معذرة يا شيخنا
نعماء المجذوب
كانت "سعاد" تجري، والفرحة تجري بإثرها، وهي تحمل شيئاً من أمها إلى زوجة الشيخ مدرس الدين في المدرسة، كان ذلك في يوم صيفي من أيام الإجازة.. طالما أحبت شرح الشيخ عبد الواحد، وتأثرت بتوجيهاته وإرشاداته.
انتابتها دهشة حين فتح لها الباب، استقبلتها بابتسامة ترحيب، وبعينين مفتحتين، تبسمرت في مكانها عند عتبة البيت، وصوت يصيح في أعماقها من العجب:
ماذا أرى؟ أوشك ألا أصدق؟ أهذا هو شيخنا الأعمى؟
فغرت فمها من البله، تسمرت نظراتها بعينيه البراقتين، وهي تلمح سروره بلقائها.
قالت:
- بالفعل، لا أصدق، أيمكن أن يكون الذي أمامي شخصاً آخر شبيهاً بالشيخ عبد الواحد؟
بصوت بهيج دعاها إلى الدخول، أردفه بنداء أم عبد الرحمن زوجته:
- بالباب سعاد بنت أم حسان، تعالي.
تذكرت وجوده أثناء حصة الدين في المدرسة، ولما يتجاوز عمرها الرابعة عشرة، شعرت بالخجل كانت تظنه أعمى، إذ كان يشرح ويسأل وهو مطبق الجفنين، فتستغل سعاد حالته بقراءة موضوع، أو عمل واجب، ولم تتلعثم حين يلقي عليها بسؤال، فتجيب بسرعة، وعيناها لا تزالان تنظران إلى ما في يدها، وتقول في سرها:
- لا يهم شيخنا أعمى، يسمع ولا يرى.
فتصغي إلى شرحه، وتستمتع، وتكتب ما تشاء.
تساءلت بحيرة:
- لمَ كان يخدعنا نحن الطالبات؟
مزَّق الصمت صوته، لقد تغير الآن كل شيء في ذهنها.
أقبلت أم عبد الرحمن، ازدادت سعاد دهشة، أمامها امرأة كالألماس بريقاً، وكالوردة ربيعية عطرة، تعقد خصلات شعرها باقة منمنمة من الأزهار، وتزيدها الابتسامة والتهليل جمالاً.
جذبت أم عبد الرحمن سعاد برفق إلى الداخل وبصوت ندي سألتها:
- لم أنت خجلة؟
حاولت أن تداري ما بنفسها، وبارتباك قالت:
- لا لست كذلك.
أخذت المرأة بيدها تتجول في أرجاء البيت، فكانت سعاد مبهورة فيما ترى.
ليوان واسع، رصت على جوانبه أصص الورود، وبركة تثرثر بمائها، وتداعب الأزهار برذاذها وفي الجدار الغربي نافذة، يشاهد منها البحر، تنساب على صفحته زوارق صغيرة، تترك وراءها نجوماً تتكسر تحت أشعة الشمس، تتلألأ كشظايا المرايا.
كانت عيناها تتجولان في الأمكنة، تنسيق، جمال، أزهار, وألوان، وزوجة الشيخ الذي كانت تظنه أعمى، تراءت كأجمل زهرة، وأزكاها عطراً، وأعذبها حديثاً.
لامت سعاد نفسها في صوت هامس، وتمنت لو تعتذر لمدرسها الشيخ، ولكن هل يقبل عذرها؟
خرجت من البيت تشيعها البسمات، والدعوات المباركات، وفي ذهنها صورة جديدة لن تمحى أبداً، وفي صدرها مشاعر متماوجة ندية كنداوة الترحيب والوداع، رطبة بالإعجاب والتقدير كرطوبة هواء البحر المتسرب من النافذة.