الكبرياء.. لا تشيخ
نايف عبوش
في زوايا بيته القروي الصغير، تتبعثر لوازمه بعشوائية،فعلى الرف منجله العتيق، وعلى الدكة،قربة الماء المتيبسة،وفأسه المثلمة النهاية،معلقة في الحائط،وعلى مقربة من حصير فراشه الرث،تتناثر أسمال ثيابه، وثمة كسرات من بقايا رغيف شعير تناوله للتو، وطاسة نحاسية بالية،بقعرها فضلة ماء من بئر الناعور، يستعين بها على ازدراد لقمته اليابسة،كلما غصت في حلقومه.
تجاعيد وجهه المكفهر بقترة،ونتوء ناصيته المكورة،وعيناه الغائرتين بحور،تنبئ كلها ببعض مكابدته المريرة عناء السنين،وتحكي الكثير من قصة حياة الشيخ العجوز،المليئة بالأشجان.فقد تخطى توا على ما يبدو،عتبة الثمانين من عمره بقليل، لكنه مازال يحب الحياة، وكأنه في ريعان شبابه،فهو يصر أن تمر ساعات نهاره في موسم الزرع، بين كد مرهق لبدنه تارة، والتقاط لأنفاسه المنهكة، تارة أخرى،دون أن تهبط عزيمته، أو تنثني همته،فيعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا.. ولا ينسى أخراه، إذ يعمل لها كأنه سيموت غدا.
يعيش الختيار...وحيداً مع عجوزه العقيم في بيته،الذي تحيط به أكوام من حطب الطرفا، كان قد احتطبها للشعلة،والإفادة منها كسياج لداره،وحظيرة لإيواء معزاه،حيث اعتاد أن يخرج من فتحة ضيقة فيها صبيحة كل يوم، متكئا على عكازه الخشبي العتيق..فقد أجبرته عوادي الزمن المر على الكد،وأن يتأبط فأسه إلى ارض البستان،التي لا تبعد كثيرا عن داره،فهي على مدى مرمى عصا منها،ليصلها عادة بعد تدخين سيكارة،دأب أن يلفها بيده من كيس تبغه، الذي اعتاد أن يعلقه بحزامه،على جنبه الأيمن،وهو يطوي النيسم الترابي راجلا صوب البستان،يدندن بعتابة شجية مع نفسه،حيث لم يعد بمقدوره،امتطاء حماره بتقدم العمر.
كان دوما ينفث دخان سيكارته بكثافة،متأففا ارض بستانه المعطاءة،حيث أضحت جديبة بالتعرية المستمرة،وخلت حتى من استنبات أحراش الشوك والعاقول،إذ لم يعد يقوى على حرثها وسقايتها،وهو الذي ألف بعمره الطويل فلاحتها بالرقي، والطماطم،والباميا البتراء، والخيار القثاء،منتظراً رزقه المقسوم في نهاية كل موسم، بلا منة من احد، غير الرزاق الحميد.
ويبقى الختيار العجوز على ضعف بنيته، بتقدم عمره، تأخذه العزة بأنفة وحدته،وهو الكلالة الذي لم ينجب..متأبطا فاسه،حيث يأوي إلى ظل العرزالة،التي رفعها من قش أرضه،لاستراحة الظهيرة،في قيلولة قصيرة من عناء عمله،بعد أن يمسح غبار التربة الذي امتزج بعرق جبينه الناتئ،عن وجهه المتعب،ليستعرض فصول مسرحية حياته الشقية، متحديا بكبرياء جامحة، هموم السنين وتداعيات تقدم السن، حيث آن له،لو أنه أنجب ذرية،أن يستريح من أعباء الحياة عند هذا الحد..لكن العجوز المنهك بعناء السنين،في مشوار عمره المتعب بشقاء الحال،أبت عليه كبرياؤه أن يشيخ بضغوط الحياة، وتوالي جدودها العواثر،فظل،مفعما بحيوية روح الشباب،التي زهدته النظر إلى ما في أيدي الناس،ورسخت ترفعه عن انتظار معونات الآخرين.