صبر وإيمان

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

طرقات قوية على الباب أفزعت أهل الدار بل وأفزعت أيضا السكان المجاورين الذين أخذوا يمدون رؤوسهم لاستيضاح الأمر نوافذ تفتح وهمسات متبادلة خائفة والليل خرج من هدوئه مرغما بينما شهقات النساء تثير حنق الرجال الذين يرقبون الجنود المدججين المحيطين بمنزل جارهم " أبو سامر " وما إن فتح " أبو سامر" الباب حتى امتدت إليه أيدي الجنود بعنف شديد واختطفوه بقسوة ومضوا به إلى سيارتهم العسكرية يتبعهم ضابط متبختر وكأنه انتصر في معركة ضخمة .لم يتوصل أحد في صباح اليوم التالي إلى سبب واضح لاختطاف " ابو سامر " من قبل رجال المخابرات العسكرية .

 أما أبو سامر فما كاد ينزله الجنود إلى الفرع حتى أخذ يتلقى الضربات واللكمات التي كانت تنهال عليه من كل الجهات وتقوده عبر دهليز مظلم إلى زنزانة لا تكاد تسع جسمه المصاب دون أن يتأكد أن الذي يواجهه حلم أم حقيقة !! ولما استقر على أرض الزنزانة وأسند ظهره إلى الجدار بدأت الأفكار المقلقة تهاجم خياله , أهي وشاية ...لم أفعل أي شيء مسيء , ولم أتصرف أي تصرف يثير حفيظة الوشاة !!! أهي مكيدة !!؟ لم أذكر أني على خلاف مع أحد قريبا كان أم بعيدا فمن الذي يكيد لي هذا الكيد !!؟ آه .. أولاد الحرام كثير , ولا بد من وجود حاقد أم حاسد .. ولكن.. الله لطيف بعباده .. حسبي الله ونعم الوكيل .

في ربيع عام (1980) هبت المظاهرات في سورية وعمت مدن ومحافظات القطر السوري كله تندد بالفساد وتطالب بالإصلاح و بوضع حد لتصرفات رجال الأمن , والمتنفذين من أعوان النظام ضد المواطنين وحرياتهم وحقوقهم وممتلكاتهم .

ولم تكن البلدة بمعزل عن باقي المدن والمحافظات , وعلى عادة النظام وحسب طبيعة السلطة الحاكمة فإن التصدي لهذه الاحتجاجات كان بالعنف المعهود وبالرصاص الحي , حتى وقع الكثير من الأبرياء صرعى , ملأت دماؤهم الشوارع والطرقات , كما اكتظت السجون والمعتقلات بالشرفاء من أبناء سورية . ولكن "أبو سامر" بالذات لم يشارك في أي من هذه المظاهرات والاحتجاجات لأسباب تتعلق بمرض زوجته , فما هي جنايته !؟ لم يدر , ولم يقل له أحد .

وكان الابن الأكبر ل"ابو سامر " جنديا يؤدي خدمة العلم في ضواحي العاصمة " بالوحدات الخاصة "المخصصة لحماية النظام ورموزه . وقدخطرت صورته الآن أمامه . في الزنزانة بدأ يسلي نفسه , ويبحث عن الأعذار والمبررات .. أكيد هناك خطأ ... أو أرادوا أن يستفسروا مني عن شيء أو ربما يريدون أن أدلي بشهادة ما ... فأنا منذ أن وعيت على الدنيا كنت عصيا على المشاكل , بعيدا عن المهاترات , والسفاسف .

 كان أبي الحاج عبد الحفيظ رحمه الله , يحوطني بالرعاية والحماية , والعناية والنصح , والتربية الحسنة ,فأنا ابنه الوحيد على رأس ثلاث بنات , رحمة الله عليك يا حاج عبد الحفيظ .. أذكر عندما بلغت سن الشباب وخط شاربي , كان أصدقاء والدي يحدثونه عني ويثنون علي , ثم يسألونه : متى سنفرح بحامد يا ابا حامد ؟ وعلى الأخص الحاج وهبي العلاف , الذي كان يرى أن زواج الشاب دواء له وحفظ من شياطين الأنس والجان ، وكان على علاقة حميمية بأبي رحمهم الله جميعا , كان يقول له في كل يوم : متى .. فقد آن الآوان ... لقد غدا شابا .. بل رجلا ... متى سنفرح به ؟؟ وكنت أسمع هذا الكلام فأطرق حياء , بل أبتعد .. وأغادر . وأذكر في عصر أحد الأيام جاء الحاج وهبي إلى دكان أبي - بعد أن لاحظ فرحي وسروري برؤيته ولقائه في كل مرة - وقال لأبي بلهجة حاسمة لا تخلو من مداعبة : ياحاج عبد الحفيظ إذا لم تزوج حامد فسوف أزوجه أنا وعلى نفقتي !. فقال له والدي : أنت لها وأكثر .. ولكن قريبا قريبا إن شاء الله . قال له الحاج وهبي : متى قريبا ؟ قال والدي حتى نرى بنت الحلاال المناسبة ....

وقعت هذه الكلمات على سمعي فنقلتني إلى طائر مغرد في عالم الأحلام , قلت في نفسي : بنت الحلال موجودة وقريبة , ابنة خالي سهام . وهنا استرسل أبو سامر في ذكرياته, بعد أن أطلق زفرة حرى , وتذكر سهام عندما كانت طفلة , وكيف كانا يلعبان سوية , ويمرحان كعصفورين ,ولا ينسى أبدا عندما تسلق شجرة التين التي كانت منتصبة في جانب الدار , تحنوعليهما ـ هووسهام ـ بظلها وثمرها , وسهام تحب التين , لذلك تسلق ذلك اليوم الشجرة وأخذ يختار لها أحسن حبات التين ، وأنضجها ، وهو يقول مقلدا الكبار:كلي صحتين ، ولما أراد أن يهبط إلى الأرض انزلق وتعلق قميصه بغصن الشجرة ، وبقي معلقا حتى جاء والده وأنزله . بينما كانت سهام خائفة وقد اصفر وجهها , وهي تبكي وترتجف من شدة الخوف عليه .

وهنا قلب ابو سامر الصفحة , وتذكر زوجته أم سامر ( سهام) حيث تركها وحدها في البيت , ماذا حل بها ؟ ماذا فعلت بنفسها ؟ كيف تدبر أمورها , وأمور الأولاد ؟, ولم يقطع عليه تفكيره إلا صوت المفتاح وقد لعب بالقفل , وفتح باب الزنزانة , وجذبه جلاد فظ بقوة وهو يقول : تعال يا حبيبي تعال .

وجد أبو سامر نفسه وجها لوجه أمام الضابط " المحقق " وبدون مقدمات سأله الضابط: أين سامر يا أبو سامر ؟ قال مستغربا السؤال , وقد علته الدهشة : سامر .. سامر عندكم في الجيش يؤدي الواجب ويخدم الوطن !! قال له الضابط : سامر مجرم .. خائن للوطن .. إرهابي .. هرب من قطعته وانضم للإرهابيين المجرمين , ولا شك أنك تعرف أين هو الآن !! ولمصلحتك ومصلحته سلمنا إياه أو دلنا على مكانه الآن .قال أبو سامر مستغربا دهشا : هرب .. وكيف هرب .. ولماذا تركتموه يهرب ؟؟ وما علاقتي أنا بهربه ؟ هذه مسؤوليتكم أنتم , أنا سلمتكم سامر , سلمته للجنديه , ليخدم الوطن , وصار في عهدتكم !! انا من يسألكم أين ابني !! وأنا من يطالبكم بالعثور عليه , عندها أحس ابو سامر بلطمة قوية على وجهه أسقطته أرضا , وسمع الضابط وهو يصرخ : إخرس يا حقير , سوف ترى ماذا يحل به وبك , خذوه من وجهي .
 عاد أبو سامر إلى الزنزانه وهو لم يصدق ما سمع !!

في الزنزانه داهمته الأفكار والذكربات مرة أخرى , تصور ابنه سامر الشاب الظريف بقامته الممدودة , وسمته اللطيف وعينيه العسليتين , وشعره الأسود المصفف بأناقة زائدة و وشاربه الغض الذي يتعهده سامر بالعناية والرعاية ليشتد ويقوى , وقال في حسرة وألم : آه .. مسكينة يا أم سامر كم ستتحملين !؟ أم سامر التي وقفت في وجهه منذ ما يزيد على الشهر وقالت بحزم : اسمع يا أبا سامر , هناك أمر أريدك أن لا تتدخل فيه , ولا تعترض عليه , قررت أن أخطب لسامر , وأظنك ستوافق , سأبحث له عن فتاة تليق به وبنا , حتى إذا أنهى خدمته زوجناه , وفرحنا به ... ضحك ابو سامر في الزنزانه وردد ما قاله لها :إنه يوم المنى يا أم سامر إنه يوم المنى .

كان سامر فعلا قد هرب من قطعته العسكرية بعد أن تلقى مع مجموعته أوامر من الضابط على أثر المظاهرات والإحتجاجات , باقتحام بيوت الملطلوبين , وإفساد ما فيها , وترويع سكانها من الأطفال والنساء , واعتقال الشباب والرجال , ليس هذا فحسب , بل وإطلاق النار بدون تردد إذا لزم الأمر. لم يستطع سامر أن يتحمل مثل هكذا مهمة لا شرعا , ولا عقلا, ولامنطقا , فعزم على الهرب وهو يحدث نفسه ويقول: خسئت أيها الضابط اللعين , وخسيء قادتك , نحن حماة الوطن والمواطنين , ولسنا ممن يقتحمون البيوت , ويعتدون على الحرمات , ويقتلون الناس الأبرياء , ومن ثم توارى عن الأنظار , وأقلق راحة السلطة الغاشمة ورجال الأمن , ودوخهم ( سبع دوخات) كما يقولون , إلى أن تمكنوا منه بعد تشديد المراقبة والبحث , وبث العيون , والجواسيس , ولما علموا بوجوده في بعض الأحياء , طوقوا الحي , ومنعوا التجوال , وهددوا وتوعدوا فكر سامر وعرف أنه قد كشف , وأنه إذا بقي متواريا مختبئا سوف يجر على الحي وأهله كارثة محققة , لذا فضل الظهور , واشتبك مع رجال الأمن , حتى تكاثروا عليه وأردوه قتيلا شهيدا بعد معركة عنيفة.

بعد ذلك أراد الضابط أن يغيظ الأم المنكوبة أكثر , فتوجه إلى بيت "ابو سامر" للمرة الأخيرة , وقرع الباب بعنف,ولما ردت عليه أم سامر قال لها بصلافة : ابشري .. لقد قتلناه.. "وشحطناه بالسيارة " ليكون عبرة لغيره . فردت عليه بكل قوة وحزم : الحمد لله الذي بشرني باستشهاده .. ثم أطلقت زغرودة مدوية . وصفقت الباب بقوة في وجه الضابط اللئيم .