أمّ الهناء أو نجحتُ يا ولدي
أمّ الهناء أو نجحتُ يا ولدي
ميزوني محمد البنّاني
أتعرفون ماذا حدث منذ أيام ؟
إنه أمر قد يعنيكم وقد لا يعنيكم .
و رغم ذلك لابدّ لكم من معرفته.
فمثل الذي وقع في بيتنا من المنتظر أن يقع أيضا في بيت كل واحد منكم في الأيام القادمة.
هذا الأمر لا يتعلق بي شخصيا بل بأمي. أمي الحبيبة. لذلك لم أصمد أمام انعكاساته طويلا، فلقد أحسست بأنّني لم أعد ملك نفسي بل ملك انفعالات كثيرة ظلت إلى الآن تتلاعب بقلبي كما تتلاعب الرياح بسفينة فقدت ربّانها في عرض بحر هائج مائج .
لو كان الأمر متعلقا بشخص آخر، لكنت استطعت على الأقل أن أتمالك نفسي. لكن أن أرى في ذلك اليوم أمي ترقص على ساق واحدة رقصة الأطفال رافعة رايات النصر، هاتفة هتافا لا يناسب سنّها المتقدمة مردّدة: "نجحت يا ولدي ! ... نجحت يا ولدي !..." فذلك ما جعل رغبة الإجهاش بالبكاء تختلط في صدري و حلقي برغبة الانخراط في الضحك و المرح.
لا تحزنوا فالمقام مقام فرح بالحصاد. زرعت أمي فحصدت.
أتعرفون أمّي ؛ "أمّ الهناء." ؟
إن كنتم لا تعرفونها فستعرفون مستقبلا كثيرات يشبهنها.
أمّا سكّان حيّنا، فمن منهم لا يعرف "أمّ الهناء"؟
اسألوا أيّا كان منهم فسيحدّثكم عنها بكل شغف قائلا: "... عجوز في عقدها السادس و رغم ذلك استطاعت أن تصنع من المشيب و الوهن أشعّة نور أضاءت حياتها."
و لكن مهما كانت معرفتهم بها عميقة فلن تكون مثل معرفتي بها أنا ابنها.
لابدّ أن تتخيّلوها يا أيّها الذين لم تروها قطّ.
سامقة هي في ملحفتها الفضفاضة التي تداري عجفها، و نخلة ترفض أن تنحني لجبروت
الرياح
و السنين.
صحيح أنّ التجاعيد طالت وجهها، ورقبتها و يديها، لكنّها حين أرادت أن توقّع توقيع الشيخوخة على عزمها، لم تجد إلا صخرة صلبة انكسرت عليها مخالبها و أقلامها الرديئة، فتراجعت مدحورة. لعلّكم الآن عرفتم ما به حققت أمي ذلك النجاح.
أضيفوا إلى ذلك شيئا آخر مهمّا، لا تتعجبّوا إن قلت لكم هو الحرمان.
نعم الحرمان!
حرمان أدهى و أمرّ من أي حرمان ماديّ آخر.
حرمان كانت أميّ تعبّر عنه بالتنهّد حينا و النّشيج حينا آخر. يحدث ذلك خصوصا إذا كنّا مسافرين. فكم نظرت إلى اللاّفتات و العلامات الكيلومترية التي كنّا نمر بها بعينين منكسرتين ، ثمّ أطلقت زفرة طويلة مشحونة بالألم !
و كم بعد إطراقة حزن التفتت إليّ ، و أنا في المقعد الخلفيّ لسياّرتنا العائليّة ، تطلب منّي هامسة أن أقرأ لها لافتة ، أو يافطة ، أو علامات طريق و نصبا كيلومترية كانت تعتر ضنا !
و بعد أن أضيء لها ما كان معّتما، كانت كثيرا ما تشتكي إليّ من ضعف البصر كما كان هو الذي يمنعها في كل مرّة من القراءة. لكن حمحمة واحدة من حمحمات أبي كانت كفيلة بأن تجعلها بعد مناورة تطرق برأسها معترفة بأميّتها، مستسلمة لها في انكسار مدم.
أمّا متى تعبّر "أم الهناء " بالنّشيج عن هذا الحرمان، فذلك كلّما تحيّل عليها عطّار الحيّ.
مازالت أذكر يوم أن التجأت إليّ للتثبّت من جملة أثمان المشتريات.
يومها، ما إن كشفت لها عن زيادة العطاّر للمجموع دينارا كاملا حتّى غصّت بالبكاء مستسلمة لنشيج طويل مزّق نياط قلبي. و حين كنت أهدّئ من روعها خرجت من طوعها كلمات كانت تتقاطر مرارة من جرّاء حدّة الشّعور بالحرمان. ماذا قالت أمّي لحظتها ؟
"... سامح الله أبي... لو كان علّمني في صغري لما ضحك العطّار على ذقني في كبري.."
أعرفتم الآن أيّ حرمان قصدت ؟
الحرمان من المعرفة طبعا.ماذا كنتم تعتقدون ؟
لذلك كانت أمّي أوّل من بادرت بتسجيل اسمها عندما خصّصت إدارة الشّؤون الاجتماعيّة قاعة من قاعات مدرسة الحيّ لتعليم الكبار، سرعان ما التحق بها أهل الحيّ من الأمّيين و الأمّيات من مختلف الأعمار بعد يوم أو يومين.
وا سألوا" أمّ الهناء" عن يومها الأوّل بالمدرسة تسمعوا العجب..
منذ ذلك اليوم، صرت أنا و أمّي نترافق إلى آخر الحيّ، و قبل أن أنعطف إلى مقرّ عملي كان يطيب لي، أحيانا، أن أشيّعها بعينيّ مازحا:
"..أين ميدعتك يا أمي ؟"
"لماذا لم تأخذي معك لمجة ؟"
"... يسؤونا أن تشتكي لنا المعلّمة من قلّة مشاركتك في الفصل. الانتباه نصف النجاح يا أمي."
"... لا تغادري مقعدك أثناء طلب المشاركة. ارفعي إصبعك بهدوء و بعيدا عن أنف المعلّمة."
"... ماذا ستختارين من بين الشّعب يا أمّي بعد التّخرّج ؟ هل ستختارين شعب العلوم لأنّها صارت توفّر فرص التشغيل لخرّجيها أكثر من الشّعب الأخرى ؟"
و في المساء، كناّ إذا التففنا حول مائدة العشاء أخذت مستعجلة لقمتين أو ثلاثا ثم تمدّدت على الكنبة تلاقي في شوق عجيب كتب الحساب و القراءة و التمّارين. و أمام انقطاعها المتكرّر عن الأكل من أجل متعة الدّرس، كان أبي لا يترك الفرصة تمرّ دون أن يعاتبها بنبرة مشحونة بالإشفاق:
"... تغذي كما ينبغي أوّلا و إلا عجز جسمك على المقاومة.. لبدنك عليك حق يا "أمّ الهناء."
و دفاعا عن قناعاتها، كانت أمّي تجيبه على الفور، و بدون عناء و انقطاع عن كتبها قائلة:
"... و لعقلي أيضا عليّ حقّ."
و أمام تمسّك أميّ بموقفها و عجزه على إقناعها، كان أبي لا يملك في كلّ مرّة إلاّ أن يلوّح برأسه مغلوبا على أمره، صارفا نظره عنها إلى الطّعام.
و ذات غداء رأيت أبي يتهجّى وجهي خبز الطاجين قائلا و على ثغره ابتسامة استحسان
و استلطاف : " أنا الهادي زوج سلمى. أنا سلمى زوجة الهادي «. و ما زادني يومها
يقينا من أن ذاك الخطّ المحفور على ذلك الرّغيف هو خطّ أمّي دالها الكبيرة في
"الهادي" و سينها المذارة في "سلمى" . ساعتها خاطبنا أبي أنا و أخي الأكبر في
مزاح بريء: " يبدو أنّ أمّكما لم تعد تكفيها الكراريس لتعلمّ الكتابة فانتقلت منذ
أيّام إلى الحيطان و الخبز، و أخشى ما أخشاه أن تتّخذ في الأيّام القادمة من ثيابنا
مساحات للهادي و غيره من الأسماء التي يتضمّنها كتاب القراءة..."
فما كان من أمّي يومها إلاّ أن ردّت عليه بحبور و تطلّع إلى المستقبل:
- سأملؤها الدنيا حروفا و أسماء و أرقاما.
- صدّقا، الآن، أنّ تخوّفي كان في محلّه. ماذا تنتظران ؟ هيّا بنا نحكم غلق أبواب الخزانة على ثيابنا.
و ما كاد أبي يكمل كلامه حتىّ انخرطنا جميعا في ضحك نقيّ و لذيذ لذّة طعم خبز الطّاجين مغموسا في مرق جلبّانة ذلك اليوم. و كادت الأيام الموالية أن تثبت صدق مخاوف أبي، فقد جدّت أميّ في البحث عن فضاءات أخرى تلبّي لها رغبتها المحمومة في نسخ الحروف و الأسماء و الأرقام بأكثر رحابة . و لسنا ندري هل كانت أبواب و شبابيك منزلنا البرّاقة ستبقى سالمة إلى الآن من صولات طباشير أميّ لو لم يعجّل أبي باقتناء سبوّرة وضعها تحت تصرّفها. و بذلك تكون أميّ قد وجدت ضالّتها في فضاء رحب تسهل الكتابة عليه كما يسهل تجديده متى شاءت عن طريق المحو.
لو رآها أحدكم في أويقات فراغها و هي تمسك الطبشورة بيد و الطلاسة بأخرى و قد ابيضّت ناصيتها و ما تبقّى من وجهها بنثار الطباشير، لخال نفسه أمام طفل في أيّامه الأولى بالمدرسة. ولإفراطها اليومي في نسخ نفس الأسماء على السبورة و الكراريس، و لشدّة تغلغلها و تفكيرها قبل النوم، في شخصيات كتاب القراءة، حدث أن زارها ذات منام "الهادي" الفلاح شخصيا.
ما لكم شخصتم بأبصاركم استغرابا ؟
ماذا لو قلت لكم أيضا إنّه حادثها و حادثته ؟
في البداية، تأمّلته أميّ، و لمّا تأكّدت من أنّ ملامحه هي نفسها التي تحملها صوره المنسوخة على كتاب القراءة، راحت تكثر من الترّحاب به و التعّبير له عن مدى احترامها و إكبارها لشخصه الكريم. وتذكر أيضا أنّها بمجرد أن سألته عن أحوال الجرّار و ابنه "سامي" و ابنته "مريم" و زوجته "سلمى" راح يسرد عليها أخبارا كانت تتضمّنها نصوص القراءة قائلا: ".. زوجتي سلمى هي الآن تشتغل بالصّوف تصنع منه أغطية.
ديك دجاجتنا حقنته سلمى الدواء.
نظّم مدير مدرستنا الريفيّة سفرة إلى مدينة الكاف فباعت "سلمى" الديك و فولا شارك "سامي" و"مريم" بثمنهما في الرحلة."
و هنا قاطعته أميّ سائلة:
- و هل شرعت بعد في حفر البئر ؟
- غريب أمرك ! كيف لم تصلك إلى الآن أخبار الانتهاء من الحفر ؟ إنني الآن ، يا سيدتي ، بصدد استغلال مائها في ري الفول . بالمناسبة شكرا لـ: " المهدي " و "محمد" و "محمود" و "حسّان" و"بسام" و "سلاّم". ما كانت تقوم للبئر قائمة لولاهم.
- معذرة السيد "الهادي" مازلنا في الوحدة الأولى و هذه المعلومات ربّما تكون في الوحدة الثانية. سأتولّى التأكّد من ذلك بنفسي بالرّجوع إلى كتاب القراءة .
وقبل أن يستأذنها في الانصراف إلى مواصلة فلح أرضه، استوقفته مستفسرة:
- و لماذا لم يأت معك "صالح" ؟
- و من "صالح" هذا ؟ إنّني لا أعرفه.
- كيف لا تعرفه ؟ إنّه الميكانيكي زوج "حليمة" و صاحب الورشة، و جارك في كتاب القراءة.
لكنّ "الهادي" حرّك رأسه بالنفي، ودون اكتراث استدار مبتعدا بشعر رأسه المتجعّد و شواربه الكثة و قامته المربوعة. و ما إن همّت أميّ بأن تستوقفه من جديد حتى هبّت من نومتها هاتفة باحتجاج : لاتقل ، أيضا ،إنّك لا تعرف معلّمتنا فأحتار أكثر و أكثر..
هذا الحلم جعل أميّ في الأيام الموالية تنتقل إلى الوحدة الثانية من كتاب القراءة لتعرف بقية أخبار شخصيات النصوص.
لا أعرف ما الذي صار يحدث لأمّي كلمّا تقدّمت في إنجاز واجباتها المدرسية، كلّ ما أعرفه أنها كانت غريقا، و الدروس أملها في النجاة، و محال أن يفرّط الغريق في المنقذ قبل الوصول إلى شاطئ الأمان.
أرأيتم كيف أصبح التعلّم بالنسبة إلى أميّ مسألة حياة أو موت ؟
و الآن ماذا لو جزمت لكم بأنهّا نجحت أيضا في صقل طباعها و إغناء شخصيتها. هل تصدقونني القول ؟
أؤكد لكم أنها لم تعد تلك التي كنت أعرفها.
خطواتها مثلا صارت ثابتة، منتظمة، تماما كخطوات عسكريّ.
أمّا تلك الحركات و السكنات و الكلمات التي كانت تأتيها سابقا كيفما اتّفق، فلقد صارت متأنّية، ومحسوبة و رشيقة أيضا.
و إن شئتم أطلعتكم على عيّنات من الفصحى التي أصبحت تسيطر على خطابها اليومي.
أذكر لكم منها عبارات مثل: "لا شكر على واجب " و "تفضل" و "المعذرة " و "آسفة" و"اسمحوا لي" و "إنّي أخالفك هذا الرأي".
ما لكم تفركون آذانكم غير مصدّقين ؟
ما عاد يستعصي على أميّ أمر منذ انقشعت عن عينيها غشاوة قالت إنّها كانت تحجب عنها محتويات اللافتات واليافطات ، ووجه الدّنيا الجميل ،وتضيّق عليها أرض الله الواسعة.
يبدو أنّكم ستأخذون في حكاية «الغشاوة" هذه و تردّون، تماما، كما فعل أهل الحي همسا وجهرا:
"ما بال هذه الغشاوة لم تنقشع عن أبصارنا مثلما انقشعت عن بصر "أم الهناء" ؟ إن كان ذلك من أجل عينيها فعيوننا أجمل و أوسع". علقت ثلّة من زميلاتها مغتاظات.
"... أعطينني ابنا متعلما كابنها و سبورة كسبّورتها أقرأ لكن ، بعد شهر ، كتابا و جريدة " – ردت عليهن كهلة محاولة إعدام كدّ أميّ و جهدها الجبّار.
و لم يشذّ العطّار عن أهل الحي إذ قال هو الآخر كلمته لكن بأكثر صدق و غنائية:
"... و يحي أنا من العجوز "أم الهناء" تعلّمت القراءة و الحساب !؟
أمّا أبي فلقد حكّ ذقنه و قال بهدوئه و رصانته المعهودين محاولا تلخيص المسألة و تبسيطها:
ـ "نبوغ متأخّر"
هذا الهدوء، و تلك الرصانة لم أجد لهما أثرا في حركاته و سكناته يوم نجاح أمي .
كان من الواضح يومها أن الفرح قد برّح به فصار لا يدري ماذا يفعل أو ماذا يقول.
لقد بدا لي و أنا أتأمّله ، تارة ، طفلا مفروحا يخشى عتب الشيخوخة إن هو أطلق العنان كلية لمرحه ، وطورا ، شيخا يتماسك مكرها عن المراح خوفا من تشهير الطّفل به .
و بين هذا الطفل الذي استيقظ بداخله ووقار المشيب ، رأيت أبي في ذلك اليوم ، يتشتّت بل يضيع.. مرتبك الخطو و الحركات كان. يستقبل هذا. يحيّي ذاك. يهرول بحثا له عن كرسيّ شاغر. يرجع بيدين فارغتين و قد نسي عمّا كان يبحث. يرسم بشفتيه ابتسامة امتنان لمهنّئ آخر. يفتح له قارورة مشروب غازي. يلتفت متقبلّا التّهاني من قادم آخر كما لم يتقبلّها منه يوم حصولي على شهادة الباكالوريا بامتياز. يغادره إلى إحدى زميلات أمّي يلتمس منها زغرودة متوهجة. يتقهقر ليثني مرّة أخرى على العطّار وبه عجز على إدراك سرّ توبته الفجائية. يهرول إلى الباب يفتحه. يصافحه القادم بقوة قائلا: "مازالت بخير يا شيخ.." يردّ عليه متستّرا بستار المزاح: " أخطأت العنوان .. إنيّ مازلت شابّا. أنظر.." . ينط نطتين جبّارتين برهانا على زعمه. يقهقه بطيش. يتذكّر العيون. يزدرد ما تبقّى من القهقهة. يفتل شاربيه مسترجعا وقاره المسروق. و في زحمة الفرح ينطلق من جديد.
هذه صورة مقتضبة عن تبريج الفرح بأبى ، في ذلك اليوم ،رغم إجهاد نفسه حتى يبدو للعيون طبيعيّا.
فعل به الفرح ما فعل و هو الذي سلّم، منذ الشهر الأوّل، بنجاح أمّي بملاحظة: "جيّد جدّا"، فكيف لو كان هذا النجاح مفاجأة ؟
لست متعجّبا ممّا آل إليه أمره، في ذلك اليوم، لأننّي لم أكن بأحسن حال منه، فمهما حاولت أن أتذكّر فلن أستطيع أن أصوّر لكم الحالات المختلفة لذلك الفرح الغريب الذي تملكّني أمام رقصة أمّي تلك و هتافها ذاك.
و حتّى و إن استطعت، فسأجد نفسي مضطرّا إلى أن أترك لكم فرصة تجريب ذلك بأنفسكم عندما تفتح المدارس في أحيائكم أبوابها لتعليم الكبار.
هل مازلتم متعجّبين ؟
ألم أقل لكم، منذ البدء، إنّ مثل الذي وقع في بيتنا من المنتظر أن يقع أيضا في بيت كل واحد منكم، في الأيام القادمة، متى توفرت له الظروف الملائمة؟ . فانتظروها "أم الهناء" إذن في أحيائكم.
قادمة هي إلى كل بيت من بيوت البلاد و هي ترقص على ساق واحدة رقصة الأطفال، رافعة رايات النصر، هاتفة هتافا لا يناسب سنّها المتقدمة: " نجحت يا ولدي !.. نجحتُ يا ولدي !"