السيدات أولا
حيدر الحدراوي
كعادته يتجول خارج المدينة , ويعود اليها من جانب حي الفقراء , في هذه المرة , وقع نظر مشيطي على فتاة كانت تكنس امام باب بيتها , لقد سبق وان رآها كثيرا , لكن هذه المرة احس بشيئا غريبا يتلاعب بدقات قلبه , لم يبالي واستمر بمشيته , فبدأ قلبه بالخفقان , توقف واسترق النظر اليها مجددا , فشاهد فتاة نحيفة , بوجه شاحب , امتزج الغبار بحبيبات العرق النازلة على وجنتيها , تناثر شعرها على كتفيها بشكل عشوائي , وغير مرتب , شعر بشيء يجذبه نحوها , لم يعهده من قبل ! .
اقترب منها , وألقى التحية , فوقع نظر الفتاة على حذائين ثمينين , رفعت نظرها اعلى واعلى , فشاهدت وجه ساذج , تعلوه ابتسامة غبية , فأحمر وجهها , لكن الغبار المتصاعد من المكنسة والممتزج بالعرق اخفاه جيدا , وبصوت مرتعش :
- كشيمره ! ... كيف حالك ؟ .
بتلعثم وتردد :
- مشيطي ! ... بخير .
حدق كل منها في وجه الاخر طويلا , تبادلا النظرات , كأنهما يتبادلان حديثا من نوع خاص , لا يفهمه الا من هو في حالتهما , دبّ الخجل في روع الفتاة , ولم تستطع ان تبقى طويلا , فأنسحبت الى داخل البيت بحياء , وتابع مشيطي طريقه عائدا الى البيت , بعد ان وعدها ان يلتقيا ثانية .
***************************
كانت الام تنتظر عودة ابنها مشيطي , في حديقة ذلك القصر المنيف , ما ان لمحته يدخل من البوابة , نادته واخبرته ان لديها امر هام , يجب ان تتحدث اليه , فطرحت عليه مشروع الزواج , وطلبت منه ان يختار له زوجة , هشّ وبشّ مشيطي للخبر , وعلى الفور اجاب :
- لقد اخترت الفتاة ! .
- حقا ! ... من هي ؟
تلعثم مشيطي خجلا , والحت عليه امه :
- هيا اخبرني منّ هي ؟ .
- انها كشيمره بنت شعيوط ! .
كأن امه صعقت لما سمعت بهذا الاسم , وعبرت عن رفضها لهذا الاختيار :
- كشيمره بنت شيعوط ! ... تلك الفقيرة التي لا تملك ثمن مشطا تسرح به شعرها ! .
- نعم ... يا امي ! .
استشاطت الام غضبا , واسرعت الى داخل القصر , فكلمت الاب عن اختيار مشيطي , استشاط غضبا هو الاخر وزعق بصوت كأنه الصاعقة او الزلزال , اهتزت له جدران القصر , ووقع بعض الخدم على الارض :
- مشـيـــــــــــــــــطي ! .
اسرع مشيطي لمقابلة الاب الغاضب , فوقف مرتجفا بين يديه , لكن الاب شكاحي هدأ من غضبه , وتكلم باسلوب جميل :
- بني ! ... ليس لي ولد غيرك .. وقررنا انا ووالدتك ان نزوجك بالفتاة المناسبة .
- ان كشيمره هي التي تناسبني ! .
- بني ! ... عندما تذهب للسوق لتشتري دجاجة .. هل ستختار الدجاجة السمينة ام الهزيلة ؟
- ليست تلك المسالة ! .
- كيف وقع اختيارك على تلك الفتاة النحيفة .. انها من عائلة فقيرة جدا ولا تناسب مستوى عائلتنا الاجتماعي .
- لكن ....
- يبدو انك لا تحسن الاختيار .. سنختار نحن لك .
- لكن يا ابي انا هو الذي سيتزوج ! , واعتقد ان الخيار خياري .
احتدم الجدال بين الاب والابن , فهدد مشيطي امه واباه بالانتحار ان لم يكن له ما اراد , فلجأ الاب الى حيلة , واظهر انه موافق على زواجه من كشيمره , على ان يذهب مشيطي لوحده لخطبتها , وافق مشيطي ودخل الى غرفته مسرورا فرحا .
امر شكاحي الخدم ان يعدوا له عربته الخاصة , فقصد بيت شعيوط , الذي رحب به كثيرا , لكن شكاحي بعجرفته امتنع من مصافحته , وكلمه بكلام فظ , واخبره بأن مشيطي سيأتيه خاطبا ابنته , لذا فيجب عليه ان يرفض بأي عذر كان , وافق شعيوط خوفا من تهديدات شكاحي .
***************************
ذات يوم , بينما كان مشيطي وكشيمره جالسين في زريبة الحيوانات , يتبادلان اجمل عبارات العشق والهيام , تحت انغام موسيقى نقنقة الدجاج , وثغاء الخروف , ومواء القطة , وعواء الكلب , الذي يبدو انه يلعب دور قائد الاوركسترا .
في تلك الاثناء , فتح باب الزريبة , ودخل شعيوط , فأظهر شيئا من الغضب على مشيطي , وبعد جدال حاد , لم يوافق شعيوط على تزويج ابنته منه , وطرده بعنف .
***************************
قرر مشيطي وكشيمره الانتحار , فصعدا على جبل خنيفر القريب من المدينة , والمطل على بحر عميق , جلسا على صخرة هناك , فشرع مشيطي بذكر اشهر العشاق في التاريخ , روميو , قيس , عنتر , عبود ابو شلفه , ولهمود ابو الدبس , بينما ذكرت كشيمره اشهر العاشقات في التاريخ , جوليت , ليلى , عبلة , انغيشه , كحومه , واختلفا في من سيقفز اولا , هي ام هو ؟ , فأحتجت كشيمره ان الرجل من يقفز اولا , شعر مشيطي بالاختناق , فنهض من مكانه وقال :
- لم اعد ارغب بالحياة ! ... سألقي بنفسي في البحر , ومن ثم الحقي بيّ ! .
- وانا كذلك ! .. فلقد ضاقت بيّ الانفاس .
رمى مشيطي نفسه من تلك الصخرة , صارخا وكأنه يخاطب البحر , متحديا اياه :
- احبك يا كشيمره !! .
حالما وقع في البحر , التقمته اسماك القرش , ترددت كشيمره في القفز , وارتعدت فرائصها , من هول ذلك المنظر , ففضلت العودة الى البيت .
*****************************
يوما ما كان العاشق المتيم مناتي يتجول مع عشقيته نجود , حتى اذا ما وصلا الى اخدود عميق , فطلبت من ان يقفز الى الجهة الاخرى , رفض بابتسامة خبيثة وقال :
- السيدات اولا !!! .