الإعدام بعد الإفراج
من الحياة اليومية لمواطن سوري
هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي قصة حدثت معي شخصياً وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان. هذه قصة شابين، أحدهما من أبناء حارتنا والثاني صديقي من أيام المدرسة الابتدائية والثانوية، حيث تم القبض عليهما في النصف الثاني من السبعينيات بتهمة الانتماء لجماعة الاخوان المسلمين.
كان ابن حارتنا قد ترك الدراسة بعد إنهائه المرحلة الاعدادية حيث اكتشف بأنه لايميل إلى الدراسة أو التحصيل العلمي، فتفرغ لمساعدة والده الذي كان يمتلك مزرعة في ريف دمشق. كان الشاب في بداية العشرينات من عمره حين تم القبض عليه من قبل المخابرات، وانتشر الخبر سريعاً في الحارة وتعاطفت كافة الأسر مع أسرته التي فوجئت بالتهمة الموجهة لابنها لأنه لم يكن متديناً بأي مقياس، ولكن لم يكن لديها ماتفعله حيث أن المعتقلين السياسيين في سورية لايحق لهم توكيل أي محامي ولايحق لأهلهم مقابلتهم. وكانت الدولة عملياً تستفيد من هذه الاعتقالات أيضاً كمصدر رزق وتجارة حيث يتم ابتزاز الأهل بسحب المبالغ الطائلة منهم بتأميلهم إما بمعرفة مكان أبنائهم أو بترتيب زيارة لهم أو إعلامهم بتاريخ الافراج عنهم، ليكتشفوا فيما بعد أنهم إنما دفعوا تلك المبالغ مقابل كذبات لاأكثر ولاأقل.
الشاب الآخر كان يدرس في كلية الطب في دمشق وكان لم يتخرج بعد حين تم القبض عليه بنفس الطريقة حيث اختفى أثره ولم يفلح أهله بمعرفة مكانه. من القصص التي سمعوها ودفعوا ثمنها أن سبب القبض عليه هو الاستفادة من معلوماته الطبية لمعالجة المساجين الاخونجيين في سجن تدمر السئ الصيت، وأنه سيتم الافراج عنه قريباً لأنه غير متهم بشئ! طبعاً لم يصدق أهله القصة كما لم يصدقها أحد، إذ لايمكن أن تمنع الزيارة عن شخص غير متهم ولمجرد أنه يعالج سجناء سياسيين. كان هذا الشاب بالذات من الطلاب المتفوقين في إبتدائية صقر قريش وبعدها في ثانوية ابن خلدون، حيث صدف أن كنا معاً في نفس الشعبة في بعض سنوات المدرسة، إلى أن افترقنا في المرحلة الجامعية. كان متديناً ولكن ليس لدرجة التطرف التي كانت تميز أفراد الاخوان، ولهذا فوجئ جميع من كان يعرفه بخبر إعتقاله.
بعد حوالي الثلاث سنوات، تم الافراج عن الشابين بواسطة (عفو رئاسي ومكرمة من الأب القائد). فرح الجميع في الحارة لعودة جارهم إلى بيت أهله، فسلمنا عليه وعانقناه وقبلناه وهنئناه بالخروج من المعتقل. لاحظ الجميع أن الشاب لم يكن نفس الشاب الذي عرفوه في السابق، فهو أصبح قليل الكلام، منطوياً على نفسه، دائم الوجوم، تشعر بالنظر إلى عينيه أنه غارق في عالم غير عالمنا. كان دائماً يتجنب الكلام عن تجربته في المعتقل، أو حتى عن مكان إعتقاله، حتى أنه اعتذر مرة عن الاجابة عن أحد الأسئلة وقال بصراحة أنهم هددوه قبل الافراج عنه بأنهم سيعيدوه إذا عرفوا أنه تكلم عن حياته خلال سنوات السجن، وقالوا له بأن لهم (آذان مزروعة في كل مكان حتى في الجدران). لم يمض اسبوع على الافراج عن الشاب، حتى بدأت صحته بالتدهور، وبدأ يفقد وزنه بصورة تدريجية وكأنه مصاب بالسرطان أو بمرض مشابه إلى أن فارق الحياة بعد أقل من شهر. كنا نقف في مدخل بنايتهم قبل أيام من وفاته وسألته عن صحته، وكان معنا عدد من أبناء الحارة، فقال بلهجة من يعرف أنه سيموت قريباً وبالتالي لم يعد يرهبه شيئ، قال أنهم كانوا في المعتقل يجرون عليه وعلى بقية المساجين، كما على الحيوانات المخبرية، تجاربا لمواد جرثومية يحقنون بها بواسطة إبر أو جرعات بهدف إيجاد أدوية مضادة لها. وأضاف أنهم كانوا حين يكتشفون أن المعتقل قد أصيب بعلة قاتلة ولا أمل منه، يحقنوه بكمية مضاعفة من تلك المادة ويفرجون عنه ليموت خارج المعتقل، فيبدو موته وكأنه لأسباب طبيعية وليس من تلك التجارب الجرثومية المحرمة دولياً.
أما صديق الدراسة فقد فرحت أيضاً أسرته وأصدقائه بالافراج عنه، وأثناء زيارتنا له سألناه ماذا سيفعل لاحقاً، متوقعين منه أن يكون قد رتب أموره لمغادرة البلد، إذ من يعتقل مرة في سورية، سيعود إلى المعتقل في أول مناسبة. ولكنه فاجأنا بقوله بأنه سيعود إلى الجامعة ليتخرج طبيباً ويمارس المهنة، وأنه واثق بأن تجربة السجن قد باتت ورائه وأنه لايتوقع لها أن تتكرر. لم تمر فترة زمنية كافية لتثبت أن الشاب كان مصيباً أو مخطئاً في ثقته تلك، إذ فارق الحياة بعد فترة قصيرة من الافراج عنه حين دهسته سيارة شحن (زيل) عسكرية بالقرب من الجامع الكويتي في دمشق. ولما لم يتوقف السائق، سجلت الحادثة (ضد مجهول) دون أي تحقيق ولا معرفة ماحصل. طبعاً إذا كنت سورياً، فسوف تعرف أن من قتل طالب كلية الطب هو نفسه من قتل ابن حارتنا، هو نفسه من تغول بدم الشعب السوري لحوالي النصف قرن. أنا شخصياً من معارضي هيمنة الدين، أي دين، على السياسة والحكم. ولكني أيضاً أومن بأن لأي معتقل، بغض النظر عن توجهاته السياسية أو الدينية، الحق في الدفاع عن نفسه علناً وأمام المحاكم المختصة.
هذه هي سورية الأمس واليوم للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا). ففي (سورية الأسد) تعمل الدولة كعصابة مافيا، حيث القاضي هو الجلاد، ولاأحد من الشعب يأمن على نفسه أو على أفراد أسرته من القتل أو السجن، وما هاتين القصتين إلا نقطة من بحر القصص المشابهة والتي ماخفي منها كان أعظم.
وسوم: العدد 766