غــد آخــر ...
حقيقة لم أكن أتخيّل حدوث ذلك! كانت مخططاتي تسير باتجاه مختلف تماما عن الواقع الذي أعيشه الآن . عثرات متتالية وانكسارات مؤلمة وخذلان جائر ، لاشيء سوى ضجيج الأطفال والكثير من الأحاديث التي لا أميز معانيها ، فقد اعتدت أن أسمع مايدور حولي بصمت وهدوء ، فلا معنى لأي محاولات جدّية لتغيير واقع بات أمره مفعولا, ما يساعدني على الاستمرار ربما هي ذكريات الماضي الذي لم يكن بعيدا جدا . قبل سنوات عشر حين كنّا على مقاعد الدراسة و كان سقف أحلامنا عاليا، عاليا جدا يلامس أطراف الغيوم مُضاءً بنجمات الأمل . كانت (سارة) تنتظر حصة الجغرافيا بفارغ الصبر فالآنسة( هدى) لم تكترث يوما إن استوعبنا الدرس أم لا ! هي تقوم بواجبها بالإعطاء ليس إلاّ، ونحن نتناول البسكويت والشيبس خلسة ، وكم كان مذاق الأطعمة مختلفا ذاك الحين، قصص وحكايا نمضيها طوال الحصة الدرسية
أذكر جيدا( عبيرًا) حين سألتها المعلمة السؤال المعهود (ماذا تريدين أن تصبحي في المستقبل) فأجابت بعد صمت طويل سأبحث عن مهنة أجني منها المال بأقل ساعات عمل ، فالحياة تغيّرت ونحن بعصر السرعة لا وقت نضيّعه بالأعمال الروتينية المملة والتي غالبا ما تكون حصيلتها مبلغا زهيدا من المال لا يكفي حتى لشراء حقيبة أو حتى حذاء!أما (سوسن) فلم تكن تضيّع دقيقة واحدة من وقتها دون أن تذكّرنا بأن الحياة تستحق العيش ، وأن تحديد الهدف هو مايجعل للحياة قيمة والسعي لتحقيقة هو ما يجعلنا نمر بتجارب ليصقل شخصيتنا ولنكون أقوى... يااااه يا سوسن! كانت الأكثر منطقية بالتفكير والأشد فطنة بيننا نجتمع بعد نهاية الدوام المدرسي بالحديقة المجاورة للمدرسة نتبادل الأحاديث والشكوى من الصعوبات التي نواجهها في حياتنا ، مشاكل عائلية و اجتماعية وغير ذلك . حتى كان ذلك اليوم المشؤوم حين سقطت قذيفة غدر وسط المدرسة ، وما أكثر تلك القذائف العمياء التي تسقط في كل مكان ، فأثارت ذعر الكادر المدرسي والطلاب . لازلت أسمع أصوات صراخهم ومنظر الدماء والجثث المترامية ، وكيف أعمى الغبار بصري فلم أستطع أن أشاهد من هم حولي . ناديتهم بأسمائهم ، استنجدت وطلبت العون كنتُ أشعر بخدر في جسدي ، لم أستطع الهرب أو حتى الوقوف وربما بعد ساعات أو يوم كامل . وجدت نفسي بالمستشفى فتحت عيني فرأيت أمي تبكي وسمعت صوت أبي يقول الحمدلله على سلامتك يابنتي . حاولت أنا أتحرك لكني لم أستطع ساقاي تؤلمانني ، وذراعي حاولت أن أتلمّس موضع الألم لكني لم أجد ما أبحث عنه! بلا ساقين وبلا ذراع.. لا أملك إلا ذراع واحدة حاولت أن أتذكر ما حدث ، أين ساره وسوسن سمعت صوت عبير كانت تصرخ بقوة عادت الأحداث بشكل تدريجي كما لو أنه كابوس!عرفت أني الناجية الوحيدة بينهم، ولكن أحقا نجوت لأعيش الحياة؟ أم لأعيش الموت!أي حياة تركتموني أعيشها.! وأي غد أنتظر الآن!عشر سنوات مضت ودّعت فيها أحلامي وطموحاتي، ودعتها مع أطرافي التي غادرتني دون وداع بلحظة غفلة ، وتركتني أعيش الموت كل لحظة دون رحمة . هو قدري وحتما هناك معادلة غيبية وراء كل ما يحدث . ولكن عذاب أمي يكوي فؤادي فأنا أعجز عن تخفيف وجعها كلما نظرت إليّ، أما والدي فيمضي أغلب وقته جالسا أمام الخيمة يقرأ القرآن ، ويدعو الله وكله أمل بغد جديد .
نعم، عشر سنوات مضت وأنا أعيش بخيمة ألاحظ أشعة الشمس التي تخترق ثقوبها الكثيرة في كل مكان، كل ليلة وقبل أن أغفو أدعو الله أن أستيقظ صباحا لأجد نفسي هناك حيث تركتها وسط صديقاتي مع معلماتي
أعيش حياتي السابقة ، لكنّ الصباح يأتي ككل صباح منذ السنوات العشر التي اكتنفتها الحسرات من جانب ، والآمال الظليلة من جانب آخر . كانت لحظة واحدة غيّرت الأحداث وجعلت للغد اتجاه آخر .
وسوم: العدد 929