"وبكره تشوفوا مصر".. حين تجسّدها الدراما

نعم.. لقد وعد فأوفى.. ففي كل يوم يمرّ على إخواننا المصريين في عهد الانقلاب، يرون ونرى ملمحا جديدا لمصر التي ينشدها صاحب العبارة (المسخ)..

لا يزال يُبهرنا بترجمة هذه الكلمة الرهيبة التي تُشعر من يسمعها (عدا السيساوية) بأن الرجل يأخذ المصريين إلى المجهول.

ومع بداية شهر رمضان، لمحتُ من خلال متابعتي للشأن المصري عن طريق وسائل الإعلام أو إخواني النشطاء على أرض مصر، بعض المشاهد الجديدة في مصر في عهد الانقلاب، التي لا تخلو من دلالات وإشارات.

فما هو الجديد في رمضان على أرض مصر في عهد السيسي؟

لن أتناول دخول شهر رمضان مع هذا الكم الهائل من أحكام الإعدام التي أُصدرت بحق الشرفاء.

ولا مع عدد الأسر التي تجتمع على مائدة الإفطار، وهناك موضع أحد أفرادها أصبح خاليا، لا لشيء إلا لأن صاحبه تحت التراب أو خلف قضبان السجون أو مهاجرا بسبب معارضته لنظام الطاغية.

ولا مع الارتفاع الجنوني للسلع الأساسية وفواتير الكهرباء والمياه والغاز، التي يقتطع لها المواطن البسيط من طعامه.

ولن أتناول ما تقوم به الكنيسة من تبنّي موائد الإفطار للصائمين بصورة مكثفة، بعد أن أغلق السيسي الجمعيات الخيرية الإسلامية التي كانت تقوم بهذا الدور، ليترك المصريين عرضة للتنصير.

* بل أتناول عملا دراميا يُعرض في هذا الشهر في مصر بعهد السيسي يترجم عبارته العبقرية الأولى "وبكره تشوفوا مصر".

استمرارا لتسييس الفن والدراما المصرية، وتطويعها في خدمة أهداف النظام، خرجت علينا الفضائيات بمسلسل مصري بعنوان (حارة اليهود).

المتابع للدراما المصرية يدرك أن الأعمال التي قدمها التلفزيون المصري وتناولت الكيان الإسرائيلي أو الطائفة اليهودية، كانت تدور حول الصراع العربي الإسرائيلي، وتبرز الصهاينة في صورتهم الحقيقية التي يعرفها كل العالم وتُترجم إلى واقع من المؤامرات والدسائس والعدوانية والظلم.

فكل البلدان العربية تابعت في الماضي مسلسل رأفت الهجان، ومسلسل فارس بلا جواد، وقد ركزّا على بروتوكولات حكماء صهيون وخطة السيطرة على العالم ابتداء بفلسطين، وهو ما احتج عليه الجانب الإسرائيلي.

وكان هذا هو المتوقع للعمل الدرامي الذي بدأ عرضه في رمضان (حارة اليهود) بدليل أن "ماجدة هارون" رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، قد هدّدت برفع قضية ازدراء أديان على صُنّاع المسلسل، إذا وجدت كلمة أو مشهدا يُسيء لليهودية.

*لكنَّ المسلسل المذكور خالف توقعات الطائفة اليهودية، وتوقعات الجميع، حيث أن المسلسل يبرز اليهود في مصر بصورة طيبة، ويبتعد عن نقاش الاتهامات لهم بلعب دور خياني في دعم قيام دولة الاحتلال في العام 1948.

وقد استقبلت الدوائر السياسية والإعلامية الصهيونية هذا المسلسل باحتفاء كبير، وهذه بعض المواقف بهذا الخصوص:

*كان نص ما نشر على صفحة السفارة الإسرائيلية: "لقد شاهدنا في سفارة إسرائيل أولى حلقات المسلسل المصري "حارة اليهود"، ولقد لاحظنا لأول مرة أنه يُمثّل اليهود بطبيعتهم الحقيقية الإنسانية، كبني آدم قبل كل شيء، ونبارك على هذا".

وأما صحيفة Time Of Israel، فقد تناولت الحديث عن المسلسل بسعادة بالغة، وأكدت أنه "أخيرا سيظهر اليهود بشكل مختلف عما اعتاد عليه المصريون في شهرهم الفضيل، فجرت العادة أن يظهروا بشكل الأشرار كما حدث في 2002 بالمسلسل التاريخي "فارس بلا جواد" الذي استند على "بروتوكولات حكماء صهيون" وتسبب في سحب السفير الإسرائيلي من مصر، أو كما قدم عادل إمام مؤخرا في 2012 بمسلسل "فرقة ناجي عطا الله".

*إن عرض مثل هذا العمل الدرامي على هذا النحو، لا يمكن النظر إليه بمعزل عن موقف زعيم الانقلاب وعلاقته بالحكومة الإسرائيلية:

السيسي حقق أمنية إسرائيلية عزيزة وهي القضاء على الإسلام السياسي في مصر وإضعاف التيار الإسلامي بصفة عامة، باعتباره يمثل الخطر الحقيقي على الكيان الإسرائيلي، وأنقذها بالانقلاب والمذابح من خطر حكم جماعة الإخوان المسلمين التي خرجت من رحمها حركة حماس.

وعلى هذا الأساس أصبح السيسي بطلا قوميا في إسرائيل، وتنادي النخب السياسية بدعمه.

كما لا ننسى أن السيسي بالتآمر مع السلطة الفلسطينية أطبق الخناق على المقاومة في غزة، وأحكم الحصار حولها، وهدم الأنفاق، وهجَّر سكان رفح، بمعنى أنه قدم للكيان الإسرائيلي ما لم يكن يحلم به.

*ولا يمكن كذلك الحديث عن هذا المسلسل دون النظر إلى الثورة على النصوص الإسلامية التي أطلقها السيسي في احتفالية ليلة القدر، عندما دعا إلى النظر إلى النصوص الشرعية بنظرة جديدة، تتفق مع السلام العالمي المزعوم، في اتّهام ضمني للإسلام بأنه يحضّ على العنف والتطرف، وأنه لا بد من إسلام عصري بديلا عنه.

*وتبع ذلك التصريح محاولات فجّة عبر وسائل الإعلام للطعن في ثوابت الدين، بالإضافة إلى التضييق على الأنشطة الإسلامية الدعوية في المساجد تحت مظلة القضاء على التطرف والإرهاب.

*هذا المسلسل يتابعه الإسرائيليون بسعادة، لأنه يمثل دلالة على نجاح محاولات التطبيع التي تجري على قدم وساق.

يحاول النظام من خلال هذا العمل إظهار التسامح والتعاطف مع الصهاينة، وأن مصر ليست دولة عنصرية، متغاضيا عن كون الصراع بين العرب و"الاسرائيليين" سيبقى قائما ما دامت فلسطين محتلة والأقصى أسيرا.

تأتي هذه اللمسة من التسامح والتقارب والحوار بين الأديان، في ظل سياسات السيسي وفريقه القمعية ضد أبناء هذا البلد الذين أُوذوا وتمّ التنكيل بهم لا لشيء إلا للمطالبة بحقوقهم المشروعة.

فكيف يستقيم يا هذا أن تظهر التسامح مع الأعداء في ظل عدوانهم وبطشهم، في الوقت الذي لا ينال منك بنو جلدتك سوى كل أذى وقهر واستبداد؟

لكنّك قلت من قبل ووفّيت: "بكره تشوفوا مصر".