الحمل والطلاسم ورائحة دخان
كانت رائحة دخانٍ تُشتَمُّ من بيت أحد الجيران. ورائحة خبزٍ لذيذةٍ تتبعها فتُعطّر سماء الحارة بكاملها. ولا تزال كلمات صاحبات أفران، يفضّلن الخبز على فرن الحطب في كلّ صباح، تنتشر في مجالس أهل البلدة. كل جديد، فيه ضرر كبير ولا يصبّ إلا في مصلحة كبار التجار. والخبز البلديّ لا يُعلى عليه.
تمنّت لو تتصدّق عليها فرّانة برغيفٍ ساخن ينسيها سنوات دراسيّة خلت بسرعة كانت كأنها سحابات صيف عابرة.. ولداها التوأمان كانا صغيرين، وها هما قد بلغا سنًّا يؤهلهما دخول مدرسة.. والتفكير بالإنجاب من جديد، والذي داهم مخيّلتها، نابع عن عادات قديمة موروثة. أّوَلَيْسَتْ كلّ العادات موروثة؟ ليس مجرد إنجاب من أجل الإنجاب، إنما لمسلّمات لا يمكن الاستغناء عنها، ثمّ لا بد أن يأتي أخٌ صغيرٌ يشارك التوأمين الحبّ، ويرافقهما في اللهو. يتقاسم معهما ميراث المستقبل، ثمّ يحمل اسم العائلة الكريمة -كما يقولون؟ صحيح أن الإنجاب في هذه الأيام مسألة صعبة، إذ يتطلب التخطيط لها على أكمل صورة، ولكنّها أرادت في الحقيقة أن تنجب نكاية في سلفتها. أما هو فيقول لها باستغراب:
-أجننتِ؟ تريدين أن ننجب طفلاً آخر؟ هل تعلمين أن الأجانب اليوم يكتفون بولد واحد أو لا ينجبون؟".
- الآن تفرّغتُ للعمل وللأبناء وانتهيت من دراستي وأصبح في مقدوري الاهتمام بطفل صغير آخر. اشتاقت لبكاء الأطفال ورائحة صراخهم واحتضان كيانهم، كما تقول. صلّت الفجر، ودعت الله لعلّه يرزقها طفلا أجمل من أخويه. وإلحاحها المتكرر ومحاولات الإقناع جاءتها بنتيجة إيجابية مع انبعاث رائحة الخبز وانتشارها في الفضاء الواسع. وإزالة العوائق الطبيّة هي مسألة وقت اتفق الطرفات عليها بكل رحابة صدر.
سنوات أخرى مضت ولم تحمل. الشكوك راحت تراودها وتقض مضجعها. إذا كانت هناك أية مشكلة صحية تكفي لأن تكون عائقًا أمام الحمل المرغوب فيه، فإن الفحوصات اللازمة أكّدت أن لا عائق لدى الطرفين.
الشعور بالخبيبة ظلَّ يلازمها في كلّ وقت، لكن الاستسلام في هذا المجتمع غير مرحّب فيه؛ لأن الخيارات الأخرى المتوفرة كثيرة ومتنوعة. الشيوخ كثيرون وكتب الأدعية لا حصر لها، وقراءة القرآن في الأسحار باتت لا تتوقف، وماء زمزم المقدّس يمكن جلبه في كل وقت.
قال لها أحد الشيوخ ذات مرّة، وكانت قد تسللت إليه خفية برفقة جارتها، لأن زوجها لا يؤمن بمثل هؤلاء الشيوخ، ولا يؤمن بالعلوم النقليّة بتاتًا، ولو علم بالأمر لأقام الدنيا ولم يقعدها، ودفعت له مبلغًا وقدره: "قد يكون هناك جنّيٌّ يحول بينك وبين الحمل ولذلك ينبغي أن ترشي الدّار بالماء والملح وتقرئي سورة البقرة كلّ يوم".
كلّ شيء صار يطاردها في صورة شبحٍ وفي كلّ مكان. قلق مستتب، أحاسيس صارمة، خلايا أفكار غريبة كانت نائمة فاستيقظت وترعرعت وراحت تكبر شيئًا فشيئًا.
ذات يوم صيفيّ حارّ بينما جلست "نهى" في غرفتها شعرت بالاختناق من الموكيت الذي يغطي أرض الغرفة. إزالته كليًّا والتخلص منه عسى أن تقل من حرارة الغرفة بضع درجات، أمرٌ غير مفروغ منه. ورفع الفرشة من فوق السرير، أمرٌ في غاية السهولة مهما كان وزنها أو حجمها. لم تكن هذه المرة الأولى التي ترفع فيها فرشة كبيرة بهذا الحجم.
ولكنّ الصعوبة في تفسير ما وجدته تحت فراشها، جعلها تفكّر ألف ألف مرة الغاية من وضعه في هذا المكان بالذات، وتطيل التفكير في زمن وطريقة وضعه. كان على هيئة مثلث من خيش مغلف بعدد كبير من الورق اللاصق. والغريب في الأمر أن زوجها حين سئل إن كان هو صاحب الشأن أصيب بالذهول ونفى بشدّة أية علاقة له به.
وفُتح الشيء.. فيه بضعة شعرات وفحم وكتابات غريبة وطلاسم لم تفهم منها شيئًا. الحيرة أصابتها وانتابها خوف غريب من المجهول. وضعته في الطابق العلوي في الخزانة كي لا يصل إليه أحد من الأولاد، ثمّ كان الانشغال والنسيان.
زارتها أختها ذات ضحى يومٍ صيفيّ، وكانت رائحة الدخان تبعث من الأفران، فقدّمت لها فطورًا فيه خبزٌ عربيّ محمّر، وبيض مسلوق ولبن وزعتر. ما إن استفسرت منها عن نتائج الفحوصات والتحاليل التي أجرتها قبل شهرين لمعرفة أسباب عدم حدوث الحمل، حتى تذكّرت ما وجدته تحت فراشها ووضعته في الطابق العلوي في الخزانة، فانطلقت تجري كالمجنونة كي تتفقده لتعرف إن كان لا يزال في مكانه. قالت لها أختها بصوتٍ فيه صبغة من الغضب: "أنتِ إنسانة مجنونة. كيف تتركين شيئًا كهذا في داخل بيتك؟ ألا تعلمين أن المشعوذين والسحرة من السامريين يملأون البلاد من شرقها إلى غربها. ووجوده يسبب لك ولعائلتك الأذى دون أن تدري. ومن المؤكد أنه السبب في عدم قدرتها على الإنجاب من جديد. ويجب إبطال مفعوله حالًا".
لم تكن تؤمن "نهى" يومًا بالسحر ولا بالسحرة، ولا تؤمن بأن للسحرة القدرة الخارقة على تغيير قضاء الله وقدره. أوليس من الأولى ألا يؤمن المثقفون بالخرافات والأساطير التي غرقت فيها الأمّة كلّها؟ ثمّ أوليس الذي يسترقّ السمع من الجنّ ويخطف الخطفة يتبعه شهاب ثاقب؟ وبإلحاح من أختها أحضر الملح والإناء ومليء بالماء الساخن. وقُرئت عليه آيات إبطال السحر، ودُعيت الأدعية من أجل حماية الأحباب والأقارب من كلّ عين لامّة وكل شيطان وهامّة. ووضع السحر فيه وسكب الماء على التراب. مرّ على الحادثة شهر كامل، إذ شعرت ربّة البيت، بعد تناولها كسرة من رغيف خبزٍ حارٍّ، بالغثيان ورغبتها بالتقيؤ. وكانت نتائج التحاليل تبشرها عصر ذلك اليوم بحملٍ جديد. ومنذ ذلك اليوم صارت تؤمن أن للسحرة قدرة خارقة للسيطرة على الآخرين.
وسوم: العدد 767