع أن يتقدم لخطبة حبيبته. ثم يجد هذا الجيل نفسه في جبهات القتال، ليس في مواجهة الصهاينة وإنما في موجهة الأخ الذي من أمه وأبيه. الأخ المغترب في العراق ينخرط في الجيش العراقي الذي يحتل الكويت، والأخ الموجود في مصر ينخرط في الجيش المصري الذي يذهب إلى منطقة الخليج لتحرير الكويت. بمعنى أن الأخوان يتقاتلان، كل واحد منهما في جبهة وجهاً لوجه.
وقد مثل هذا النموذج الأخوان ناجي (الفنان هاني سلامة) وعلي (الفنان محمد نجاتي).
2 ـ طلاب الجامعة الذين رفضوا الوجود الأمريكي في منطقة الخليج، فخرجوا في مظاهرات عارمة تندد وتشجب. وأكثر ما استطاعت هذه المظاهرات أن تفعله هو إحراق العلمين الإسرائيلي والأمريكي، الشماعة التي نضع عليها كل سخطنا من إسرائيل وأمريكا، شريطة ألا يتجاوز هذا السخط عملية إحراق العلمين. وقد مثل هذا النموذج الطالبة حياة (الفنانة حنان الترك) وطلاب الجامعة وبقية المتظاهرين.
3 ـ أستاذ الجامعة الذي رفض الروح الثورية لدى طلاب الجامعة.
4 ـ رجل الأعمال (الفنان سامي العدل) الذي وقف حاجزاً منيعاً أمام ابنته حياة، بل وحاول أن يقتل الروح الثورية الموجودة في ابنته. والأسوء من ذلك أنه استطاع أن يقيم الحجة على ابنته بأنه لا مجال إلا بالرضوخ لأمريكا، فلم تجد ابنته ذات الروح الثورية ردّاً عليه.
هذه النماذج الأربعة كوّنت صورة الجيل الجديد، جيل حرب الخليج الثانية 1991، وقد كانت نماذج سلبية تحمل روح الانهزام. وهي برمتها تكوّن صورة سوداوية قاتمة تقتل كل بصيص أمل عند المشاهد العربي للخروج من الواقع الذي نعيشه.
فطريقة تناول فيلم "العاصفة" لإشكالية تغيّر الأجيال أوصلت المشاهد إلى نتيجة محتومة وهي أن الجيل السابق الذي صنع نصر 1973 لم يعد له وجود، وأن على جيلنا الحالي أن يرضخ للظروف الدولية، و إذا ما قيل له أطلق الرصاص على أخيك العربي فعليه أن يطلق، لأن الظروف الدولية تحتّم عليه ذلك.
وقد يعترض عليّ معترض فيقول بأن الفن السينمائي ليس من مهمته إيجاد الحلول لقضايا المجتمع، و إنما عليه أن يثير الإشكاليات ويبصّر المشاهد بها لِيتولد في نفسيته ردة الفعل فيعمل للتخلص منها.
فأقول إن إثارة الإشكاليات هي جزء من مهمة الفن السينمائي وليس كل مهمته، أما الجزء الآخر فهو مساعدة المشاهد في إيجاد الحلول، كأن يطرح الفيلم أحد الحلول، ويأتي فيلم آخر ويطرح حلاً آخر.. وهكذا، ويزداد عدد الحلول كلما كانت الإشكالية من الإشكاليات الكبرى التي تهم كل أفراد المجتمع.
وأؤكد على أن إيجاد الحلول هو جزء مهم من رسالة الفن السينمائي، لأن كتّاب السيناريو هم من الطبقة المثقفة في المجتمع، وهم أيضاً من طبقة الأدباء، وعليهم كما على بقية المثقفين إيجاد الحلول. وهل يُعقل أن نقول لأسامة أنور عكاشة ووحيد حامد وفيصل ندا وغيرهم من كتّاب السيناريو أن عليكم إثارة الإشكاليات ثم الانزواء جانباً لكي يبحث المجتمع عن حلول تلك الإشكاليات؟ وما المانع من أن يشارك كتّاب السيناريو في إيجاد الحلول؟
ولماذا لا يستغلّ كتّاب السيناريو الروح النضالية لدى أهالي منطقة قناة السويس المعروفين في تاريخهم الطويل بمقاومة المستعمر، فيجعلوا من أهالي السويس حزب الله المصري، شأنه كشأن حزب الله اللبناني الذي أعاد لنا شيئاً من الثقة بأنفسنا في انتصاره في الجنوب على الصهاينة. وهل أصبح اللبنانيون هم فقط أبطال هذه الأمة، وتراجع المصريون وأصبحوا لا يجيدون إلا صنع السلام مع إسرائيل؟
وكان على فيلم "العاصفة"أن يستغلّ شخصية (حسن) الذي ينتمي إلى منطقة السويس، ويجعلها في مقابل الشعوب العربية التي أصابها الذلّ والهوان، بحيث يجعل هذه الشخصية باقية طيلة مشاهد الفيلم، فتتركز في ذهن المشاهد معاني النضال والرفض للواقع الذي نعيشه.