فراق الستة
سماح سليم شمالي
مضى بنا العمر الرقيق ونحن ستة , قضينا كل معاني الفرح والسرور رغم ما كنا نرى من قتل و تعذيب , كانوا قد أسمونا " براءة الطفولة " فأنا و لمى وآية وندى ونورا وهدى , ستة منذ أن ولدنا حتى السابع والعشرين من ديسمبر الحزين في العام ثمانية وألفين , قضينا الابتدائية والإعدادية بكل سعادة وحققنا بعضاً من الطموحات وكانت كل واحدة تكمل الأخرى في فن معين كنا متميزات بما نمتلك من الذكاء البديهي والمواهب الكثيرة و سرعة الاستيعاب !
فتلك لمى الشاعرة و وآية وندى اللاتي يجدن فن الرسم ونورا وهدى اللاتي لا يكفن عن النشيد بصوتهن الصداح !
أما أنا فقد كنتُ مدققة لكل ما ينتجن فجعلوني بمثابة الناقدة وقد كنتُ فرحت لذلك ولم أدري يوماً بأني سأجيد فن الرثاء !
في ليلة اليوم السابق للسابع والعشرين كنا جميعاً لم ننم فكان لدينا في صباح اليوم التالي اختبار اللغة العربية فقررنا أن نسهر حتى نكون نحن الستة ذوات أعلى علامة في المدرسة !
مات الليل و جاء الصباح وكنت قد أحسست بأنّ هذا اليوم باردٌ جداً بخلاف تلك الأيام التي مضت فكرت قليلاً في سبب هطول الأمطار بشكل غزير في ليلة السهر توصلت إلى أنه ربما إشارة لنا بالتوفيق في مطلبنا في الامتحان فالغيث خير !
لم أحس ببرودة تلك الليلة فحسب ولكن أحسستُ أيضاً أنّ اليوم لدي طاقة كبيرة لم أكن أمتلكها في كل الأيام الماضية وبكل ارتياح في المذاكرة ممزوج ببعض القلق من الامتحان ذهبنا نحن الستة إلى الامتحان قد كانت الساعة السادسة صباحاً فقطرات الندى لم تزل تتساقط ولا زال يشتد البرد ولم نزل نمسك بأيدي بعضنا حتى تدفئ كلاً منا الأخرى رغم أن الامتحان بعيد بعض الشيء فأمامنا ساعتين لموعده إلا أن ندى تصر على أنه لا بد من أن نسرع الخطى كثيراً حتى لا نتأخر , لم نحبط طلبها فأسرعنا حتى كدنا نجري وهدى تقول أشعر بأنه لن يتفوق أحدا في هذا الامتحان غيرنا قلت لها كوني ودودة يا هدى وتمني لغيرك كما تتمنين لنفسك فأجابتني مجرد إحساس يا هذه !
ووصلنا المدرسة واسترحنا قليلاً وقبل أن ندخل غرفة الامتحان تخبط بنا الخوف جميعاً لسماع صوت ضجيج الطائرات التي تحوم في سمائنا قد أدخلونا مبكراً إلى غرفة الفصل حتّى يمر الامتحان على خير !
دخلنا الغرفة وكل واحدة منا تشير إلى الأخرى أن لا تتردي و توكلي على الله وأنادي بهن تمهلن في الإجابة قولن دعاء الصعب !
وبدأ الامتحان واشتد علينا صوت طيرانٍ كغربان فقدت البصر وتحوم في الفضاء لا تدري إلى أين تذهب وتصرخ بكامل صوتها بكل رعونة وبكل لا وعي !
ونظرات المراقبة في الغرفة تشتد حدة ألمح أنها خائفة قلقة تارة ومخيفة مقلقة تارة أخرى !
انتهينا من الامتحان وخرجنا من ذلك القفص بعد 4 ساعات من التحقيق والتأكد من قوة دراستنا كانت الأسئلة كثيرة جامدة بعض الأحيان لكن لم تزعزع تمكننا من لغتنا ما وجدناه صعباً أسعفنا فيه الذكاء وما كان غامضاً أسعفنا فيه سرعة الاستيعاب !
عندما خرجنا كانت الساعة كادت تكون الحادية عشر والنصف إلا ثلاث دقائق تأكدنا أننا قد أجبنا على جميع أسئلة الامتحان إجابات دقيقة و صحيحة فرحنا لذلك قالت إحدانا هيا فلنسرع إلى بيوتنا فلربما تقتنصنا تلك الطائرة بصاروخ أو بشظية !
فأجابتها أخرى لا أنتِ مجنونة حقاً هم في هدنة قولي فلنسرع إلى بيوتنا لنكمل مذاكرتنا لامتحان التاريخ غداً هيا !
أصبحت الساعة الحادية عشرة والنصف بدون إلا , كنا في وقتها نجري مسرعين إلى منازلنا نريد أن نكمل مشوارنا في العلم والإبداع كعادتها ندى لا تكف عن الثرثرة أثناء المشي فقالت بلهثٍ ماذا لو ضربتنا تلك الغرابة بصاروخ أجابتها آية بكل سخرية ومن نحن حتى تضربنا إنها تريد أشخاصاً في نظرها مجرمين !
قلت في عقلي نحن مجرمين يا آية وأنت أكبر مجرمة في نظرهم فأول مجرم يسعون لقتله هي براءة الطفولة وأراكِ أكثرنا براءة !
أما نورا و لمى فلم أسمع صوتهن سوى بالضحك البريء !
وضربت تلك الطائرة صاروخاً وأتبعتها تسعٌ وأربعون طائرة بالضرب , وسمعنا أصوات صراخ تعلو لم يزل نظرنا موجه للأمام في مسيرنا ولكن عندما اشتد ضربٌ آخر التفت خلفاً لأرى صورة "جثث آباء" ممزقة و أطفالٌ يبحثون عن أبيهم في أجزاء الصورة المبعثرة !
ثواني رأيت بها حياة أخرى عمادها الظلم , أردت الخروج منها فوجهت نظري لليمين على اعتقادٍ بأن خمستي قد وقفن معي يشاهدن المنظر ولكن لم يكن كما اعتقدت رأيت جثثاً خمسة ملقاة أرضاً وقد بدا على بعضهن ابتسامة خوفٍ والأخريات تكشيرة غضب أما أنا فأمسيت في وضع هستيري فأضحك قليلاً وأبكي كثيراً , لم نعرف يوماً معنى للشوشرة فلما غادرن الحياة دون تخطيط مسبق كعادتنا في كل شيء لم ذهبن وتركنني وقد فعلن هذا لأول مرة ؟!
وبت أنادي هدى ندى نورا آية و لمى أعتقد أنكن تمزحن مزحاً ثقيلاً , أفٍ لمزحكن ليس وقته الآن , هيا يكفي فقلبي كاد يتبعكن ! أترضون أن أكمل الطريق وحدي لا أنا لست أنانية أريدكن معي لنكمله سوياً فلمن سأوجه انتقادي ؟ أعتقد أن توزيع الأدوار في الإبداع كان خطأً كبيراً كان من الأفضل أن أكون رسامة أو شاعرة حتى أرسمكن جيداً وقد فارقتن الحياة أو أنقش على كف العدل شعراً منثالاً بالرثاء ! أصررن أن أكمل الطريق لوحدي وأن أكمل نفسي بنفسي وأن أتقلد أدوارهن وأنتقد نفسي , ستة عشر عاماً ونحن ستة وفي آخر عام أصبحتُ واحدة ليس كالقمر وإنما أتحمل القهر وحدي عرفتُ معنى الصبر وتذوقت المر , كذاك الطفل والأنين لم أكف عن البكاء والنحيب فكيف لا أصبح عاماً بموتكن حتى لو بلغتُ العشرين !
في كل سبعة وعشرين أخشى طقطقة العقارب عندما تبلغ الثلاثين من الدقائق أتهيأ لأتلقى ضربة موجعة في الصميم ولكن هذا طبع العقارب عندما أسهو و يغفى الجرح دقيقة سوف تلعنني طائراتهم بصاروخ غدر وتطول جثمان البراءة ذاك الذي دفنته في بؤبؤ عيناي , إنني أيقنت أنني نحسى ولن أرجعهم بفلسى و سأمضي حياتي فلسى ولن أكنز سوى أنات وحنين سأبقى أتجرع الألم الدفين وأتسربل بالدموع والأنين ستبقى ذكراكم سكيناً يهدني هدا ومهما جرعتهم الكأس مرا وأطلقت قذائفي قهرا وقلبت الحال فجعا ودويت بصوتي دويا ولعنت ظلمهم لعنا ومحيت وجودهم محيا وجعلت منهم الميتة أو الميتة وحلقت في الحقوق سرحا واستنشقت الحرية عشقا فلن أعانق خمستي ولن نكون ستة ولن نكمل طريقنا القطعا لأنهم لن يعودوا لأنه حلما , فبموتهم أصبحتُ ميتاً محكوماً بالحياة و قد كنتُ حياً محكوماً بالموت .