وادِ النَّمل
كانت الصواريخ تنهلُّ مدراراً على نواحٍ متفرقة من غزة، والشظايا تطَّاير في كل حدبٍ وصَوبٍ، وصواريخ المقاومة تنطلق من أماكن لا معلومة؛ فمنها ما يصيب أهدافه في غلاف غزة، ومنه ما يصل إلى عمق تل أبيب، ومنه ما تلتهمه القبَّة الحديدة الخوَّارةُ.
هُرع بعض النَّاس للهرب كيفما اتفق، وبعضهم ظلَّ يسعف الجرحى المنتشَلين من تحت الأنقاض اللئيمة الكاشحة، وسيارات الإسعاف المسنة تذرع الطرقات جيئة وذهاباً؛ وهي تغذُّ السير إلى المشافي اللاهثة وراء آخر نقاط الوقود التشغيلي لطاقتها المنهكة منذ شهور.
ومن لم يتبقَ له من الجرحى سنتيمترٌ مربعٌ في سيارات الإسعاف الهرمة؛ فقد وسعه "حَنْتور" تجره بغلة شهباء، لا تحتاج إلى بنزين ولا أيِّ نوع من الطاقة، سوى العضلات المفتولة للبغال والحمير .... ويخلق ما لا تعلمون!
كل الناس مهطعون إلى المجهول هرباً من حمم الصهاينة الملاعين؛ هنالكم حيث تحسب أن الساعة قد قامت، فترى النَّاس سُكارى وما هم بسكارى، ولكن الهول شديد ومدلهمٌّ ... أما عائلة "النَّملة" فبطيئة الحركة بسبب أطرافهم المبتورة منذ حرب 2014.
إنَّ عائلة النملة قد حجزوا لهم دوراً في ذيل هذا الماراثون التسَّابقي نحو بصيص أمل وجرعة أكسجين؛ بعيداً عن ضوضاء الصَّهيوأمريكية المدمرة للإنسانيَّة. إنهم "يتتعتلون" بأقدامهم المبتورة منذ عشر سنوات؛ فيمشون قليلاً ... ويتعثَّرون كثيراً. وممَّا زاد الطَّين بِلَّة أن الطَّريق مزروعة بالأنقاض. أنقاضِ هذه الحرب المجنونة التي التهمت الطرقات؛ فأحالتها إلى طرق مكسرة وكأنها تعود إلى العصر البرونزي!
وكلما مضت الدقائق المجنونة المترعة برائحة الموت الباروديِّ، كلما زادت الشُّقَّة بين آل النملة وبين من سبقوهم من المهجَّرين إلى برِّ الأمان ... حيثُ لا أمان؛ فبعض المسيَّرات الوطواطية الزَّنَّانة تتتبَّع من يخرجون من الموت من تحت الأنقاض، فيتخطَّفهم حَيْنٌ غادر جديد، وتعضُّهم أسنان أغوال زرقٌ ..... مسنونةٌ!
حتى إذا ما صادفوا مرتفعاً، وغاب الناس في المنخفض التالي لم يعد آل النملة يرون أحدا من الجيران والأحباء؛ فقد ابتلعتهم الطريق الموحشة القتَّالة؛ فصاروا بعيدين.
وبينا كان الابن يثَّاقل بمِشيته بعكاز شبه تالف إذ ببرغي من براغيه الصدئة تنكسر، ويصبح العكاز قطعتين متشاجرتين متباعدتين. وجلس الولد يندب حظه؛ فيما أخذ الأب العاجز ذو الرجل المبتورة يحاول إصلاح عكاز ابنه بأدوات بدائية التقطها من الطريق الحزينة.
كانت أشعة الشمس المبتسمة تنعكس على صفحة خدي الولد الحزين؛ فأدار ظهره للشمس، وتمعن بسرب من النمل وتعجب كيف أن اليهود لم يقضوا على هذا الوادي من النمل؛ فهم أعداء البشر والحجر والشجر والحشرات؟!
النمل يسير في حركة دائبة منتظمة، وكلٌّ يُهرع إلى الجحور ليخزِّنوا مؤونة الشتاء خوفاً الأعداء من الحيوانات المتربصة واليهود المتحيونين. لا تصطدم أي نملة مسرعة مع أخرى تعبر الطريق بسرعة جنونية نحو الهدف المجنون رغم عدم وجود إشارات مرور بأضواء حمراء وخضراء؛ فالكلُّ يسعى بسعادة تسيِّرها النواميس التي زُرعت في أخلادهم الصغيرة الجميلة، التي لا تعرف للغِلِّ طريقاً.
وبينا كان الأب منهمكاً بإصلاح العكاز الكسير، والأم على كرسيها المتحرك؛ كان الابن يجول في رحلة نملية مستطلعاً أحوال هذه الأمة من أمم الحيوانات العجيبة. فثمَّة مجموعة كبيرة تجرُّ صرصوراً ميْتاً إلى الوكر النملي النَّهِم إلى مزيد من المؤن؛ فقد يعلن وزير اليهود اللدود "إلياهو" على مجتمعات النَّمل يوماً ما حرباً نوويةً!
ورغم أن الطريق لا تتجاوز عشرين كيلومترا من مكان الهدم حيث كانت الموت يُباع في حواري حيهم المنهدم ... إلى المأمن الذي لا يؤتمن؛ فقد استهلكت هذه الرحلة المجنونة المتوحشة عشرين ساعة؛ فيما وصل ذوو الأقدام السليمة في أقل من ثلث الوقت.
على الطريق الوعرة المتشاكسة كان الأب يُنسِّي زوجه وولديه وحشة الوقت بأن يسرد على الطفلين قصة سرقة صواريخ الصهاينة لأطرافهم قبل ما يقارب من عشر سنين كبيسة: " 180 شهيدا استشهدوا في الجمعة السوداء التي ارتكب الاحتلال خلالها أفظع المجازر، وقصفت البلدة بشكل عشوائي بحثاً عن الضابط الإسرائيلي "هدار غولدن" سنة 2014؛ في رفح .
اشتد القصف على شارع "البلبيسي" في رفح جنوب قطاع غزة في المنطقة الحدودية مع الأراضي المحتلة؛ فقررت وأخي الخروج من المنزل إلى مكان أكثر أمناً .... إلا أن صاروخين من طائرة استطلاع كانت الأسرع إلينا فأردت الناس أرضا بين شهيد ومصاب.
أتذكر: في ذلك اليوم خرجت وأخي نحمل عائلاتنا هربا من الصواريخ العشوائية ... ثوانٍ فقط وكانت الدماء تسيل من حولنا ... ورأيت زوجة أخي وقد واستشهدت....
حاولت النهوض لأحضرك وأنت مضرج بدمائك لكنني اكتشف أن ساقي بترت على الفور، كما بترت ساقك ... وغبت عن الوعي مجددا.
بعد خمسة أيام مكثتها في العناية المركزة استيقظت على ساق مبتورة، وعلمت أن أخي وزوجته قد استُشهدا؛ بينما أُصيبت أمك وأنت بجروح بالغة أدت الى بتر أطرافكما أيضا.
ثم تقول الأم "إسراء" زوجة وائل النملة: في اليوم التالي للإصابة استيقظتُ؛ وأنا في العناية المركزة ولم أجد ساقيَّ؛ فاحتسبتهما عند الله تعالى في الجنَّة" .
وكلما تعب الأب من الكلام سردت الأم جزءً من القصة الحزينة لطفليها، ثم طلب الابن الأصغر من أبيه أن يقصَّ عليه من القرآن الكريم قصة سليمان -عليه السلام- مع النمل؛ فتلا عليهم: " وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيۡمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّيۡرِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ (17) حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكٗا مِّن قَوۡلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِي بِرَحۡمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَ (19)".
... فيما كانت قبائل النمل تمضي نحو هدفها المنشود في تخزين المؤونة ليوم الشدة، وكأنها تلقن الفلسطيني المهاجر درسا في الدأب، وعدم الاستسلام!
وسوم: العدد 1089