المقامة اللُّغَزِيّة
حكى نبهان بن يقظان قال: بينا أنا أجول في سوق النبي يونس، وحال الناس رائق مُونِس. قد فتنهُ ربيع الموصل، ولَنِعم المنزل والموئل. إذ ألفيتُ جمعا من الظرفاء، وأهل البيان الفصحاء. يتذاكرون منظوم الكلام ومنثوره، مسموعه ومنشوره. يروُون الأخبار، وقصص الأحبار. ويستذكرون الأنساب، وذوي الأحساب. ومَن علا من أهل القريض قدُره، ومَن خمل من القوم ذكرُه. ويتقلّبون بين جدّ وهزل، ونكث وغزل. وبينا هم كذلك إذ قام ظريف يطلب من يجاريه، ويناظره ويباريه. ثم قال: كنت بداري، فدقّ جاري. قلت تفضّل، قال تمهّل! هل لك في تفاحة برائحة البصل، وعسل ليس كالعسل؟ وماء لا يروي، وبقل لا يذوي؟ أبَلغَكُم خبرُ شمس لا تغيب، وسهم لا يصيب؟ ما هو بسهمِ الفرّاء، كاشفِ الضرّاء. فلا هو يسبق الخيلَ بالرَّدَيان، ولا هو ذو ثلاثِ آذان. فقال القوم لك هذه. ثم قام آخر فقال: أرأيتم مالًا لا ينفد، وسخنا لا يبرد؟ وثوْبا لا يخلَق، وقوما من شر ما خلق؟ ورزقا لا يربو، وصبيا لا يحبو؟ وقوما في نعيم، وأزواجهم في جحيم؟ وتجارة لا تبور، وماء لا يغور؟ فتحيّر القوم فقام ثالثهم فقال: مَن قرينٌ حاسد، على عمل فاسد؟ وأعمى كالبصير، وبصير كالضرير؟ ألا إن الأعمى إذا رمى، لا يَميز الأرضَ من السما. فلما توقف القوم إذا برابعهم يقول: رجل من بني هلال، نسبه إلى ابن زلاّل. لو سئل: كمِ اثنان في اثنين؟ لأجاب: أربعة أرغفَه.
قال نبهان: فلما رأيت تحيُّر القومِ وقد أعْيا كلٌّ صحبَه برزتُ وقلت: هو القائل أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم. أيُجهل أشْعَب، ذو النّهم والعَبّ؟ فحدجني السائل بنظرَه، فيها رَيبٌ وعِبرَه. وإذا بخامس القوم يقول: هما حِتْنان، وفي الخير سِيّان. وبأيهما اقتدى العبدُ اهتدى. قلت: هما العُمَران، أوَيخفى القمران؟ قال صاحبه: منزلتان كضيف، قبل الصيف. ورسولا حرّ، في بحر وبرّ. فبُهت الجمع فقلت: هي الهَقْعه، وأختها الهَنْعه. قال سادسهم: مُحبُّ فتنةٍ يصلي بغير وضوء؟ قلت: أصاب الفطرَه، ونال الحُبوَه. قالوا: أَبِنْ جُزيت وعُوفيت. قلت: أليس قال تعالى: "إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة"؟ قالوا: فما صلاة بغير وضوء؟ قلت: صلاةٌ على الحبيب، مَن صلى لا يخيب. فانبرى أديب يقول: نزلتُ بقوم أياما، فكنتُ كمن لزمهم أعواما. لا يأتون بنُكتةٍ إلا بسنَد، هو العُمدة والعَمَد. يحتفون بمالِكٍ عن الزُّهْري، ويطرحون ما لا يَريش ولا يَبري. فمن القوم، ولا لَوم؟ قلت: هم أهل حديث من عَرب، من خُصّوا بسَنَد وإعراب ونَسب. قال: أفرأيت سامعا روى ما لم يسمعْ، زاحِمْ بعُود أو دعْ! قلت: هو المدلِّس في البلد، قد خشي سُفولا بسند. قال لَسِن، كلامُه بيّن: فما الذي يوزَن وما لا وزنَ له؟ قلت: أما ما يوزن فاسم متمكِّن وفعلٌ مُنصرف، وأما ما لا وزنَ له ففعلٌ جامدٌ وحرف. وأسماءُ الأصوات، وآمين وهيهات. وما أوْغلَ في البناء، وكل أعجميّ من الأسماء. قال نَبيه، غير سَفيه: جوابُه أجملُ من قَرارِه، وسِرُّه في قَرارِه. إذْ نَقْلَتُه كطائر، مُتَهادٍ غيرِ حائر. نازلٌ مَرّه، وصاعدٌ بعد كَرّه. ومِن طبقة إلى أخرى، ما فَضَلَ ولا أَكْرَى. فمن يكون؟ قلت: من أهلِ "صُنِعَ بِسَحَر"، أتى بجميلِ لَحنٍ وغُرَر.
قال نبهان ثم قلت: إنما تسألون عما مضى، وأمرٍ قد قضى. فهل لكم في جديد، ليس عنكم ببعيد؟ قالوا: قلْ نسمع، ولا تُرَع. قلت: أرضٌ جَهاد، ليس فيها جِهاد. يكثر فيها اللقطاء، وأبناء البغاء. رياضها بديعَه، بأسوار منيعَه. ذات أنهار وأفنان، وخيرات حسان. أهلها أرباب لهوٍ وطرب، حتى إذا أفل نجمٌ وغَرب. غصّت المقاهي، وضجّت الملاهي. فلا تسمع إلا قهقهَه، ودُوار العُقار ما أقبحه! فأيّ البلاد هي؟ فوجم القوم، كأنه الهَوْم. فأردفت أقول: نُصَيريّة وشيعَه، دبّروا الوقيعَه. تَسنُدهم فارس، وبوتينُ لهم حارس. أهلكوا الحرث والنسل، والعربُ في هزل. فحدج بعضهم بعضا فقلت: صفقة خاسرَه، وذِلّة نادرَه. رضِيَها الغِلمان، رِضا الأقنان. قد دارت الدائره، والأمة حائره. تقول مَن لِغزّه، ووقفةٍ بعِزّه؟ فعجب القوم لسرعة التأليف، مع التخفيف. ثم تابعت قائلا: دويلات حقيرَه، وليست فقيرَه. وما لأهلها جريرَه، في العِيشة المريرَه. سوى حاكمٍ مَهين، ليس بالأمين. للشيطان قرين، ذي صَغار مَكين. باع الأرض، وبذلَ العِرض. ورضيَ الذِّله، وليس من قِلّه. وإنما ذلّ مَن يغبطُ الذليلَ بِعيْش، وهان من ساسَ الأمور بِطيْش.
قال القوم: مَن الغريب، السائلُ المجيب؟ قلت: طالبُ علمٍ نافع، مُعينٍ لي وشافع. مُبتغي حكمة بالغَه، أو حُجّة دامغَه. قالوا: أَعلَمُنا حنظلَه، فاطلبْهُ في خلوتِه. فلما قصدت المكان ما وجدت غير شيخ وقور، عليه بَهاء ونور. قال: ألكَ في خَيْر، قلتُ جَيْر. قال: أعيَيتَني بأُشُر، فكيف بدُرْدُر؟ قلت: ومَن أعلمك بحالي كُفيت نوائب الزمان، ما جرى الدّهرُ وألَمّتِ الحَدَثان؟ قال: أنا حنظلة الأحنف. قلت: تالله لقد أبلاك الدهر، وما كنا نعرف يومئذ كيف يُجزّ الظَّهر. وإنها لَسنونٌ صيّرَتنا إلى غير ما علمتَ من حالنا. فكن كإمام عادل، قوّامِ كل مائل. قال حنظله: أما وقد أقررت بما استدبرت، فلِج العلمَ من بابه، وخُذه عن أربابه. ثم وضع بين يديّ أسفارا عليها بهاء، وللرّيَب جلاء. ثم قال: خذْ بقوة ولا تَنكُثِ العهد، ورَ رأيَك ورِ الزَّنْد! واعلم أن العلمَ ليس بكثرة الجمع، وطول الترديد والسمع. وإنما هو فهمٌ ونظر، وتأمّلٌ وبصر. قلت: لتَريَنَّ ما يَسُر، وينفعُ ولا يَضُر. قال: فالسلام عليك. قلت: وعليك السلام. ثم مضيتُ أقول:
أسْتاذُنا نِعْم المَثلْ ؞؞؞ في نَهجهِ فوقَ العَذَلْ
في سرِّه أو جهْرهِ ؞؞؞ لم يُرْضهِ مدْحُ الخَوَلْ
في هجْوهِ في مدْحهِ ؞؞؞ ما يبْتغي صُفْرَ الحُلَلْ
في حَزْمهِ في حِرْصهِ ؞؞؞ لا يحْتذي دُنْيا الهَمَلْ
في سَعْيه أو قصْدهِ ؞؞؞ ما يرْتجي عطْفَ الدُّوَلْ
في نثْرهِ أو نظْمهِ ؞؞؞ معْنى سمَا لم يُنْتحَلْ
في خَطْبه أو وعْظهِ ؞؞؞ صدْقٌ جَلَا لم يُفتعَلْ
بُشْرَى لنا نجْمٌ سمَا ؞؞؞ لمَّا كثيرٌ قدْ سَفَلْ
وسوم: العدد 782