فلتسقط الجدران

محمد ملوك /مغرب

[email protected]

خرج من مقر عمله اليومي ، قرر أن يصلي الجمعة في مسجد " الوزارة "، أنصت للخطبة بإصغاء يغازل نوما يتسلل نحو الجفون ، تمعن في كلمات الإمام ، فسخر من أميته اللاذعة وجهله الخارق ، أمّن خلف دعاء المأموم ، وقبّل  كفيه بعدما مسح بهما جبينه وأطراف وجهه الأسمر ، ثم خرج ليتزاحم مع الناس على اجتياز الباب الرئيسي للمسجد ، وفي الخارج اختلطت عليه الأصوات : باعة هنا وهناك ، ومتسولون ومتسولات يحتد بينهم التنافس للظفر بدريهمات الكرماء ، يلتفت يمينا ويسارا ، يبحث عن شيخ ناهز الستين من عمره ، كان قد أوصاه بإحضار اللبن له قبل أسبوع ، الشيخ يخلف وعده ، والكسكس اللذيذ المهيأ بأصابع زوجته الوفية سيحكم عليه بالإبتلاع دون لبن ، يلعن الزمن الذي فشت فيه آيات المنافقين ، يجر تلابيب جلبابه الصوفي ويتجه نحو أقرب محطة للحافلات كي يعود إلى أحضان أسرته .

<< صدقة لله يا محسنين >>

<< صدقة لله يا محسنين >>

يتأمل الصوت جيدا ، ذاكرته تعرف هذا الصوت الأنثوي الرخيم ، لا يمكن لها أن تخونه أبدا ، كيف وهي القوية الحفظ منذ أيام الصبا ، يلتفت نحو مصدره ، إمرأة تلتحف السواد وتفترش الغبراء ، يجلس بين رجليها طفل صغير يعاكس طفلين آخرين يحومان حول ظهرها ، يقترب منها تغطي على جناح السرعة وجهها بنقاب أسود وتتمتم : صصصصصصدددددققققققة للللله ييييياااا مممححححسسسنننيين .

ـــــ من تكونين يا أمة الله ؟؟؟

صوتك مألوف

ألست زوجة "عبد الفتاح" ؟؟؟

نعم أنت بالتأكيد كذلك

هذا " مراد " إبنه الأكبر ، وذاك " فؤاد " الوسيم ، وهذا " عماد " آخر العنقود فأين أبوهم ،ماذا جرى ؟؟؟ ...

وقبل أن تحرك شفتيها بجواب يشفي غليله ويخفف هول صدمته ،سأله " عماد" :

<< عمي " أسامة " أين أبي ؟؟؟ منذ آخر زيارة لك عندنا في البيت وأمي تقول إنك وأبي سافرتما للخليج ، فمتى عدتما وأين أبي ، ... ماما ماما أريد أبي أريد أبي ...>>

تنهره أمه وتأمره بالتزام الصمت ، وقبل أن يبتلع هو غموض جواب الطفل الصغير تنزع هي عن وجهها الفاتن نقابا لطالما اعتبرته عنوانا كبيرا لتخلف المرأة وشهادة بارزة على ظلم التقاليد والعادات :

<<  إنه في مكان ما يا " السي أسامة " ... مكان لا نعرف حدوده ولا ندرك أبعاده وليس في مقدورنا الوصول إليه ولا السؤال عنه ، قالوا عنه سجن ، وقالوا إنه معتقل فوق الأرض ، وقالوا إنه حي ولكن بدون حياة >>.

يسترجع ذكرياته الماضية فيتذكر آخر لقاء جمعهما في بيته ، كانت زخات المطر تدعو عشاق الليل إلى سمر يدفئ الأجساد المكتوية بقرِّ الصقيع القارس ، لعبا معا لعبتي " الضاما " و" الكارطا " وناقشا تصريحات وزير المالية وأسباب العجز الإقتصادي الذي تمر به الدولة ، تجادلا حول فتوى إرضاع الكبير وأعراس اللواطيين وزواج السحاقيات قبل أن يختما تسامرهما بنكت أضحكت زوجة كل واحد منهما على حدة .

كان ذلك قبل خمسة أشهر مضت ، ومنذ ذلك الحين والظروف اليومية تحول دون مسامرة جديدة بينهما ، ومنذ ذلك الوقت وصوت أنثوي في ريعان الشباب يردد على مسامعه " إن مخاطبكم خارج التغطية  "  .

ــــ لطالما حذرته من تقديم الشيكات بدون رصيد ، لكن رأسه كالحجر الصلب ، لا يستمع لنصائح الغير ولا يهتم إلا لرأيه والنتيجة كما ترين هي...

<< لا لا " آسي أسامة " زوجي عبد الفتاح فتح الله عليك ووقاك من شر أسود الرأس اعتقل على خلفية تفكيك شبكة إرهابية >> .

ـــــ ماذا ؟؟؟

<< نعم كما سمعت ، فقد كنا في تلك الليلة الشتوية نلوك أطراف الحديث ، ونلاعب أطفالنا ، وفجأة سمعنا طرقا مخيفا على الباب ، وقبل أن يقوم هو من مجلسه لمعرفة هوية الطارق ، كسرالباب وتدفقت علينا أنواع وألوان الأجهزة الأمنية فقلبوا الدار رأسا على عقب ، وفتشوا جيوبنا الواحد تلو الآخر ، ونقبوا في كل شبر خفي وظاهر ، ومزقوا كل وسادة وسرير ، وحفروا كل حائط ساورهم الشك في أمره ، فلما لم يجدوا شيئا يدينه ، أمروه بنزع ملابسه الداخلية للتحقق منها ، وأجبروني على كشف ما بين ثدياي وفخداي ، فلما أبى واستنكر واستشاط غضبا من فريتهم قيدوه بالسلاسل ، واقتادوه نحو وجهة لا يعلمها إلا الله عز وجل ... وقطع راتبه الشهري ، وجاعت العيال ، وكثرت علي المطارق ، فصاحب الدار يطلب أجرة الكراء ، واللوازم المدرسية تنخر الجسد والجيب معا ، والبقال وغيره حرموا الطلق بعدما نفذ صبرهم أمام عجزي ، وأنا كما تعلم مقطوعة الشجرة شأني شأن زوجتك لا معيل لي إلا الله سبحانه وتعالى ، ولأن الحرة تجوع ولا تزني ، خرجت إلى هاهنا متسولة على باب الله بعدما جاءتني أخبار أكيدة تحرم علي نشوة الحلم بالإلتقاء من جديد مع زوجي الحنون >> .

أحس بالظلم يمزق أوصاله ، وبالرعدة والقشعريرة تعبران إلى فرائصه ، فحوقل وحسبل ولعن النظام ومن يسيره ، ثم أخرج ورقة نقدية زرقاء من جيبه ودسها بين أصابع الولد الذي يجلس بين رجليها ، وأخبرها أنه وزوجته ومنزله رهن إشارته وقتما تشاء .

إستقل الحافلة بعد طول انتظار ، بحث عن مقعد شاغر ليملأه فلم يجد إلا طابورا من المصطفين والمتزاحمين ، هذا يدفع ذاك ، وذاك يتحرش في صورة وضيعة بامرأة بلغت من الكبر عتيا ، وآخر تختلط رائحة عرقه وإبطه برائحة دخان الحافلة ليشكلا في ثنائية فريدة ريحا صرصرا عاتية تزكم كل من يقدر على ارتكاب جنحة الزفير والشهيق في تلك الساعة من الظهيرة .

تتمايل الحافلة وتكاد تنقلب من شدة ثقل الراكبين وسرعة السائق ، يتحسس جيبه في محاولة لأخراج دراهم تكفي لثمن التذكرة فتلامس يده فخده المكتنز شحما ولحما ، يفقد أعصابه بعدما يلاحظ أثر تمزق جلبابه وسرواله بشفرة حادة على حين غفلة منه ، يتذكر شريط " إحنا بتاع الأتوبيس " ويبتسم ابتسامة المنهزمين ثم يحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه على عدم اصطدامه بالمراقبين المتخصصين في تشويه جمالية سمعة المتملصين من أداء واجبات التذاكر الأتوبيسية .

يصل إلى الشقة التي اكتراها عقب تزوجه بـ " أمينة " ، الشهية تنعدم شيئا فشيئا ، يقرع الجرس فيهرع أبناؤه الخمسة لفتح الباب ، يعانقهم ، يقبلهم ويعتذر لهم ولزوجته على التأخر وعلى رجوعه من عمله بخفي حنين خلافا للعادة ، يتناول الكسكس على مضض ، ويستلقي فوق أريكة بالية ، يشغل التلفاز ، ينتقل من الجزيرة إلى العربية ومن الحرة إلى المنار ومن المنار إلى روتانا فميلودي فما جاورهما ، فلسطين هي فلسطين ، دم في العراق يراق ، قمم عربية فاشلة ، أسلحة دمار شامل لم يعثر عليها ، راقصة تخجله أمام أسرته ، ممثلة لم تجد ما به تستتر ، وشاعر يردد على  مسامعه " عجوز تمنت أن تكون صبية وقد نحل الجنبان ..." .

يدقق النظر في زوجته المنشغلة بتنظيف المائدة ،  شفتاها  ملطختان بأحمر شفاه قديم ، ظهرها محدودب ولا بوصلة له ، يتساءل إن كان ثمة علاقة تربط بين عجوزالشاعر وبين زوجته التي أضاعت نصف ماله على محاربة حَبِّ الشباب وإزالة التجاعيد من على وجهها واستئصال كل شيبة ظهرت فوق رأسها .

يستل من تحت الأريكة علبة " الزرقاء القصيرة " يضع سيجارة بيضاء بين شفتيه اليابستين ، يقرأ : التدخين مضر بالصحة قانون رقم كذا وكذا ... يلعن وزارة الصحة ويدعو بالويل والثبور على مكتشف التبغ وصانعه وبائعه ، يلقي بأعقاب السجائر الممتصة خارج البيت عبر نافذة مشرعة ، ويأمر زوجته بالتحمل ، تفهم قصده فتضع نقطة تحت الحاء وتتزين له بعدما تلهي أولادها بقنوات الرسوم المتحركة ، تهتز أطراف السرير المهترئ لتخيم على غرفة النوم المحكمة الإغلاق آهات وتنهدات يصل صداها إلى مسامع الأطفال فتتعالى قهقهاتهم ويتمنون أن لو طوى الزمان أعوامه في تلك الثواني ليغلق كل واحد منهم على نفسه وعلى زوجته باب غرفة النوم الخاصة بهما.

تنتهي المعركة الحميمية ، ويسدل الستار عن فصل آخر من فصول يوم الجمعة المفضل عنده على سائر الأيام ، يلج إلى الحمام المجهز بمختلف أنواع الراحة العصرية ، يستلذ بحلاوة المياه الدافئة ، فتصرم حبل لذته صورة زوجة " عبد الفتاح " وهي تتسول بأبنائها ، يشكك في حقيقة تحول صديق عمره من مدمن على خيول " التيرسي " إلى إرهابي يروع أمن المجتمع ويسعى لقتل الأرواح وهو الذي لم يستطع في يوم من الأيام ذبح ديك " رومي " ، يزداد شكه ويأبى تصديق الأمر فيلعن أم الأجهزة الأمنية في سره ، ويسب بالجهر خفافيش الظلام ويشتم بالعلانية كل المسؤولين على ماجرى في بلده ، يكسو عظامه بصابون " الحجرة " وقبل أن يزيل الأوساخ الملتصقة بجلده يسمع طرقا غريبا على الباب ، الأصوات تقسم ظهر الصمت ، وبكاء الأطفال يرتفع إلى عنان السماء ، والدار تقلب رأسا على عقب ، يقطع على نفسه خلوة الحمام ، ويتهيأ للخروج بحذر وذعر شديدين :

<< قف مكانك ... لا تتحرك وإلا سنطلق النار >> .

سحبوا " الفوطة " من خلف حزامه فانكشفت عورته أمام أسرته ، سخروا منه ومن خجله الذي لون خده الأسمر بحمرة حارة جدا ، ثم بدأ الإستنطاق :

<< أتلعن النظام يا ابن السوداء . . . من هو زعيمكم  . . . تكلم  . . .لا داعي للإنكار  . . . أنحن خفافيش ظلام يا أيها الشاذ المتخنت . . . >>

ـــ لا والله العظيم أنتم الكل في الكل

<< أتكذبنا . . . أتشك في رواياتنا  . . . أترتاب من عدلنا  . . . أتتهمنا بالظلم  >>

ــــ لا وحق الله ما شككت البتة في أمركم أو في روايتكم .

<< الجدران تشهد ضدك  ... والصابون يقر بجرمك ... والبهو سجل كل كلمة خرجت من فيك فعلام النكران يا ابن الزانية ... هيا من ينظمكم ... من يمولكم ... من معك ... من ومن ومن ...>>

أقسم بالله جهد أيمانه أنه بريئ ، إرتفع صوته بالمبايعة والمباركة للسلطان على عرشه ، أخبروه أن الجدران لا تكذب ولما لم يجدوا معه اعترافا مباشرا  جردوا زوجته من ثيابها وسلبوها ملابسها قطعة وراء قطعة في محاولة للتأثير عليه ، لم يحتمل الأمر ، عض الذي بيمينه عضة أطارت اللحم من ذراعه ، وبشفرة حلاقة حادة احتفظ بها عقب خروجه من الحمام ترك توقيعه الخاص على وجه الشرطي الواقف بيساره ، فأطلقوا الرصاص على رجليه ليشلوا حركته ، وبعد فترة قصيرة قضاها بالمستشفى العسكري حكمت المحكمة عليه حضوريا بعشر سنوات سجنا نافذا بتهمة الإنتماء لجماعة إرهابية وإلحاق الضرر بالسلطات المحلية ومحاولة زعزعة النظام والتشكيك في رواية رسمية .

عرف السجن وماذا تعني غياهبه ، فاعتبر ما وقع قضاء وقدرا وابتلاء لا يجوز معه إلا الصبر والإصطبار ، فانقطع عن التدخين  ، وتصوف ليزهد في الدنيا بما رحبت ، وشهد له الكل بحسن السيرة والسلوك ، وقررت الإدارة بعد دراسة ملفه تخفيف الحكم عليه ، فأطلق سراحه بعد سبعة أعوام مضت على يوم اعتقاله ، وتنفس الصعداء خلف باب السجن ، وأسرع الخطى ليصل إلى منزله قبل صلاة الجمعة وكله شوق وحنين لضم زوجته التي انقطعت أخبارها عنه مباشرة بعد خروجه من المستشفى ، وأذن المؤذن للصلاة ، وأنصت بإمعان لخطبة الإمام ، وقبل أن يسخر من أميته اللاذعة وجهله الحارق تذكر بنود وشروط محضر إطلاق السراح ، فصلى من غير أن يسخر من شيئ محدد وأمن على دعاء المأموم وتنافس مع الناس للخروج من باب مسجد الوزارة ، واختلطت عليه الأصوات لكن صوتا واحدا من بينها شد انتباهه فالتفت نحو مصدره فإذا هو بامرأة تلتحف السواد وتفترش الغبراء ويجلس بين فخديها طفل في الثامنة من عمره ، إقترب منها ، فقامت لتضمه بقوة إلى صدرها لكنه وقف مشدوها لهول ما رأى .

أخبرته بأن صاحب العمارة طردها وأبناءها بعد تراكم الديون عليها ، وأن إدارة عمله امتنعت عن صرف راتبه لها وأن أولادها ضاقت بهم السبل فمنهم من قضى نحبه تحت تأثير المخدرات ومنهم من ينتظر في سجون الأحداث.

أنصت لها بتحسر وحزن يمزق الأكباد فسب أم النظام أمام العامة ، ولعن خفافيش الظلام بالجهر وأسقط عن نفسه جدران الصمت ، ثم أمرها بأن تمكث حيث هي إلى حين عودته من مشوار يصلح فيه ما أفسده القضاء البشري .

ظلت تنتظر وتنتظر ، طال المشوار ، وغاب الزوج مخلفا لوعة غريبة تتجول في ربوع نفسها الكئيبة ، وبعد صلاة العشاء تجمع المصلون في حلقات جماعية ، فتحدثوا عن أشياء وأشياء ، وأشاربعضهم بأصبعه نحوها ، استرقت السمع فجاءها الخبر اليقين :

لقد بحث " أسامة "عن أعلى جسر في المدينة ، وجمع قدامه أكبر خلق ممكن ثم قفز باتجاه الأرض الصماء وهو يردد في نبرة ممزوجة بالدموع :

فلتسقط الجدران

فلتسقط الجدران

فلتسقط الجدران.