انطفاء في ذاكرة الأشياء

انطفاء في ذاكرة الأشياء...

كريمة الإبراهيمي

لا أذكر زمن الموت الأول معك...

كما لا أذكر بداية انتحاراتي المتكررة في صدرك وأنا أهرع إليك مذعورة من دمع الشوارع ودمارها...

 كنت تردد لي:سيقتلك حزن هذه المدن...تعالي معي لأحميك من هذا الدمار.

وكنت أترك في صدرك كل دماري وخيبتي وأبدأ الركض من جديد...

 منذ فقدت فرحي الكبير وأنا أركض دون هدف فقط لأنسى ما حدث...

 لأنسى جسده المحترق بذاك الشارع الحزين يوم كنت في انتظاره على شاطئ أحلامنا التي احترقت بعد رحيله...

 كم أحببتك يا-عمري-...

 وكم كان الزمن جميلا...

 هل تذكر يوم أعلنت لي حبك والبحر يضمنا ...؟

 يومها كان وحده الذي يعرف سرنا...

 قلت له:لا تضيعنا...

وصرخت بأعلى صوتي:قف أيها الزمن ما أجملك...

 هل بدأ جنوني بك يومها وأنا أستمع إليك في تلك القاعة المليئة بالأضواء والوجوه والشعر؟

أم بدأ جنوني بك يوم أهديتني ديوانك الملون وأنت تقرأ تفاصيل عمري في لمسة يدي حين أبقيتها في يدك؟.

 في ذلك اليوم انحزت إليك أكثر مما أردتُ...

 ألغيت كل تصوراتي عن سلطة الرجل في وطن لم يقتلنا إلا رجاله...

ودفعني إليك غيم مدن لا تمطر سماؤها إلا الوجع والأحلام المهشمة ...

 هربتُ من الموت وقد داهمني في ليالٍ أكثر غيما..وبردا...

سلبني دفء الحكايا ولذة الحلم فاستسلمت له بعد أن أفقدني أحبتي ووجوه ذاكرتي القزحية...

 تعلقتْ أشيائي بك ...

رأيتها تتوسلني في صمت أن أدس ما تبقى من عمري في قبضتك لئلا تذروه الريح الشرسة في دروب أكثر ملحا ودما...

وتدفأتُ بحضورك فشعت في دمي أضواء وأحلام وزهور بنفسج لم تسعها ذاكرتي...

تدثرت بكلماتك والحب الأبيض وأنا اقرأ في عينيك سيمفونية عشق امتدت كلبلاب وتسلقت أحشائي:انه لي...وجه عمري وعبق الآتي...

 يومها لم أتنبأ بخرابي وانطفائي في التحديق ومواسم الدفء ترحل...

لم أتنبأ بالارتجاف في شوارع الموت والانتحار في فراغ الأشياء...

 أنا هنا أرسم وجوها...

ألون قلوبا وأضم قلبك في راحتي...

 يكبر اليوم في فزعي...

تتعدد الأشباح والأصوات والبكاء في قلبي...

ولا شيء يؤهلني لأحيا...

 يفاجئني العمر بتعبه وشظايا وجهي المهشم وكل أزمنتي القابلة للتلف...

 أحدق في مرآة الوجع وأبكي بحرقة قاتلة...

كنت وحدك تدرك سر حزني وكنت تدفئني حين أكون باردة وضائعة مني أنا...

 لم رحلت؟

 وأنت خذلتني يوم وعدتني بأن تزرعني في غيمة شوق جارف وتسكنني خيمة من ياسمين...

 الآن لا شيء يوقف هذا الهشيم في داخلي...

لاشيء ينسيني أحلامي التي أحرقتها في راحتيك وأنت تقسم بعيني وبالقمر وبالدمع الكاذب إذ انهمر بأنك ما أحببت سواي وأنك لي...

وصدقتك بحرارة جمر قبضته بيدي...

 كاذبةُ كنتُ وأنا ألهث في صحراء قلبك أحاول أن أصمد على الرمل المتحرك لألتصق بك...

 دائما كنت وحدي...

وأنت ما كنت لي أبدا...

 دائما كان شيء ما يفرقنا...

كانت مجرد قصة اختلفنا في وضع نهايتها...

قصة شكلها كل واحد منا حسب أهميتها بالنسبة إليه...

كانت قصتي الأجمل، وكانت عبث لحظة لديك...

 أحييتك في عمري،ودفنتني في الورق...

 وها أنا أبكي في الفراغ، وكل ما حولي هش وقابل للانكسار...

الموتى وحدهم يملؤون ذاكرتي...

وأنت تسافر في جسدي المتعب...

 ها أنا أغلق باب غرفتي وأبكي تشردي في نبضات قلبك المحجوز مسبقا لغيري...

أبكي وأنا قد غادرتني كل الأشياء...

أبكي وأعي أن الغدر فيك كان كما الدفء الذي أهديتني إياه لأحيا، ويؤلمني أنني مازلت أحيا...

 الآن انتهيت...

 كاذبة كل النظريات وكاذبون أولئك الرجال الذين وضعوا لنا فلسفتهم في الحياة وكانوا أول الغادرين...

 كاذبة كل الأحلام...والورود...

 وها أنا أخفي انطفاءاتي في جحيم صدرك وأخفي سر اشتعالاتي وكل الدمار الذي خلفته لي...

 هل قررت فعلا أن أخترق جدرانك؟

هل قررت فعلا أن أوقف انتحاراتي في يديك وأتمتع بلذة الجمر في يدي؟ .

 أنا لم أقرر لأني لم أختر قصتي معك...

لم أختر موتي في عمرك الذي أحرقتَه في صدرها، فكنت فقط نسخة مزيفة من حلم غادرني ذات ليل حزين وترك الشوارع مطفأة من ضوء عينيه، وتركني باردة أفتش عن نسخة منه...

 أترى...؟

 الآن هدأ كل شيء...

انحبس الدمع وانطفأت ألوانك في عيني...

صرتُ أشبه بالريح وهذا يفرحني لأنك لن تمتلكني، لن أتمدد في راحتيك وأتلوى شوقا لتضمني وتسكب في عيني حرائقك إليها...

 أعد إلي عمري...

أعدني إلى عمري ولن أطلب أن تظل لي...

دائما كنتُ ألاحقك وكأني ألاحق الريح ...

أحدق في الوجوه الباهتة وتتعبني هذه الظلال المبهمة...

يتعبني موت الذين أحبهم...

 تجرفني مدني-التي كانت جميلة-إلى دمار شوارعها ودمنا المسكوب غدرا...

إلى طرقاتها المسدودة ذعرا...

أتسلق أزمنتها الحزينة وأنا أكثر استعدادا للموت بعد أن خسرتك وانطفأت في ذاكرتي كما لحظة الحب الأولى التي تكون أصدق ما في الحكاية...

 لكن المدينة تطوي أحلامها الباردة وتتركني ضائعة، أنحل إلى ذرات يصعب جمعها ولا تدرك حاجتي إليك دون أن أبرر لها تلك الحاجة وذاك الشوق الذي يهزني كموج هادر كلما تذكرت كلماتك الزرقاء"سأكون لك...تذكري أنك أجمل مدينة شدني عبقها فاستسلمت له..أنت أجمل ما يمكن أن يحدث لي".

 أقف على عتبة الانتهاء مطحونة القلب ومجروحة إلى آخر حدود الألم...

امرأة بلا حب،

 وبلا وطن...

 لكنك

والوطن

 وأحلامي الكثيرة تحتلون ذاكرتي وتحاصرونني لكنني أغوص في حلم أفتش عن شخص واحد فقط يذيبني في صدره ويؤكد لي أنني أحيا وأنه لا يريدني أن أنطفئ...