كعكُ العيدِ
كانت زينب تُمسِّك بيد أبيها وهما يُغذَّان السير نحو مكان نزوح جدتها في حي "الزوايدة" بغزة. تتلفت الصغيرة ذات الثمانية ربيعاً يُمنة ويسرة فلا تجد إلا أطلالا تحكي قصة امرئ القيس وطَرَفة، وبعض طرقات كانت تسير عليها مركبات تعمل إما بالبنزين أو الديزل أو الكهرباء!
أي ربيع لثمانية؛ وهي منذ ثمانية أشهر حسوماً لم ترى إلا النار والدمار؟! ولما تعبت الصغيرة صار أبوها ينظر ذات اليمين وذات الشمال علَّه يرى واسطة نقل تعينهم على وعثاء الحياة المريرة! وما هي إلا لُحيظات حتى وقفت بجانبهم مركبة فارهة تعمل بقوة بغلين أشهبين، فالتقط الأب صغيرته وأودعها في الصندوق الخلفي للمركبة، ثم هو نطَّ إلى جانبها، وصارت عقائصها تداعبان الريح التي تعاكس حركة سير المركبة الوثيرة!
وما هي إلا لحظات حتى تكشفت الحقيقة عن أن البغلين يحملان مع البشر بجانبهما جريحاً يئن؛ ويثغب بالدم من جرح له في قدميه ويديه، وربما استقرت رصاصه في حشاه، وإلى جانبه يتمدد مسجىً شهيد قد لُفَّ بشرشف بني اللون؛ ويبدو أنه لامرأة؛ فقد انكشف بسبب الريح العاتية بعض شعر لها؛ فقام من بجانبها بدسه تحت الكفن.
أحست الصغير بالغثيان؛ فكمَّ أبوها فمها بيديه الخشنتين، ثم احتضنها وهو يهدهد من روعها: أي بُنية؛ هذه حالنا، فنحن شعب منكوب، ولا بد لك من أن تتأقلمي مع هذه الرؤى الحمراء والسوداء، وانظري إلى الأفق البعيد فثمة أمل يرتسم بين شفاه المحن.
وكلما أنَّ الجريح عضت البنت على شفتيها، وسكبت لآلئ من حَزن مرتاع، والأب يقول لها: ها قد قطعنا نصف الطريق إلى الجدة فاطمة، أولست أنت من أصرَّ على المجيء إليها لكي تخبزي معها كعك العيد لأطفال غزة المنكوبين المحرومين من شمِّ الخبز من شهور عاتية؟ فترفرف الصغيرة بالإيجاب برمشي عينيها المذعورتين، ثم تدس رأسها الصغيرة المرتعش في حِجر الوالد المكلوم.
وفي الفضاء البعيد يرين في الجو دخان كثيف هنا وهناك؛ فأنَّى اتجهت ترى السماء وقد تلبدت بجوانٍ معتم في رابعة النهار؛ فالصواريخ المجنونة تسَّاقط على المدنيين العُزل صباح .. مساء، وما لها من فَواقٍ!!
ولم تمر دقائق معدودات حتى غطى سكان المركبة الأرضية الفخيمة الجريحَ ببعض قماش، وأغمضوا له عينيه، ولما سألت البنت عن كُنْه ذلكم؟
قال الأب الذي تعود على هكذا مناظر يومية: لقد رحل إلى السماء؛
فشهقت البنت شهقة سمعها شطر من على الأرض من الثقلين!!
وبعد لأي ممضٍ قال السائق ذو الشاربين الأسودين الغليظين: لقد وصلنا إلى الزوايدة؛ فناوله الأب "شيكيلن"، وقفز وابنته إلى حيث يبغيان.... وغاب "الحنتور" عن الأنظار بُعيد أقل من دقيقة، وهو يتجه إلى المحطة التالية؛ وقد لا يصل؛ فالصواريخ تتنزه على الطرقات، وتتهادى بين الشوارع المكسَّرة، وكم من ابن أنثى وقد طالت سلامته .... خرج من بيته على رجليه، وعاد محمولاً على آلة حدباء.
كانت فرحة الجدة فاطمة لا تُقدر بثمن حينما رأت الحفيدة الأثيرة بنت ابنها محمود وهي تُهطع نحوها بخطوات محمَّلة بالحب، ثم تعانقتا وانضمت إلى جوقة الوجد أختها فاطمة الزهراء التي تواكب جدتها منذ فترة في صنع الخبز لغرثى غزة الذي يتضورون جوعاً؛ في يوم ذي مسغبة.
الزهراء كانت تنظم الدور مع بعض الفتيات والولدان لطوابير الجوعى الذين طواهم الطَّوى، ولكنها عندما التقت بأختها زينب انسلت من بين المنظمين وأخذت بيد أختها إلى خيمة الجدة الفارهة؛ حيث يقطنون منذ شهور بعد أن رحلوا من جباليا؛ بُعيد السابع من أكتوبر المجيد.
هنالكم: عُدة بيتهم من متاع الحياة الدنيا، ولعبة أثيرة اصطحبتها معها الزهراء من جباليا لا زالت على قيد الحياة؛ فكثير من دُماهم قد لاقوا مصارعهم كما البشر؛ فالعدو الصهيوني النازي لا يفرق بين دمية وبشر؛ بلحم ونَفَس!!
جلست فاطم تحدث أختها لأكثر من ساعة عن حياة الجدة المستنزفة في إغاثة البشر ممن عضت عليهم الحرب بنواجذها؛ وكيف أن عمهما يؤمن لهم أكياس الطحين بين الفينة والأخرى من (دوار النابلسي)؛ وكم مرة تعرض للموت الزؤام؛ فقد استهدفت آليات جيش الغدر والخيانة المغيثين مرات بحَيْن أسود فاحم؟!
كان خدا الجدة فاطمة قد توردا من شدة اتقاد نار التنور، وعيناها الزرقاوان قد باتتا شاحبتين من خبز كعك الحياة على هذا الموقد المشع بالنور المغذي، والصغيرة تسائلها عن كعك العيد أين هو؟
فتتبسم الجدة أم محمود قائلة: الخبز اليوم يا بُنية هو كعك العيد الحالي، وهو أقصى ما يتمناه الفلسطيني الغرثان ذو الجوف الملتهب؛ فلقد رأيت بأم عين أناسا قد صاموا أسبوعا أو أكثر وهم لا يجدون لقمة خبز.
أوتذكرين يوم كنا نسكن في بيت من ست طوابق بجباليا؛ والخيرات تنهلُّ علينا من السماء مدراراً؟ الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلَّم- قال: " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا". ويوم كنت في سجن "هشارون" الصهيوني سنة 2008 .... وولدتُ عمك يوسف هناك؛ كان زبانية السجن يعطوننا من الطعام بالكاد ما يسدُّ رمقاً!!
استأذنت زينب للانضمام إلى الجدة ومساعدتيها للمشاركة في صنع الخبز، ولكن الجدة خافت عليها من وهج النار، ولما رأت الحَزن قد فطَّر محياها سمحت لها بالمشاركة شرط أن تبعد عن النار، وتقوم فقط بتصفيط الخبز الجاهز وتبريده؛ كي يُسلَّم لمئات المصطفين على دور النجاة.
وبينا هنّ يخبزن الحياة للفلسطينيِّ المروْع منذ قرن من الزمان؛ إذ بدخان كثيف يلفُّ الفضاء على بعد أقلَّ من كيلومتر واحد؛ فارتاع الناس، وتفرقوا في كل جهة، وتشرذموا يمينا وشمالاً، وذهب كلٌّ ببقية أنفاس لم تزل حبيسة بين أضلاعه، وانفضَّ الناس عن الفاطمتين وزينب، وتركوهنَّ قائمات ....
والتنُّور يشعُّ بالأمل، وبعض خبز تبقَّى لا لأحد؛ فالكلَّ قد فرَّ وكأنَّما قساورُ تلاحقه، وقد أُذهلت كل مرضعة عمَّن أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى!!
سألت زينب وهي ترتجف من الذعر؛ وأسنانها تصطك في صوت كالهزيم، وشفتاها قد ازرقَّتا: فمن سيأخذ هذا الخبز المشوي؟
فقالت الجدة العجوز المتمرسة: سيرجعون بُعيد قليل يا صغيرتي ... حين يضع الصاروخ الأمريكي أوزاره......
**************
بين ... وبين
وسوم: العدد 1085