ثلاث قصص قصيرة

نشوان عزيز عمانوئيل

بكتيريا..!! 

زيلين...! 

في مملكة الأعماق، حيث لا تصل أشعة الشمس ولا يعرف الهواء طريقه، كانت تعيش بكتيريا اسمها زيلين. لم تكن زيلين مجرد بكتيريا عادية؛ كانت مفكرة، تتساءل عن معنى وجودها في عالم لا يعترف بوجودها ككيان قادر على التفكير. كانت تسكن في جسد إنساني، تلك البيئة العظيمة المليئة بالمجهول والتي تعج بالحياة والموت معًا.

كان لزيلين أصدقاء، أو هكذا كانت تظن. بكتيريا أخرى تشاركها المسكن نفسه. كانت تتفاعل معهم، تشاركهم الغذاء وتناقش في أمور الحياة والبقاء، لكن في الأعماق، كانت تشعر بغربة عميقة. "هل يمكن للعلاقات بين البكتيريا أن تعبر عن حقيقة الوجود؟" كانت تتساءل.

كل يوم، كانت زيلين تواجه التحديات التي تفرضها عليها بيئتها؛ الهجمات من الأجسام المضادة، البحث عن الغذاء في متاهات الأمعاء، ومحاولة فهم الرسائل الكيميائية التي تتلقاها من بعيد. كانت الحياة معركة، لكنها كانت أيضًا سؤالًا مستمرًا عن الهدف من هذه المعركة.

في إحدى الليالي، أثناء تأملها في الوجود، اكتشفت زيلين أمرًا غريبًا. بدأت تشعر بوجود "آخر"، ليس بكتيريا ولا فيروس، شيء مختلف تمامًا عما عرفته. كانت هذه الأحاسيس الجديدة تأتي من خارج حدود مملكتها الدقيقة، من الإنسان الذي يحتضنها. بدأت تتساءل، "هل يمكن أن يكون هذا الإنسان على دراية بوجودي؟ هل يشعر بغربتي وسعيي للفهم؟"

بحثت زيلين عن إجابات، تغلغلت في أعماق جديدة، وسعت للتواصل مع هذا الكائن العملاق. لكن كلما غاصت أكثر، كلما اكتشفت الفراغ الذي يفصل بين وجودها ووجوده. لم يكن الإنسان على دراية بوجودها كفرد، كانت مجرد جزء من نظام أكبر بكثير من أن تفهمه.

وفي لحظة إدراك مؤلمة، فهمت زيلين أن العزلة جزء لا يتجزأ من وجودها. لم تكن العلاقات التي تشكلت بينها وبين البكتيريا الأخرى سوى محاولة لملء فراغ الوجود. ولم يكن الإنسان، الكائن الذي يحتضنها، سوى تذكير بالفجوة السحيقة بين الوعي والعالم الذي يحيط به.

في هذه اللحظة، قبلت زيلين وجودها العبثي. لم تعد تبحث عن معنى في العلاقات أو التواصل مع الآخرين، بل وجدت الحرية في الاعتراف بوحدتها وعزلتها. وفي هذا القبول، وجدت زيلين شكلاً من أشكال السلام، وإن كان سلامًا يعتريه الغموض والشك.

ألفا...! 

في عالم من الغموض والظلام ، حيث لا يوجد شروق أو غروب، عاشت كائنات مجهرية دقيقة من البكتيريا في صراع دائم من أجل البقاء.

ومن بين هذه الكائنات الدقيقة، كانت هناك بكتيريا تُدعى"ألفا " 

ألفا كانت دائمًا تشعر بأنها غريبة عن باقي أفراد المستعمرة. كانت لديها أسئلة تزعجها ليلاً ونهارًا، تساؤلات عن الهدف من وجودها في هذا المكان المغلق، المعزول عن أي ضوء أو هواء.

في هذا العالم، كانت الأمعاء هي موطن "ألفا"، مملوءة بالأصوات الغامضة والتقلصات الغريبة. كل يوم كانت هناك معركة جديدة، فهناك البكتيريا الصديقة التي تتعاون معها للحفاظ على النظام، وهناك البكتيريا العدائية التي تسعى للسيطرة على هذه المساحة الضيقة. "ألفا" كانت تشعر بأن كل هذا الصراع لا يؤدي إلى أي مكان.

في أحد الأيام، وبينما كانت "ألفا" تغفو على الجدار المغذي الدافئ للامعاء الدقيقة ، التقت بالبكتيريا "بيتا"، التي كانت تتميز بحكمة غير معتادة. سألتها "ألفا" بصوت يملؤه الحزن: "ما هو الهدف من هذا كله؟ لماذا نستمر في القتال والبقاء؟"

ابتسمت "بيتا" بحزن وأجابت: "ربما لا يوجد هدف. نحن هنا لأننا وجدنا أنفسنا هنا. ربما الهدف هو مجرد الاستمرار في العيش، حتى لو كان ذلك بلا معنى واضح."

هذه الكلمات زادت من قلق "ألفا"، لكنها لم تكن قادرة على رفضها. كانت تشعر بأن "بيتا" قد تكون على حق، وأن حياتها ربما تكون مجرد سلسلة من الأحداث العشوائية، بدون أي نهاية مُرضية.

مرَّت الأيام، و"ألفا" تجد نفسها أكثر انعزالًا عن باقي البكتيريا. كانت تراقب المعارك الصغيرة التي تدور حولها، تشاهد البكتيريا وهي تتكاثر وتموت، تشعر بأن وجودها في هذا العالم مليء بالفراغ. كل يوم كان يشبه الآخر، حتى فقدت القدرة على التمييز بين الأمس واليوم والغد.

في لحظة من التأمل العميق، وبينما كانت "ألفا" كعادتها مستلقية على جدار الأمعاء، شعرت بوجود كائن أكبر، قوة غامضة تحرك كل شيء من حولها. تساءلت إذا ما كان هذا الكائن الأكبر يعرف عنها شيئًا، إذا ما كان يدرك معاناتها ووجودها العبثي.

وبينما كانت تفكر في هذا الأمر، شعرت "ألفا" بأن عالمها بدأ يهتز. كان هناك هجوم جديد من البكتيريا العدائية، أقوى من كل ما شاهدته من قبل. بدأت "ألفا" في القتال، ليس لأنها تؤمن بالهدف، بل لأن القتال كان هو الشيء الوحيد الذي تعرفه. في وسط الفوضى، وبينما كانت تحاول البقاء على قيد الحياة، تذكرت كلمات "بيتا": "ربما الهدف هو مجرد الاستمرار في العيش."

استمرت المعركة لساعات، وانتهت بسقوط العديد من الضحايا. كانت "ألفا" من الناجين، لكنها لم تشعر بالنصر. كانت تشعر بالفراغ أكثر من أي وقت مضى. نظرت حولها، إلى البكتيريا المتبقية، وأدركت أنها ليست الوحيدة التي تعاني من هذا الشعور.

في ذلك العالم الصغير المظلم، حيث الصراعات والمعاناة لا تنتهي، كانت "ألفا" تعلم أنها ستستمر في البحث عن معنى، حتى لو لم تجده أبدًا. في النهاية، كان هذا البحث هو الشيء الوحيد الذي يمنحها القوة للاستمرار.

لورا...! 

في أعماق الأرض السحيقة، حيث لا يصل ضوء الشمس ولا يُسمع صوت الرياح، كانت تعيش بكتيريا اسمها لورا. لم تكن لورا مجرد بكتيريا عادية؛ كانت تتأمل في معنى وجودها وسط الصخور والمواد العضوية المتحللة. كانت تعيش في بيئة ضيقة، تحت سطح الأرض، في نظام بيئي معقد مليء بالأسرار والألغاز.

كان للورا أصدقاء، بكتيريا أخرى تشاركها نفس الملجأ. كانوا يتفاعلون، يتشاركون الغذاء ويتبادلون المعلومات الكيميائية. لكن رغم تلك العلاقات، كانت لورا تشعر بعزلة داخلية. "هل يمكن لعلاقاتنا ككائنات مجهرية أن تعطينا معنى حقيقيًا للحياة؟" كانت تتساءل.

كل يوم، كانت لورا تواجه تحديات بيئتها؛ المنافسة على الموارد، الهروب من الطفيليات، وفك شيفرات الرسائل الكيميائية التي تتلقاها من الجزيئات المحيطة. كانت الحياة سلسلة من التحديات، لكن لورا كانت ترى في هذه التحديات فرصة لفهم أعمق.

في إحدى الليالي الحالكة، بينما كانت لورا تتأمل في وجودها، شعرت بشيء غير مألوف. كانت تلك الأحاسيس تأتي من أعماق الأرض، من تفاعل كيميائي ضخم يجري في باطن الكوكب. بدأت لورا تتساءل، "هل يمكن أن يكون هذا التفاعل جزءًا من نظام أكبر؟ هل نحن، ككائنات مجهرية، نساهم في توازن الأرض دون أن ندرك ذلك؟"

بحثت لورا عن إجابات، تحركت عبر طبقات الأرض، محاولة فهم هذا التفاعل الضخم. وكلما تعمقت أكثر، كلما اكتشفت المزيد من التفاصيل عن توازن النظام البيئي. فهمت أن وجودها، ووجود أصدقائها، كان جزءًا من نظام معقد يدعم الحياة على سطح الأرض.

وفي لحظة إدراك مبهجة، أدركت لورا أن العزلة التي كانت تشعر بها لم تكن سوى وهم. كانت جزءًا من شبكة حياة أكبر وأعمق مما كانت تتخيله. لم تكن العلاقات التي شكلتها مع البكتيريا الأخرى مجرد محاولات لملء فراغ الوجود، بل كانت أساسية للحفاظ على توازن النظام البيئي.

في هذه اللحظة، وجدت لورا معنى لوجودها. لم تعد تشعر بالوحدة أو الغربة، بل بالانتماء إلى هذا النظام المعقد. في هذا الفهم، وجدت لورا شكلاً من أشكال السلام، سلامًا نابعًا من الوعي بأنها ليست وحدها في هذا الكون، بل جزء من نسيج الحياة العظيم.

وسوم: العدد 1082