الملك المخدوع

د. هوار بلّو /العراق

[email protected]

رُجّت الغابة عقب تلقيها لنبأ مرض ملكها الأسد ، و هاجرت على إثر ذلك حيوانات الغابة كل أشغالها و التزاماتها اليومية لتقف إلى جانب ملكها و ترعاه في محنته .. و شاءت الأيام أن طال وقع المرض ، فأمر الملك الحيوانات بالانصراف إلى أوكارها لتمارس حياتها اليومية إذ عزّ عليه أن يكون السبب وراء توقف حركة الحياة في الغابة . و دارت عجلة الحياة أسرع مما كانت عليه و لم تعدل أوجاع الملك عن شدتها لحظة من الزمن حتى جعلته طريح الفراش لا يقوى على الحراك .

     و ذات يوم من الأيام ، و بينما المرض قد أخذ من الملك كل مأخذ ، اقترب الثعلب الخادم من عرين سيده ، و تساءل قائلاً :

- ألا تحسُّ بتحسّن في صحتك يا جلالة الملك ؟

     فتح الملك عيناه و تأوه قائلاً :

- لا ألمح في جسدي أية بادرة للتحسن أيها الخادم المخلص .. إنه الموت هذه المرة بكل ما قيل عنه !!

     هز الثعلب رأسه ، ثم أردف قائلاً :

- بالله عليك لا تقل ذلك يا سيدي ، فأنت أقوى من الموت .. ألا تتذكر أنّك صارعْتَ وحوش هذه الغابة و ضواريها و صرَعْتَها كلّها على مرأى و مسمع من أهل الغابة ؟ كيف يساورك الآن إحساس بالضعف و أنت صاحب كلّ هذه الأمجاد و البطولات يا سيدي ؟

     أجاب الأسد متوجعاً :

- إلاّ هذه المرة أيها الخادم المخلص .. فصرْتُ ألمحُ الموت على أعتاب عريني و أنا لا أقوى على تحريك ساكن إزاء مجيئه . لقد بدأت اليوم أحس بإحساسٍ غريب يسري في كل أوصالي .. إنه لا شك أحساس بالموت و سكرتهِ التي يقالُ عنها .

     ثم أطرق الملك قليلاً و رمى ببصره صوب عينيّ الثعلب و تفوّهَ بأنفاس متقطعة :

- سأموت هذه المرة أيها الخادم المخلص ، و لكنّني لطالما ألْمَحْتُ في عينَيْك سرّاً على طول سنوات خدمتك في بيتي و قد عزّ عليّ كثيراً أنْ أفهم هذا السرّ أو أفك لغزه . وكما تراني فقد شارفْتُ على الرحيل عن هذه الدنيا و لم أتكهّن حقيقة هذا السرّ الذي ظلّ يؤرقُني طيلة هذه المدة !!

     سادت فترة من الصمت ثم تابع الملك كلماته :

- لقد نظرت في عيون كل الحيوانات بما فيها الوحوش و الضواري فلم أرَ فيها نفسي إلاّ قوياً و عظيماً رغم القوة التي حباها الله بعض هذه الحيوانات و الضخامة التي ميّزَ بها البعض الآخر ، و لكنني لطالما حدّقْتُ النظر في عينيك فلم أر فيهما نفسي إلاّ ضعيفاً مستكيناً رغم ضعفك و نحافة هيكلك إزاء عنفواني و صلابة أعضائي !!

     قالها ، ثم انهارت قواه و سقط تحت رجلي الثعلب ، و هو يقول :

- هو الموت أيها الخادم .. هو الموت .

     و عندما تأكد الثعلب من جدية الموقف و عدم مقدرة الملك على الحراك ، اقترب منه في هدوء و همس في إذنه :

- صحيحٌ أنك تغلّبْتَ على وحوش هذه الغابة و ضواريها كلّها ، لكنك لم تستطع بقوتك هذه أنْ تَتغلّبَ عليّ رغم ضعفي و نحافة هيكلي !!

     تعجّبَ الملك من كلام خادمه الذي لم يتفوه بكلمة على هذه الشاكلة طيلة مدة خدمتِهِ عنده ، و طاردَتْ ملامحُ الاستغرابِ ملامحَ الموت على محيّاهُ ، ثم قال و قد غصت حنجرته بالكلمات :

- ماذا تقصد أيها الثعلب بكلامك هذا ؟

     أطلق الثعلب ابتسامة شريرة في وجه سيده الذابل و قال :

- لقد دسَسْتُ لك السم في طعامك قبل أيام و كنتُ أعدّ الساعات على أحرّ من الجمر في انتظار اللحظة هذه ؟

     وقع القول على الملك كالصاعقة ، و حاول مسرعاً أن يستذكر اللحظات التي قضاها الثعلب في خدمته لعله يكتشف من بينها لحظة واحدة أساء فيها معاملة هذا المخلوق الضعيف حتى من دون قصد ، و لكنّه لم يفلحْ في اكتشافها لا مِن بعيد و لا مِن قريب .. و عاد يسأل في ضعف لا يدانيه ضعف على الإطلاق :

- لماذا فعلْتَ ذلك أيها الثعلب ؟ ماذا فعلْتُ بك حتى رأيْتَني أستحق هذا العقاب الأليم ؟ هل كان هذا هو جزاء إحساني الذي أسْدَيْتُهُ إليك طوال خدمتِك عندي ؟

     قال الثعلب و حماس الانتقام يلْهبُ مشاعره :

- ألا تتذكر أول لحظة تعرّفْنا فيها على بعضنا البعض ؟! تلك اللحظة التي غرَسْتَ فيها أنيابك في رقبتي و كِدْتَ أن تقضي على أنفاسي في طُرفة عين ؟ لقد قرّرتُ منذ ذلك الوقت أن أخطّط بكل ما أوتيتُ من دهاء و مكر لأقضي عليك أيّها الأسد الملعون !!

     حاول الملك أن يبرر تصرفه ذلك في ضعف و هوان :

- لكنّك دخلْتَ عريني من دون إذنٍ لتسرق طعامي وقت قيْلولتي و كُنْتُ أنا يومها الحرم المَهاب الذي تشل يد السوء في رحابه .. و مع هذا عفوْتُ عنك في كبرياء الملك بعد أن أمسَكْتُ بك متلبساً في جرمك ، و أحسنتُ مثواك بعد أن كنتَ متسكعاً لا تجد شبراً هادئاً من الأرض تستريح عليه و منحتُكَ شرف الحضور بين يديّ و الوقوف على خدمتي بعد أنْ كنْتَ متشرداً مطارداً مِن قِبل وحوش الغابة و أطْعَمْتُكَ مِن طعامي الراقي كلّ يوم أكثر مِن مرة بعد أنْ كنْتَ تجوع أياماً بلياليها و وضعت جُلّ ثقتي فيك بعد أن كنْتَ رمزاً للخيانة و الخديعة في الغابة كلها !! أكُنْتُ استحق هذا العقاب منك بعد كل هذا يا ناكر الجميل ؟

     أجاب الثعلب غير مكترث لكلمات الملك :

- كلُّ تلك الأيام التي قضيْتُها بين يديك لم تكن عندي سوى خطوات ذكية كان لا بدّ لي أن أخطوها لأنفذ مؤامرتي هذه .

     و عندما أحس الملك بأنّ أمره قد انتهى على يد هذا الثعلب الضعيف ، و أنّ حياته بعد تاريخ حافل بالبطولات و الأمجاد قد آلت إلى نهاية مأساوية غير مشرّفة ، ابتسم ابتسامة هادئة و سالت دماء قانية مِن فمه و أنفه .

     فتساءل الثعلب مستغرباً :

- أراك جُنِنْتَ يا أيها الملك !! فإنك تبتسم مُتأوّهاً ؟

     أجاب الملك و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة :

- إنّ ما تراه بي مِن تأوّهٍ يا ناكر الجميل فهو مِن أثر المرض الذي ينهش في لحمي و عظمي ، و ما تراه بي مِن بشاشة فهو لأنني تمكّنْتُ أخيراً مِن فكّ لغز عينيك قبل أن أموت ، فقد انجلى الغموض الذي كان يكتنف لغز عيْنَيْك و تراءَتْ لي الحقيقة .. كنْتُ إنما ألمحُ الخيانة في عيْنَيْك و لكنني لم أنتبه إلى ذلك لأنني لم أكن قد لمحتُهُ في عين حيوان آخر قابلته في حياتي ، صحيح أنك قد حقّقتَ بالخيانة ما كنتُ أحقّقهُ بالقوة عادة ، لكنّ الحق أقول لك أيها الثعلب ، إنني سأظل رمز القدرة و البطولة في حين ستظل أنت رمز الجبن و الدناءة .

     ارتعد الثعلب من شدة وقع كلام الملك عليه ، و ما هي إلاّ لحظات قليلة حتى وجدَه الثعلب قد تحوّل إلى جثة هامدة لا حياة فيها .