الأخت

الأخت

مصطفى نصر

[email protected]

دخلت شارع جبل ناعسة المزدحم بالمقاهى ، سارت بقامتها الجافة المشدودة . الرجال يجلسون على مقاعدهم ؛ أكثرهم يرتدون الملابس البلدية ، وتطل طواقيهم - فوق رؤوسهم – تطاردها ، تجعلها تتعثر ، تكاد تكبو على وجهها . بعض أقاربها وأصدقاء زوجها وأخوتها يرتادون هذه المقاهى ، قد يقومون من أماكنهم ليسألوها عما تريد . أخفت وجهها بطرف ملاءتها السوداء لكى لا يعرفونها .

 أين قهوة عبدا لراضى ؟ المقاهى عديدة أمامها . سألت طفلا عنها ، فأشار إلى واحدة تقع على الناصية ؛ أمامها شجيرات ملفوف أعلاها بقماش أبيض .

تابعت البيوت بجوارها ، لم تجد مدخلا أمامها . باب البيت فى الزقاق المجاور . سارت ناحيته ودخلت البيت لم تجد من تسأله عن المعلم عبدا لراضى . وقفت بعض الوقت فى دخلة البيت الواسعة والطويلة . ثم سارت بضع خطوات ودقت الباب :

- أريد المعلم عبدا لراضى .

- من أنت ؟

أجابت المرأة التى سألتها :

- إننى امرأة .

صاحت فى سخرية :

- ماذا تريدين منه يا امرأة ؟

- موضوع خاص .

مصمت المرأة شفتيها وتحدثت من مكانها مع زوجها الذى بالداخل ، فجاء بقفطانه :

- من ؟

تراجعت – هى – حتى وصلت إلى منتصف دخلة البيت . قريبة – هى الآن – من باب البيت المفتوح على الدرفتين ليسهل هروبها إذا لزم الأمر .

- أريدك فى كلمة سر .

- أدخلى ، تعالى إلى الشقة .

 نظر عبدا لراضى إلى زوجته مندهشا ومتسائلا عما يفعل ، وليؤكد لها أنه لا يعرف هذه المرأة .

- ماذا تريدين ؟

أعطته الجنيهات الخمسة التى كانت فى يدها طوال الوقت حتى امتزج العرق بها :

- قطعة أفيون .

صاح غاضبا ورمى لها الجنيهات الخمسة :

- أفيون ؟! حد الله بينى وبينه، أنا لا أبيعه ولا أعرفه ، إذهبى عن بيتى .

وأسرع إلى الداخل . قال لزوجته – قبل أن يغلق الباب - : مباحث .

 وقفت محتارة وسط دخلة البيت ، دقت الباب ثانية ، عندما فتح عبدا لراضى وجدها تبكى وترتعش، وتمد الجنيهات الخمسة ثانية :

- أرجوك ، أخى مريض فى بيته وفى حاجة إلى " فص أفيون " .

صاح بها :

- يا امرأة أنا لا اعرف الأفيون ولم أره فى حياتي .

وعندما شرع فى غلق الباب ؛ وضعت يدها على الدرفة ومنعته :

- أنت تعرف أخى .

وعندما ذكرت الاسم ؛ هدأ الرجل ، فهو يعرفه جيدا ، من رواد قهوته ، وزاره مرة فى بيته مع بعض الرجال عندما علم بمرضه :

- تفضلى إلى الداخل ، سأحضر لك الأفيون .

 جاءت هى من الصعيد شابة ، عمل زوجها وأولادها فى الإسكندرية واكتفت – هى –بلوازم البيت وإعداد الطعام لهم . لا تعرف الذهاب إلى أبعد من " محطة مصر" القريبة من البيت . وعندما يقام حفل فى مسرح بمحطة الرمل ؛ لابد أن تذهب مع من يعرف الطريق حتى لا تتوه . طوال الحياة التى عاشتها فى الصعيد والإسكندرية ؛ لم تدخل قسم شرطة ، حتى عندما تشاجرت مع جارة لها واشتكتها الجارة فى قسم الشرطة ، وطلبوها هناك ؛ عمل زوجها وأولادها وأخوتها المستحيل لكى لا تذهب إلى هناك ، فمن العار أن تدخل المرأة قسم الشرطة لأى حال من الأحوال، والتى يحدث لها هذا ؛ تعايرها النسوة الأخريات ، لأن أهلها لم يستطيعوا حمايتها ومنع الشرطة عنها .

 لكنها تسعى – هذه المرة – إلى حتفها بقدميها ، أفيون ؟!، أتذهب لشرائه بنفسها ، أيمكن أن يصدق هذا عقل ؟! لكن أخاها النائم فى بيته منذ شهور – وغير قادر على السير – أمسك يدها قائلا فى توسل :

- لم أتعاط أفيونا منذ وقت طويل .

- هذا لمصلحتك .

- إننى أدرى بحالتى ، أكون قويا إذا تعاطيته .

- قل لولدك .

- قلت ، لكنه لا يسمعنى ، بائع الأفيون كان يجيء كل مساء ، زوجتى وولديها طردوه ومنعوه من الحضور .

 يستطيع الولد الأكبر أن يأتى له بالأفيون المطلوب ؛ فهو يعرف تجاره . لكن النقود قليلة ، فمصاريف البيت كله تعتمد على الولدين اللذين يعملان فى ورشة للأخشاب ، يصنعان الأبواب والنوافذ ، ويدفعان لصاحب الورشة أجرة ( المكن ) الذى يستخدمونه فى مسح وتقطيع الأخشاب.

 أخرجت منديلها من صدرها وأمسكت ورقة من فئة الخمسة جنيهات مكرمشة واعطتها لأخيها ، قال :

- من سيشتريه لى ؟!

صاحت فى دهشة :

- إننى لا أعرف بيعه .

جاءت زوجته – حينذاك – لتقدم الشاى لها ، فتوقفا عن الحديث، وأخفت الخمسة جنيهات حتى لا تراها الزوجة . بعد أن خلت الحجرة إلا منهما، قال :

- تعرفى قهوة عبدا لراضى ؟

- لا .

- فى جبل ناعسة ، اسألي عنها هناك .

- تريدنى أدخل قهوة أمام الرجال الجالسين ؟!

- لا، شقة المعلم بجوار قهوته ، فى الدور الأرضي ، هو سيبيع لك .

- لا أستطيع .

سعل الرجل حتى ازرق وجهه .

- سأستريح إذا مضغت فص الأفيون .

أسرعت الزوجة والأولاد عندما سمعوا صوت سعاله ، قالت الزوجة :

- ماذا حدث له ؟

كان يلهث وصوته متقطعا ، قامت الأخت وقالت :

- سأذهب لإحضار الدواء .

****

 أمسكت الأفيون فى يدها وسارت ، ماذا لو تتبعها البوليس . أو قد يكون بيت المعلم مراقبا. ياه، ستكون فضيحتها لا مثيل لها فى عائلتها ، بل فى بلدتها كلها . تحسست الفص الملفوف فى ورق سيلوفان ، ملمسه ناعم ، كاد ينزلق من بين أصابعها . آه لو وقع ، سيراه المارة ويعرفون إنه أفيون .

 تنهدت فرحة عندما وضعت قدميها فى أول الشارع الذى يسكنه أخوها . مهما حدث فلن تهتم ، المهم أن تعطى لأخيها ما يتمناه .

 فى دخلة البيت درجتان مصنوعتان من الطوب الأبيض الكبير غير المطلى . أرادت أن تجلس فوقهما وتبكى حتى تدخل لأخيها مرتاحة ، فالبكاء يدفع نفسه داخلها ، الدموع تداعب عينيها ، لو بكت فى شقة أخيها ستأتى زوجته وأولادها – خاصة الولدين الكبيرين – ليسألوها عما يبكيها .

 دخلت الشقة ، لم يكن هناك أحد أمامها . الزوجة فى المطبخ تعد الطعام ، رائحته تفوح ، والولدان الكبيران خرجا ، وشقيقها نائم . حمدت الله لأنه استطاع النوم ، فقد كان يتمناه ، ستوقظه، وتعطيه الفص لينشط جسده كما يقول . لابد أن نحقق للأنسان ما يتمناه ، ثم يحدث بعد ذلك ما يحدث. أو ربما يكون شفاؤه على هذا الفص . نعم ، الله قادر على كل شئ .

 اقتربت من شقيقها النائم :

- أخى .

بعد أن توقظه ؛ ويضع الفص تحت لسانه ؛ ستنادى زوجته وتخبرها بقدومها :

- أخى . أخى .

ربتت فوق جسده . ثم لمست وجهه، كان هادئا ، دفعته فى صدره برفق :

- استيقظ يا أخى قبل أن تأتى زوجتك ، أحضرت لك الأفيون .

وضعت وجهها فوق وجهه وضحكت – كثيرا ما كانت تداعبه هكذا –

- استيقظ .

جاءت الزوجة ، صاحت فزعة :

- ماذا حدث له ؟

ارتبكت : لا أعرف .

دست قطعة الأفيون فى يدها . دفعت الزوجة جسد زوجها ونادته ، لكنه لم يستجب . وهى عندما تأكدت من موته ؛ رمت فص الأفيون على الأرض وصرخت .